مقارنة بين الخطب الفارسية واليونانية والعربّية
الإعداد: بشير ذوالعلي طالب دكتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة آزاد الاسلاميّة فرع(علوم وتحقيقات) طهران – ايران
الأستاذ المشرف: الدكتور حامد صدقي
الأستاذ المشرف المساعد: الدكتور محمود شكيب
-ملخص البحث
إنّ الخطابة في كلّ لغة هی إحدی الفنون الأدبية وتعد مرآة صافية لثقافة وافكار الشعوب في الأعصار المختلفة. وبملاحظة دقيقة إلی المجتمع اليوناني والفارسي والعربي ومقارنة تأريخهم وثقافتهم معاً تظهر هذه الحقيقة وهي انّ الخطابة في كلّ عصر ونسل، تحظی بالإحساس والعاطفة والحجج البالغة، وهذه الميّزات لاتنفصل عن الخطب أبداً اسلاميّةً كانت أوغيرها. والاختلاف الّذي يشاهد في خطب الشعوب هوفي صورة المعاني لا في قوالب التعبير.
الكلمات الرئيسة : الخطابة، اليونان، الفرس، العرب
-تمهيد
الحقيقة الّتي لاتنكرهي أن الانسان خلق مدنيّاً ولابدّ له أن يعيش جماعياً والوسيلة الوحيدة الّتي توصره الی المجتمع هي نعمة البيان الّذي علّمه الله تعالي، كما يقول : « الرحمن... خلق الأنسان علّمه البيان» علي ذلك نشاهد أنّ الانسان في كل زمان ومكان يتكلّم بلغةٍ تخصّ ببيئته. ويوجد نساء ورجال يأمرون فيطاعون، ويدعون فيجابون، وكلامهم ملوك الكلام. هناك سؤال : « مَنْ هم هولاء؟! » و« ما هوسحربيانهم وما هي الدقّة في كلامهم؟!». لابدّ لنا أن نجيب ونقول : إنهم من اصحاب الخطابة الّتي اندمجت في دم الأنسان، والفن الّذي خلق وعلق مع الإنسان والدليل علی ذلك أن الإنسان يحتاج اليه للإبانة عن أفكاره، والتعبير عمّا في نفسه لإقناع المخاطبين، هناك يجب علی ايّ متكلم أوْ خطيب أن يجري كلامه مجری الضوابط والقواعد الّتي يجب ملاحظُتها للوصول الی الغرض المنشود.
من ثمّ نری أنّ الخطيب وإن كان متمتّعاً بذوق سليم واحساس رقيق، ولكن لايمكنه اجتناب التعرف علی الأصول والقواعد المتفق عليها، عربياً كان أوايرانياً أويونانياً.
امّا في القرون الماضية والأدوار السالفة فقد كان فنّ الخطابه موجوداً في كل أمّة برعت فيه وكانت لخطبائهم سوق لاتكسد. منهم اليونانيون الّذين استعملوا الخطابة في دعاوي المحاكم واستمّدوا وسائلها من علم المنطق وحضّوا علی تعلمه حتّی دخل السوفسطائيون في دائرته. فأكرم الناس ورودهم في مجال التعليم لكنّهم انحرفوا عن جادّة الصواب وخلطوه بالخطأ ومزجوا الحقّ بالباطل الی أن ظهر خطباء قاموا بمخالفة افكارهم، وتفتيش عقائدهم فوضعوا معاييروقواعد لهذا الفنّ.
وامّا الخطابة في اللّغة الفارسيّة؛ ليس عندنا أخبار وحقائق تتحدث عن وضعها في القرون السابقة ولكن بعد ظهور الاسلام ومجيئ الدين الحنيف الي ايران إزدهر فنّ الخطابة وتعدّدت أغراضه حيث لم يستخدم في خدمة الاسلام فحسب؛ بل في خدمة فكر وثقافة جديدة بدأت تنموفي ظل شجرة دين الهدي ومبدأ الاسلام ويتأثر ادبهم ولغتهم وثقافتهم به تأثراً لن يمحی أبداً.
