مغامرات رهو
أين أنا، كيف تغير الكون من حولي فجأة، هكذا تحدث رَهْو إلى نفسه، حين تفتحت عيناه ورأى ضوءًا غزيرًا. رَهْو حلو الهيئة، وله وجه لا تستطيع أن تنساه أبدًا، يعدو كأمهر فرس رغم صغر سنه، وأجنحته ألوانها خلابة، وتجعله شديد الخفة حين يبسطها ويطير في شموخ، يهوى السباق مع الأحصنة ومع النسور، فما أجمله من حصان مجنح، تذكّر أمه كحيلة، وتساءل تُرى أين ذهبت؟!
لم يجد جوابًا واضحًا لسؤاله؛ فهو لا يدري ماذا حدث، وما جاء به هاهنا، كانت الحقول الخضراء أمامه جميلة؛ حتى كأنها تدعوه أن يمرح بينها مرحًا، انطلق يعدو وجدائله تطير يَمْنة ويَسْرة؛ حتى وصل لحافة مُلوّنة بألوان الزهور المختلفة، فوقف عندها يتأمل السماء، ويلتقط بعض أنفاسه منتشيًا بروعة الرحيق، ثم تذكّر ثانية أمه كحيلة ووالده بحرًا ورفيقيه حيزوم والهملج اللذين يحبهما كثيرًا، ويقضي معهما يومه يلعبون، وبينما هو شاردٌ ظهر فجأة ضوء قوي، ولاح طائر ضخم ذو ألوان لامعة وجميلة جدًا، وقال له:
السلام عليكم، كيف حالك يا رَهْو؟
تعجب رَهْو جدًا، فهو لم يرَ من قبل طائرًا بهذه الضخامة، بل ويتحدث بلغته؛ فبادره قائلاً: كيف تتحدث بلغتي؟
أجابه الطائر (برق) قائلاً: أنا لست بطائر عادي كما تراني، فأنا أجيد التشكل كيفما أحب، وأردت التشكل لك بشيء تحبه، وأعلم أن هوايتك أن تسابق النسور يا رَهْو، أليس كذلك؟
زاد تعجب رَهْو ثانية، وقال: وكيف تعلم اسمي؟ بل كيف تعلم ما أحب أيضًا؟
أجابه برق: أنا أعلم أشياء كثيرة أيها الفرس الوليد، فلتنادِني ببرق، والآن فلتسألني ما هو أهم.
تمتم رَهْو: وما هذا الأهم أيها البرق؟
الأهم هو أن تسألني لِمَ ظهرت لك من الأساس؟ وما فائدة ذلك لك؟
قال رَهْو: حسنًا، أخبرني لِمَ؟
أجاب برق: حاول أن تفهمني يا رَهْو، نحن كائنات يجوز أن تراها معمرة، أي نعيش طويلاً جدًا، فعمرنا مئات السنين، ونرى من كل الكائنات بتنوعها من هو طيب ومن هو خبيث، من يحافظ على روحه الطيبة، ومن لا يهمه ذلك، ونحب فعل الخيرات، ولنا أيضًا الكثير من القدرات الخارقة، وكل فترة من الزمن، نتخير كائنًا طيبًا مثلك، ونعطيه فرصة مميزة جدًا.
قال رَهْو: وما هي؟
أجاب برق: مصباح سحري، لديه قدرتان: أولاهما: تحقيق أمنية، وثانيهما أن يختصر الزمن عليك مرة.
تساءل رَهْو: ما معنى اختصار الزمن؟ وما فائدة ذلك؟
ضحك برق بصوت مجلجل قائلاً: تعجبني فطرتك يا رَهْو؛ ولهذا اخترتك، أن تختصر الزمن تعني أن تهرب من الشعور بحدثٍ لا تحبه، مثل أن تكون قلقًا بشأن امتحان ما، أو مرض شخص تحبه مثلاً؛ فتطلب من خادم المصباح السحري هذا أن يختصر هذا الزمن الذي يزعجك؛ فتجد نفسك في الزمن الذي يليه، وتجد هذا الوقت الذي لم تحبه بما فيه من قلق وتوتر وخوف مضى في سرعة شديدة.
أجاب رَهْو: حسنًا، الآن فهمتك يا برق، لكن لديَّ سؤال وطلب؟
برق: تفضل.
رَهْو: أين ذهب أهلي يا برق؟
برق: الذي يحدث الآن بيني وبينك فقط، وأردت أن تعلم فرصتك هذه بعيدًا عن أي شخص أو شيء قد يؤثر عليك، وإن أردت العودة فبإمكانك استخدام أمنيتك الآن، أو بإمكانك أن تشاهدهم عن بعد، وتشاهد تفاصيل حياتهم كلما أردت لحين تقرر ماذا تريد بعد ذلك أن تبقى هنا أو أن تستخدم أمنيتك للعودة؟
رَهْو: حسنًا.
