مغادرة
اهتزت عربات القطار بفعل تشغيل المحرك الرئيسى..الرصيف المزدحم بالأرجل اضطرب ..إحتضن أحدهم الآخر مودعاً وهو يهمس فى أذنه موصياً ..قبّل آخر طفلًا صغيراً تعّلق برقبته باكياً رافضاً أن يدعه يمضى..اشارت سيدة ذات معطف أسود يمتد بامتداد براح جسدها السارح الى ماتحت ركبتيها بيدها المغضنة ذات العروق النافرةلآخر يتحرك بظهره ناحية القطاروهو يرمقها من خلف سحابة المياه المتجمعة فى مآقيه الشابة مصّراً على عناق النظرات لآخر مدى ..وقف الى جوارباب المقطورة الأولى شاب نحيل القوام مثلث الوجه له عينان عميقتا الغور شديدتا سواد الحدقات محاولاَ التماسك،وكفاّه ملتصقتان بكفىّ فتاة عسلية العينين شعرها الأسود منكفىء على ظهرها ،وهى تحبس دموعها بالكاد وتتحدث بسرعة غير مبالية بألم كفيها من اعتصاره لهما، وعلى باب المقطورة الأخيرة كانت إمرأة بجلباب باهت الإخضرار تنزل طستاً من الألمونيوم كبير، به جبن وزبد وبيض من فوق رأسها وتدفع به الى الباب المفتوح، طالبة ممن حولها أن يساعدوها لدفعه ناحية الباب المغلق فى الجانب المقابل،وخلفها طالب يحمل كتبه مغادراً الى كليته ..وبين المسافة بين المقطورة الأولى والأخيرة تقريباً وعلى مقعد من المقاعد الحجرية المنتشرةعلى الرصيف كانت إمرأة ترتدى جلباباً أسود يعلوه غطاء رأس بذات اللون به ثقوب ،ينفر من بينها شيب شعرها الناصع البياض وقد التصق بعضه بجبهتها بفعل العرق المعجون بالدموع السارح عبر مسام جسدها واخزاً، وهى جالسة مربعة الساقين تنظر أمامها الى حيث لاتدرى ،منادية من خلال الدموع وارتجافة الصوت:
– ياسيد والأقدام حولها تسعى ..أطلق القطار صفيره مؤذناً بالرحيل ..ترك أحدهم معانقه وصعد لأعلى ..فك آخر يدّى صغيره من رقبته وسلمه لأمه مودعاً ..أدارت المرأة ذات المعطف الأسود ظهرها للقطار وأفرجت عن دموعها ،مسلمةّ إياها لمنديل حريرى صغير أودعته يدها اليمنى ..ودع الشاب النحيل الفتاة بمزيد من الضغط على كفيها ..وقفت المرأة ذات الطست محاولة الألتصاق بالباب المغلق خوفاً من كلمات مفتش القطار ..أخذ الطالب ركناً بعيداً أسند ظهره اليه وكتبه فى يمينه وعينيه على وجه فاتنة تجلس أمامه ..تحرك القطار مغادراً ظلت المرأة ذات الجلباب الأسود مكانها على المقعد وسط الرصيف الذى خلا من الناس على المقعد الحجرى تنظر أمامها بذات النظرات التائهة من خلف الدموع المعجونة بالعرق وهى تنادى بصوت مشروخ :- ياسيد