وامّا الخطابة في اللّغة العربية؛ فقد بدأت حركتها قبل الاسلام حينما تنازع البشر للبقاء، واندلعت نيران الحرب والخصومات بين القبائل المتفرّقة، وتغيّرت وتطوّرت علی مدی التأريخ خاصةً بعد أن تلألأ نورالاسلام في جزيرة العرب وتطوّرت حياتهم في شتّی الشؤون ومنها الخطابة. لأنّ هذا العهد عهد صراع فكري ثم صراع سياسّي وما هنالك وسيلة للوصول الی العقول غير الخطابة فازدهرت ازدهاراً شديداً لتوافرعواملها وشدّة الحاجة اليها.
والهدف في هذا المقال أن نتحدث عن فن لايخصّ قوماً أوشعباً واحداً أومكاناً خاصاً في زمن محدود؛ بل هوبستان واسع النطاق يقتطف منه البشر ويتمتع به دائماً وذوق غريزي فطر الناس عليه وهذا لم ولن يبتعد عن طبيعة الانسان.
الخطابة في اليونان القديمة
الخطابة لغةً:
جعل العلماء الايرانيون والعرب منهم ابن سينا والخواجه نصير الدين الطوسي وابنرشد لفظ الخطابة معادلاً للفظ « فتوفيق» اليوناني وهو(فتوفيق) فن يبحث عن الموضوعات العلمية ويعادل لفظ « ديالكتيك» في اللّغه الإنجليزيّة وهي (ديالكتيك) بمعنا التحدّث والمحاورة، ويخالف (فتوفيق) الجدل [1]. من هنا يسمّی اصحاب « فتوفيق» خطباء، وأصحاب الجدل سوفسطائيّين.
الخطابة اصطلاحاً:
قوّة تشاهد بها وسائط الاقناع في قضيّة ما، وهي مع نقيضها (الجدل) تتعلّقان بالمباحث الّتي ترتبط بفهم عامّة الناس، ولاتنحصران بعلم خاص ولهذا يستعمل عامة الناس احدهما مكان الآخر. [2] هنا نكته وهي أنّ الناس في دائرة حياتهم الشخصيّة يحتاجون الی المشاركة مع الآخرين ولايمكن وجود هذه المشاركة الا بعد المحاورة الّتي تسري في مجاري الجدل أوالخطابة، فلا بدّ للإنسان أن يمارس هذا الفن كی يقترب من تحقيق اغراضه ومصالحه ويبتعد عن المضارّ وكم من خطيب استفاد من الخطابة فربح، وكم من مفحم لم يلتفت إليها فخسر.