برق: وما الطلب؟
رَهْو: أطلب نصيحتك، فأمي وأبي ليسا بجواري الآن، ما نصيحتك فيما يخص استخدام فرصتي تلك؟
برق: الصبر الصبر يا رَهْو، وأيضًا أن تدرك أن ليس كل شيء ظاهره كباطنه، وعلى أي حال، التجربة خير معلم، يا صديقي الصغير.
رَهْو: حسنًا، وماذا سنفعل الآن؟
برق: ستعيش معنا في مدينة الأحلام هنا، وتشاهد كل من تحب عن بعد، وستأكل أشهى طعام، وتجد كل ما يسلي وقتك، حتي يحين الوقت الذي تقرر فيه استخدام أمنيتك للعودة لعالمك أو استخدامها في شيء آخر والبقاء معنا للأبد.
رَهْو: حسنًا، أريد أن أتناول طعامي وأنام .
برق: لك ما تحب.
في ثوانٍ معدودة نزلت أشهى مائدة من صنوف الطعام من السماء، تعجب رَهْو، وجلس ليأكل كل ما يحب، وذهب بعدها في نوم عميق.
(٢)
نهار جديد، والسماء في مدينة الأحلام تلونت بضوء الشروق، وغردت الطيور في تناغم جميل، استيقظ رَهْو، فرك عينيه، تذكر ما حدث بالتدريج، ثم نظر حوله، لم يجد أحدًا، تساءل هل هو حلم؟ نادى حتى يجرب بصوت عال: أين أنت يا مصباحي السحري؟ فوجده خلف حقيبته يهتز، وظهر له طير جديد، ألوانه جذابة للغاية، ولكنه ليس بضخامة البرق، وقال له: صباح الخير، أنا روان، بخدمتك يا رَهْو، تمنَّ ما تشتهي، وستجده حاضرًا بإذن الله.
فكّر رَهْو قليلاً، ثم قال: لم أستطع بعدُ تحديد أمنيتي، لكن أريد أن أرى أمي كحيلة وأبي أيضا، من فضلك.
شهق روان في الهواء شهقة عالية؛ فانفتح بين طيات الهواء شيءٌ ما يبدو كشاشة عملاقة، وبدأ رَهْو يشاهد أهله، دق قلب رَهْو بصوت عالٍ، وبدأ يراقبهم.
فرأي والده بحر وهو يحاول جعل أمه كحيلة تهدأ؛ كي تنام ولو بضع ساعات، فيبدو أنها بالكاد تأكل وتنام منذ اختفاؤه عنها، زفر بحر بضيق، وقال: هذا كله بسبب تهور رَهْو يا كحيلة، فهو عنيد يهوى أن يسابق النسور، لا الخيول فقط.
كحيلة: ولدي حي، يا بحر، قلبي يشعر به، لا زال قلبه نابضًا، لكن عيني تأبي النوم قبل أن تراه.
دمعت عين رَهْو حين سمع كلمات أمه المؤثرة، ثم فجأة وجد أمه تقول: فقط أتمنى أن أراه؛ فأنام قريرة العين ثانية.
تأثر رَهْو بما سمع ورأى، اشتاق أن يعود لأهله، وفكّر أن يستخدم أمنيته تلك في الرجوع إليهم، ولكن تذكر نصيحة برق بالصبر في استخدام فرصته، ثم تذكر رفيقيه حيزوم والهملج، وطلب من روان رؤيتهما أيضًا؛ فلقد اشتاق لهما كثيرًا، كرر روان الخطوات نفسها، وانفتحت الشاشة مجددًا.
حيزوم: قلبي حزين على فراق صاحبنا رَهْو.
الهملج: أما أنا فلست منزعجًا لهذا الحد؛ فرَهْو شخص عنيد وقوي، ودائمًا ما ينتصر في أي سباق، فهاهي فرصتي الآن؛ كي أفوز أخيرًا، بل أتمنى ألا يعود، وتنساه عشيرتنا.
حيزوم: لِمَ كل هذا الحقد؟! فرَهْو قلبه طيب، ومهارته مميزة لحد كبير، ولكن ليس لحد أن تنافقه؛ فتقول كلامًا سيئًا في غيابه، وتتظاهر بحبه في حضوره يا هملج، هذا خلق سيئ، لقد انخدعنا فيك.
أخذ رَهْو يبكي ويبكي، فلقد كان يعتقد أن الهملج هو من يحبه أكثر من حيزوم من كثرة ما يقول له من كلام معسول، وكان رَهْو أيضًا يحبه أكثر من حيزوم، فلكم كان مخدوعًا في المظاهر.