الخطابة في تاريخ اليونان:
في مجال تاريخ الخطابة في هذه الحضارة زعموا عدم وجود اسم يذكر للخطباء اليونانيّين حتی القرن العاشر قبل الميلاد؛ بل انّما ظهر بين الناس نقاش شديد في قطاع المال والملكيّة وانتهی الی طرح الدعاوي في المحاكم لتنظر وتقضی فيما حدث بينهم من خلاف وشقاق. وكان الخطباء يلعبون دور المحامين في هذه المحاكم والمحافل ويعرّفون الظالم والمظلوم. [3]
ومن جهة أخری قد واجهت الفلاسفة آراء مختلفة وألزموا أنفسهم الردّعليها، فاستمدّوا وأستلهموا من المنطق للاقناع والتعبير عمّا في النفس، ولكن لم يلبث طويلاً حتی حاد بعضهم عن جادّة الصواب ومشوا في طريق السفسطة، وأصيبوا بأزمة روحيّة وفكرّية، حيثما كانت الدنيا في زعمهم نوماً وكری، وما الإنسان لديهم إلا كلامه وفكره، وعسی أن يكون الحق باطلاً والباطل حّقاً ، ويكون الظالم مظلوماً والمظلوم ظالماً ولابأس في اجتماع النقيضين ، من هنا راجت سوق الخطابة ووضعت معايير وموازيين، وغلا سعر الخطابة، واصطفّ الناس لشراءها، وشروها بثمن غال لأنّها تفيدهم عند مواجهة أهل الجدل الذين يغالطون امر الناس ويعلمون ما يخالف الحقيقة ويشوّهون وجهها، ومن ابرز خطباء يونان القديمة: [4]
- «سولن» مقنّن مدينة أثينا والمصلح الإجتماعي لها في وقت لم يكن للخطابة فيه شأن يذكر
- «بريكلس»، أحد زعماء أثينا ومن الخطباء البارزين فيها، وهوأوّل من اشتهر في هذا الفنّ، ولكونه رجلاً سياسيّاً فقد صار زعيم أثينا اربعين سنة وقيل عنه: « إنّه إذا أراد أن يحضر في مجلس عام يكتب أقواله من قبل.
- «دمسني» الّذي برع في انواع الخطابة ومن أشهر خطبه هي الّتي أنشأها ضدّ فليب المقدوني.
- « أرسطو» صاحب كتاب ريطوريقا في فنّ الخطابة ، وذلك يشتمل علی قواعد واصول الخطابة ومن احسن الكتب الموجودة، وما من كتاب في فنّ الخطابة الّا وقد تأثّر بهذا الكتاب.
أنواع الخطابة في اليونان:
- الوعي فيما يتعلّق بالدخل القومي ومصادره والوسائل المتاحة: يجب علي الخطيب معرفة كميّته المعادن والمناجم الوطينّة وتكاليف المعيشة لكي تقلّل زائده ويزيد نقصه ولا تحصل دقة النظر للمتأمل في مثل هذه الموضوعات نتيجة حنكة وطنية فحسب بل قد تحصل الحنكة من بلاد أخری
- الحرب والسلم: يجب علی الخطيب الإلمام بالقوة العسكرية للبلاد وتعبئتها للذود عن حياض الوطن، ومعرفة الحروب الّتي شُنّت عليها، ونوعيّة المواجهة معها من قبل ومعرفة سائر البلاد والجيران الّتي تحتمل معارضتها، وبذل الجهود لإقامة العلاقات الدبلوماسيّة بين البلاد عن طريق تشجيع الأفكار وتشحيذ الأذهان.
- الدفاع الوطني: يجب علی الخطيب العلم في أنماط الذود والدفاع الّتي تباشره القوات العسكريّة وأوضاع قلاعهم والحفاظ علی المناطق الإستراتيجيّة والحدود الإقليمية.
- تصدير البضائع واستيرادها: علمه في التموين وما تحتاجه البلاد للتصدير أوإلاستيراد والاطلاع علی المعاهدات التجاريّة وتشجيع المواطنين علی عدم التهاون والذل ، وكل ذلك لايمكن تحقيقه إلا بعد ادراك التجارة وفهمها.
- نوعيّة القوانين وتنفيذها : هناك علاقة مباشرة بين القانون والرفاه الإجتماعي، وفي اعتقاد أرسطو: من اهم الاسباب الّتي تستوجب انهيار البلاد هوالتخلّي عن التنظيمات العامة : ولا يعني التخلي عدم العمل بالتنظيمات فقط بل يراد به أيضاً العمل الإفراطي، وهما الّذان (العمل الأفراطي وعدم العمل) يهدّدان الديمقراطيّة ويؤديان إلی القمع والظلم.
علی الخطيب أوالقاضي ، النظر الدقيق في الأخطاء ودواعيها وتعريف المتهم والضحيّة ومن اهم العوامل الّتي تلعب دوراً في الأخطاء هي :
1- الصدفة 2 – الطبيعة 3- الإضطرار 4- التمرّن 5- الدليل والبرهان 6- القسوة 7- الذوق والإشتياق
الاعمال الأربعة الأخيرة يباشره العمد والثلاثة الأولی لاعمد ولا إرادة فيها من ناحية العامل فعلي القاضي التأمل والتثبّت فيها.
علی الخطباء في هذا النوع من الخطابة الإعتناء بالفضائل والرذائل مع اشكالهما ودرجاتهما وكذلك ليلفتوا النظر الی التحسين والتكذيب فإنّما الإنسان قد خلق علی الطبائع التالية:
1- السكون والحمّية 2- الصداقة والعداوة 3- الخوف وقوة القلب 4- الإستحياء والمجون 5- الرحمة والقسوة 6- الغضب 7- الحسد 8- المنافسة.
وهذه الطبائع الثماني تتعلّق بالمشاعر المختلفة وعلی الخطيب أن يتمتع بشعور سديد فيها وأيضا الإدراك من أنّ لبعض الناس موهبة البخت في الأنساب والأموال والقدرة ، ولبعضهم أذواق تختلف عن عامة الناس ويجدر بالخطيب أن يتكلّم علی قدر عقولهم وطبقا لأهواءهم ويتمسّك بهذه التعليمات ولايتملّص من العدالة.
-الخطابة في الأدب الفارسي
ليس عندنا أخبار متوفّرة عن نوعيّة الخطابة في ايران القديمة غير الماحات أوالماعات عابرة من كتّاب ومؤرخّي اليونان مثل هرودوت وغزنفون في الاجواء الإجتماعية الأيرانّية آنذاك. فإنّ ما ذكر في آثارهم تومئ الی الظروف العامّة والسائدة في بلاط ملوك ايران وبين الروّاد والقوّاد وكان رجال الدين المجوس يخطبون في الأعياد الادينية والإحتفالات الأخری خطباً في المعابد ودورالنيران، وكان يجب علی الكبار الّذين يحضرون حفلة الملك، أن يأتوا بكلام يحتوي علی النكت الحكميّة والأخلاق كي يفرح الملك ويجزل لهم الصلات والعطايا.
وفي تاريخ ايران القديمة لم يشتهر في الخطابة احد الّا بوزرجمهر وهويسبق الشاعر الفارسي المسمّی بـ «فردوسي» الذي ينشد في ديوانه « شاهنامه» الاحتفالات السبعة لأنوشروان، مطلعه:
نخستين چواز بند بگشاد لب
به يزدان ستودن هنر داد لب
وديوان الفردوسي يكشف لنا عن فكر الشاعر وإلتفاته الی فنّ الخطابة والقول الجميل. وهذه النبذة تدلّنا علی حقيقة وهي أن الخطابة لاتخصّ بقوم وليس لها بداية مكانية وزمانية تبعده عن الإنسان بل هي مخلوقة معه ولافصل بينهما ولكن تختلف اغراضها بين الأقوام، من هنا يتطرّق اليها قومٌ مثل اليونانيّين للحكَم بين الناس في الدعاوي، وقوم آخر مثل الفرس القدماء حيث يستخدمونها في الاحتفالات والاعيادالدينية أمّا العرب والعجم المسلمين فانهم يستعملونها اليوم لأغراض شتّی منها الاغراض السياسيّة، الدينيّة، العسكريّة وما الی ذلك.