مر يومان ورَهْو يبكي بحرقة أغلب الوقت، أشفق روان على رَهْو، فهو لم يأكل منذ فترة طويلة، ووجد لديه حزنًا وشحوبًا؛ فقال له: يا بني، هذا صديق خسارته مكسب، وفرصتك تلك أن تراه وتعلم ما يكتم بداخله كانت من توفيق الله لك، اعلم أن الأمر محزن، لكن صبرًا، بُنَيّ؛ فكل حزن يمر نتعلم منه حكمًا ودروسًا.
رَهْو: أريد أن يمر هذا الوقت، اجعله يمر، أريد أن أنسى حزني هذا، لكن لديّ سؤال، هل سأنسى أيضًا ما علمته عن نفاق الهملج؟
روان: لا بُنَيّ، الألم سيزول، والحكمة منه ستبقى في داخلك، لكن نصيحتي لك أن اختصار الزمان، ولو لمرة واحدة، فرصة عظيمة صدقني، فهل أنت متأكد أنك تريد استخدامها الآن لأجل ذلك؟
رَهْو: نعم.
روان: حسنًا، لك ما أردت.
رفرف روان بجناحيه حول رَهْو في حركات دائرية؛ حتى سقط رَهْو في النوم العميق.
(٣)
رائحة عطرة ملأتِ المكان، مزيج ربيعي من الياسمين والفل والبنفسج والزعفران ينتشر في المكان؛ حتى داعب أنف رَهْو فاستيقظ، تذكر آخر ما حدث بينه وبين روان، وتذكر ما فعل الهملج، لكن دون ألم ولا حزن، وكأنه قد تعافى من صدمته، وأيام الحزن قد انتهت.
نادى على روان؛ فظهر في الحال، طلب منه أشهى طعام؛ فهو يشعر بجوع شديد، نزل الطعام من السماء كأجمل ما يكون، وأكل حتى الشبع، ثم قال:
كم مر عليَّ وأنا نائم يا روان؟
روان: أسبوع تقريبًا.
رَهْو: أحقًا كل هذا؟! حسنًا، أريد أن أرى أمي كحيلة؛ فلقد اشتقت لها، وحلمت بها كثيرًا.
نفذ روان طلبه في الحال، ظهرت النافذة المعتادة، وبدأ رَهْو يرى أمه وأباه، كان بحر يربت بحنان على جبين كحيلة، ويقول لها: سيزول مرضك بإذن الله، وتنتهي الحُمَّى، وتستعيدين عافيتك، ويعود ولدنا رَهْو، ونعود سعداء كما كنا يا كحيلة، أرجوك لا تتركيني أنتِ أيضًا.
همست كيحلة بخفوت: لا تقلق، يا بحر، أشعر به حيًا يُرْزَق.
بكى رَهْو بكاءً شديدًا، وقال لروان: هل يمكن أن تكون أمنيتي أن تَشْفَى أمي، هل يمكن أن أختصر زمن الألم عليها وعلى قلبي؟
قال روان بصوت حانٍ: هوّن عليك يا ولدي، نحن نعيش في الدنيا لا الجنة بعدُ، ودومًا ستواجهنا بعض المشاكل والشدائد، وليس دومًا في حوزتنا الفانوس السحري لاختصار أزمنة الأزمات أو تحقيق الرغبات، فبعض الأحيان بل أغلبها هناك حلول أخرى لمن يسعى حقًا للوصول إليها، فالصبر الصبر كما أوصاك برق من قبل، وها أنا أوصيك ثانية، فأنت لا تستطيع اختصار الزمن ثانية؛ لأنك أخذت تلك الفرصة؛ لتنسى ما فعله الهملج، وإذا استخدمت أمنيتك في شفاء والدتك فهذا يعني أنك لن تستطيع العودة لعالمك إذا أردت ذلك، فمن البداية وضّح لك برق أن فرصتك وأمنيتك تلك إما أن تكون في عالمنا هذا، أو تختارها لتعود لعالمك الذي تحبه أكثر من هنا إذا أردت ذلك.
همس رَهْو من وسط دموعه: حسنًا فهمت، ما عساي أن أفعل الآن، أأختار شفاءها وأشقى بالبعد عنها أم ماذا أفعل؟
روان: فلتصبر الليلة يا رَهْو، وأكْثِرْ من الدعاء يا ولدي بأن يلهمك الله القرار الصائب، فقربك من الله هو حقًا ما يصنع المعجزات، صدقني.