وامّا الخطابة الّتي نستهدفها ونقارنها مع الأدبين الآخرين تلك التّي تعالجها ايران اليوم لا أمس. وامّا السمات العامّة للخطابة الفارسيّة هي:
1- القاء خطبة تنبعث من روح عالية وحكمة نامية2- تكون الفاظها واضحة المعنی كي يَفهمها عامّة الناس3- ذات عبارات قصيرة4- استعمال الأمثال السائرة وذكر انواع التشبيه والأستعارة والكناية5- الإجابة عن الأسئلة ألتي تخطر ببال المخاطب6- الإجابة عن الشبهات وإزاحتها.السمات العامّة للخطيب الفارسي:1- الإحتراز عمّا لا يعلم2- الصدق في القول والعمل3- الصيت الوطني والأفضل من ذلك الصيت الدوليّ4- المصداقّيه الإجماعيّة والدينيّة والسياسيّة أوالعلميّة.5- أنيق الظاهر6- الإلتزام بالقانون الدستوريّ في المجتمع واحترام القوانين.7- مفاجأة الناس بكلام لايتوقعون سماعه من قبل8- الإطلاع علي الظروف الراهنة في بلاده والبلدان الأخری9- التعرف علی المخاطب. [5]
-الخطابة في الأدب العربي:
كانت الخطابة في العصر الجاهلي تحظی بمكانة كمكانة الشعر، فهي كالشعر لسان الدفاع عن القوم، ووسيلة التحريض علی القتال ونصرة الضعيف، ورسالة الملوك والأمراء الّتي يحافظون ببلاغتها علی سلطانهم ونفوذهم. وكان الخطيب زعيم قومه أوعالمهم أوشاعرهم أوحكيمهم. [6] ولمّا صار الحكم في جزيرة العرب دينياً فقد تغيّرت الخطابة وشأنها في كل مرحلة ، وحازت قصب السبق علی الشعر، فحصلت علی المركز الأوّل بالنسبة اليه، لكن قالبها وصورة تعبيرها بقي علی ما كان فی العهد الجاهلي، من هنا سنحاول في هذا المقال الحديث عنها في العهدين الجاهلي والاسلامي.
الخطابة لغة واصطلاحاً في الأدب العربي:
(الخِطاب)، بكسر الخاء وتخفيف الطاء : هوتوجيه الكلام الی جهة لقصد التفهيم وهويرادف لفظ التخاطب [7] وقد جاء في المصحف الشريف آيات « لايملكون منه خطاباً »، « ... واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً» و« آتيناه الحكمة وفصل الخطاب » تدلّ علی هذا المعنی.
(الخَطابة) بفتح الخاء : هي تدليس الناس بالكلام [8]
(الخِطبة): هي بمعنی طلب الزواج، مثل آية« ولاجناح عليكم فيما عرّضتم من خطبة النساء». الجدير بالذكر هوأنّ الخطابة قد استعملت في آيات أخری من القرآن الكريم بمعنی « الفعل العظيم والعمل الشاق» مثل : « قال فما خطبك يا سامريّ» و« فما خطبكم ايّها المرسلون» أي: ما هوعملكم وفعلكم العظيم.
(الخَطابيّة) : هي جماعة من الشيعة الّذين كانوا يتّبعون اباخطاب الأسدي الّذي نسب نفسه الی أبي عبدالله جعفر الصادق(ع) فلمّا عرف الامام غلوّه في الدين تبّرأ منه . [9]
الإمعان في الفاظ الخطابة وصورها يعبر عن هذه الحقيقة وهي انّ هذه الألفاظ تشترك في معنی واحد وهوالفعل الرئيس ولايختلف بعض عن بعض في هذا المعنی شيئاً.
الخطابة في اصطلاح الأدب العربي:
هي القول الرئيس والهام جدّاً يُلقی علی جماعة ويقصد فيه اقناع العقل ومرافقة النفس.
وأحسن التعريف واكمل البيان في الخطابة، كقوله تبارك وتعالي حيث يقول: « الله نزّل احسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تعشعرّ منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الی ذكر الله.» [10]. نعم! احسن الحديث والخطاب هوكلام تصحبه الفاظ تناسب المعاني ثمّ يؤثّر في مخاطبيه تأثيراً لن يمحی أبداً ولن يُترك عملاً.
الخطبة عادةً هي كلام يلقی في مناسبة اسلاميّة مثل الأعياد الدينيّة وصلاة الجمعة والجماعة وفي مراسم تخصّ وعظاً وتذكيراً، ولكن الخطابة هي الّتي تلقی بمناسبة تثيرها الأزمات الطارئة والأحداث الراهنة في مجالات مختلفة منها السياسيّة، الاقتصاديّة ، العسكريّة وما الی ذلك. كما أنّ الجاحظ يری الخطيب الجاهلي أعلی رتبة من الشاعر، وفتح باباً يختصّ بالخطبة والخطابة والخطيب وفرّق بين ذلك، حيث عبّر عن كلام العرب الجاهليين الّذي يحتوي علی الدفاع عن اعراض القبيلة وعن كلام الخطيب الأموي الّذي يتحدث في السياسة الحزبيّة والعصبيات القبليّة بالخطابة، وعبّرعن كلام النبيّ(ص) والخلفاء الراشدين بالخطبة [11] لأنّها تبدأ بالحمد والمدح والبسملة وتكتنف الوعظ والتذكير الدينّي وتختم بالدعاء والسلام، خلافاً لما نشاهده في العصر الجاهليّ عامّة وفي ا لعصر الأمويّ خاصة.
الخطابة في العصر الجاهلي:
التعمق في خطب هذا العصر يكشف عن أن العرب المقيمين بالجزيرة والملازمين للصحراء والبيداء يعيشون بعيداً عن التعلّق بالتكلف، وتنعكس آماله في أقوله السلسلة الّتي هي كمرآة صافية تظهر ما يختلج في صدره، هناك لانشاهد الّا طبيعة بدويّة، مرئيّة ، محسوسة وغزوات متواصلة. وكانت الخطابة أسهل وأقصر الطرق إلی إثارتهم ونشر الدعوة فيهم واقناعهم. وقد ساعد علی ذلك ما كان هنالك من أسواق واجتماعات وما للعرب من فصاحة وبلاغة فطروا عليها فتعدّد الخطباء وكان لهم في كل محفل مواقف، وفي كل ظرف من ظروف الحياة منابر ومعابر. وتنحصر الخطابة في هذا العصر علی نطاق البيئة الّتي نشأت وترعرعت فيها، وتغوص في موضوعات [12] منها: البطولة والفروسيّة، الدفاع والصلح والسلم والمفاخرة والمنافرة ، الزهد ودعوة الناس الی الصدوف عن بهارج الدنيا ، الكهانة، الزواج، الموت وخطبة الوصايا الّتي يتوجّه بها الطاعنون في السنّ الی ابناءهم وأحفادهم للسير في سبيل الخير والشرف.
السمات العامة للخطابة في العصر الجاهلي :
كانت خطابة هذا العصر علی شكلين: الف: طويلة ب: قصيرة
والشكل الأوّل قد اختص بالمفاخرات والغزوات والصلح أوالسلم. ومن الطبيعي أن تستعمل ألفاظ تناسب احوال المخاطبين لتحريضهم علی ا غراض يستهدفها الخطيب الجاهلي . وامّا الشكل الثاني فكان عدده اكثر من الشكل الأول، وكل خطبة قد عرفت باسم خاص مثل: خطبة العجوز (خطبة آل رقية) ، العذراء (خطبة قيس بن خارجة) والشوهاء ( خطبة سحبان الوائل) [13]. وكان الناس يلتفتون إلی هذه الخطب التفاتاً تامّاً، باذلين جهودهم لحفظها في كل عصر ونسل كما فعلوا هذا الفعل مع الشعر.
هنا نقطة وهي أن بعض البلاغيّين جعلوا الخطابة نوعاً من الشعر لإحتياجها الي الخيال والبلاغة وهي تثير روح الحماسة والتضيحة في الأحرار والفارسين وليس هذا في فی الشعر. [14] واما التشابه بيی النثرفیی الشعرفهوخطيب.