حاول رَهْو أن ينام قليلاً بعد أن أَكْثَرَ من الدعاء لوالدته بالشفاء، وبأن يَهْديَه الله في حيرته فيما يخص قرار أمنيته، ثم أخذ يسبّح الله، حتى غفا بالنوم.
استيقظ رَهْو، ونادى روان، فسأله روان: هل تريد الفطور؟
قال رَهْو: لا، أرني أمي؛ فقد عزمت أمري إذا لم تتحسن حالتها اليوم سأبقى هنا في سبيل شفاءها.
فتح روان النافذة، فوجدا كحيلة تجلس، ويساعدها في تناول الطعام والده، وهو يقول: الحمد لله؛ قد هدأت الحُمَّى كثيرًا، وحيزوم منتظر بالخارج لزيارتك.
قالت كحيلة: حسنًا، دعه يأتِ، فهو يذكرني برَهْو.
دخل حيزوم، وحياهما قائلاً: السلام عليكما، طبتم وطابت أرواحكما وأجسادكما.
تبسمت كحيلة، وقالت: اشتقت لك يا ولدي، كيف حالك؟ وكيف الهملج؟
تبسم حيزوم: أنا بخير، ينقصني رَهْو فقط، اشتقت له كثيرًا، أشعر به حيًا، صدقيني.
تبسمت كحيلة: وأنا أيضًا يا ولدي، وعلى يقين أن الله سيرده سالمًا يومًا ما بإذن الله.
تبسمت عينا رَهْو أخيرًا، وزاد حبه لحيزوم الذي يهتم بوالدته في غيابه، فهو نعم الصديق، ثم نادى على روان، وقال: وأخيرًا أستطيع العودة لأمي وأبي، أريد العودة الآن.
أجاب روان: أواثق أنت؟ فهنا في عالمنا كل شيء متاح بغمضة عين، كل أنواع الطعام والشراب والألعاب المسلية.
قال رَهْو: أكل العشب مع أمي أشهى من أي طعام، رؤيتها بعيني وهي في عافيتها أشهى من أي أمنية.
قال روان: كم أنت جميل يا رَهْو، لكن أخبرني ما أكثر ما تعلمته من هذه الفرصة؟
أجاب رَهْو: تعلمت من الهملج أن ليس كل ما يلمع هو حجر كريم نادر وثمين، لكن قد يكون مجرد كسر من زجاج، لا قيمة له إلا في خداع العين باللمعان؛ وتعلمت من مرض أمي أن اللجوء الصادق لله خير من ألف فرصة مميزة وألف مصباح سحري، فالله وحده من بدّدَ حيرتي، وفرّج همي، يا روان، وأشكرك على نصيحتك بالتوجه لله .
روان: سأفتقدك يا صغيري، والآن إلى اللقاء.
رفرف روان حوله ؛ فذهب رهو في سبات عميق.
(٤)
استيقظ رَهْو تلك المرة، وهو يشعر بدفء مميز، رائحة عالمه الذي تربى فيه، رائحة أمه تبدو قريبة جدًا، ذهب إليها واحتضنها، ثم قال: صباح الخير، يا أمي، أعتذر عمّا حدث، أخبريني كيف أنتِ أولاً؟
تبسمت كحيلة: تعتذر عن ماذا يا رَهْو؟ وأنا بخير، يا ولدي.
رَهْو: أعتذر عن اختفائي المفاجئ، ومرضك بسببي.
كحيلة: بُنَيّ، ما بك؟ أنت لم تختفِ، وأنا لم أمرض.
رَهْو: كيف هذا يا أمي ؟
كحيلة: ما بك، يا ولدي؟ لقد بدأ يساورني القلق، أمصاب بالحُمَّى أنت؟
قصّ رَهْو على أمه كل ما حدث بكل ما دار بينه وبين برق وروان، وكل ما رآه في الشاشة أيضًا.
تبسمت كحيلة وقالت: بُنَيّ أنت ولد طاهر، وما مررت به قد يكون حلمًا طويلاً بعث لك الله من خلاله حكمًا وأشياء مهمة؛ لتتعلمها، يا ولدي، لكني لم أمرض، وأنت لم تختفِ، صدقني، نمت لفتره طويلة فقط.
بقي رَهْو مكانه شاردًا، يتذكر تفاصيل ما مر به بالحلم، حتى مازحته أمه، هيا للإفطار، فحيزوم أتى حين كنت نائمًا، وطلب مني إخبارك أن تلحق به؛ لتتسابقا حتى المغيب كعادتكما، كم يحبك حيزوم هذا يا ولدي، يذكرني بك دوما في طيبة قلبك، ويبدو حقا وفيا لك، هيا أسرع كي تلحق بموعدك معه يابني.
تمت بحمد لله