صفات الخطيب الجاهلي: [15]
بيده اليسری والعصا بيده اليمنی.
- أنيق الظاهر بعمامة علی رأسه ورداءٍ يغطي جسمه
- لايبتعد عنه النظام الفردي والاجتماعي
- يخاطب في الناس بصوت عال ونفس محلّاة بالكمال والوفاء
- يدعوالناس الی مايفيدهم وينفعهم
هنا نقطة وهي أنّ أسلوب وصياغة التعبير في خطابة الجاهلي تعتبر الحجر الأساس للخطابة في كل العصور حتّي زماننا هذا.
الخطابة في العصر الاسلاميّ :
لما بزغت شمس النبوّة في جزيرة العرب، تنوّرت بها حياة العرب بأسرها وانتقلت ثقافتهم وحضارتهم وسياستهم الی حياة متنامية ومدنيّة أثرت فی حضارات أخری منها الفرس والرّوم وليس هذا التغيير في الحكومة فقط بل كان الدين الجديد بالغ الأثر في الأدب العربي عامّة وفي الخطابة خاصّة ونحن حينما نتصفّح التأريخ الاسلامي نشاهد أنّ الاسلام والخطابة كانا كأخوين يساند أحدهما الآخر علی مدی التاريخ، بيد أن الخطابة ولدت ونضجت قبل أخيها وبعد أن أشرق خضعت له وخدمته وساعدت علی تيسير اهدافه فصارت كالساعدالأيمن يذودعن حريمه، من ثمّ أخفقت بنود الشعر واتّكأت علی مقعده. ولمّا اهتمّ النبيّ(ص) صاحب الدعوة بها فكانت نفسه الزكيّة احسنهم منطقاً، وأطهرهم خلقاً وفاه بخطب صاقعة ، احتذی حذوها جميع الخطباء في اسلوب البيان وصياغة الكلام، من هنا راجت واكتظّت سوق الخطابة وضربت المنابر. وقال بعض المفسرين في تفسير كلام الله تعالی(ومقام كريم) إنّه المنبر، كما يقول الشاعر:
لنا المساجد بنيناها ونعمرها
وفی المنابر قعدات لنا ذلل
فلانقيل عنها حين نركبها
ولامثل لنا في معشر [16]
السمات العامّة للخطابة في عصر النبّي (ص) والخلفاء الرّاشدين:
- وحدة الموضوع مّيزة لاتنفكّ عن جميع الخطب الاسلاميّة
- كون الخطابة معتدلة بين الايجاز والإطناب خلافاً للخطب الجاهلّية الّتي كانت طوالاً أوقصاراً.
- الإنسجام في المطلع مثل: الإبتداء بحمدالله ومدح النبيّ (ص) واهله وصحبه، وإن لم تبدأ بالحمد والمدح فهي البتراء أوالشوهاء.
- الإقتباس من آيات القرآن والحديث النبويّ الشريف.
- الإحتراز عن اغراض الجاهلية والخوض فيما يتعلّق بالمفاهيم السامية.
الخطابة في العصر الأمويّ:
كان الحكم قبل الاسلام علی يد أبناء أميّة بن الخلف الّذين سيطروا علی ارواح وأموال الناس وسادوا العرب اعصاراً طوالاً ، ولمّا جاء الاسلام وطردهم عن الحكم يئسوا من الإسلام غاضبين عليه وكاظمين احقادهم لوقت يستطيعون فيه اغتنام الفرص ليعيدوا إليهم الحكم. نعم إنهم كانوا كالطفل البعيد عن ثدی أمّه ومازالوا كامنين بالمرصاد حّتی استشهد خليفة المسلمين الامام علي(ع) فنضجت آمالهم في خلافة معاوية إذ نشروا بذور الخلاف بين الشعوب والقبائل وأحيوا العصبيات القبلية والنزاعات الحزبيّة فعاد الناس كالشملة المتّفرقة ورجعوا الی ماكانوا عليه قبل الاسلام . ولكن هناك حقيقة لاتنكر وهي أن الأدب العربيّ قد تأثّر بالبيئة وإزدهرت بعض فنونه منها الشعر الذي انخمدت جذوته في الطور الاول من العصر الاسلامي، قدنما ونضج في البيئة الأمويّة حتّي نمت قامته الی الخطابة واستخدم الخلفاء الشعراء في بلاطهم واجزلوا لهم الصلات والجوائز. وامّا الخطابة فقد كانت منابرها تضرب للخليفة وتأييده ومن هنا تبلورت الخطب الحزبيّة وتبعثرت الكتلة الدينيّة وسيطر عليها روح الخصام والجلاد وشحن الجوّ المحموم بالنقاش والجدل وشاعت في خطابة بني اميّة السياسيّة النزعة المكيافيليّة الأمويّة، وفي الخطابة الدينيّة والكلاميّة روح الفلسفة والجدل وفي خطابة الوفود علی الخلفاء والامراء نزعة البلاغة الأخّاذة. [17]
-النتيجة:
يبدومن خلال مقارنة هذه الآداب الثلاثة :
أولاً: أن الخطابة لاتتعلّق بجماعة معينة أومكان واحد بل هي غريزة إلهيّة فطر الناس عليها أينما كانوا، ولكنّ الاختلاف في هذه الخطب هوفي صورة المعنی لا في صياغة الكلام وقالب التعبير.
ثانياً : ليس للخطب الفارسية واليونانيّة قديماً شأن يذكر بيد أن نقول إنّها وسيلةٌ في يدالشرفاء والنقباء عند لقاء الملوك عند الإيرانيّين، ووسيلة الإقناع في المحاكم والخصومات عند اليونانيين، ولكنّها قد نضجت في الأدب العربي لإحتكاكه بالإسلام والقرآن والحديث النبويّ الشريف وبلغت مبلغاً يتوجّه اليها الأدبان الآخران خاصّة الأدب الفارسي الّذي امتزج بالأدب العربي امتزاجاً تامّاً حيث جعل الخطب العربيّة نماذج له ينظر فيها ويقتبس منها لفظاً ومعنيً.
ثالثاً : الحوادث الطارئة علی الأمّة الاسلاميّة طيلة الايام والاعصار تسبّبت في زيادة الخطابة وتنوعها في اشكال مختلفة، منها السياسة ، الدينيّة ، الوفود، الفتوح، الإستخلاف، الولاية، المناظرة وما إلی ذلك. وكل ذلك لايختلف بعضه عن بعض في صورة البيان والتعبير اللّهمّ الّا ما عرف منها باسم خاص مثل الخطبتين البتراء والشوهاء ، وذلك قليل.
مصادر البحث ومراجعه
- القرآن الكريم
- أرسطو، ريطوريقا، ترجمة برخيده ملكي، دارالإقبال، الطبع1، ايران، 1990م.
- تهنانوي محمدعلي،كشاف إصطلاحات الفنون، ج1، كلكة ، 1862م.
- جاحظ ابيعثمان عمربن بحر، البيان والتبين،تحقيق عبدالسلام محمد هارون، ج1، دارالجيل، بيروت.
- درويش محمد حسن، تاريخ الأدب العربي، مكتب الكليات الأزهرية، مصر.
- دينوري ابن قتيبة، عيون الأخبار، دارالكتب ، بيروت.
- زكي صفوت احمد، جمهرة الخطب، شركة مطبعة، 1962م.
- زيدان جرجي، تاريخ آداب الّلغة العربيّة، درالهلال، قاهره، 1957م.
- سلطانمحمدي طالقاني مجتبي، صناعة الخطابة، مكتبة المرتضوي ، مشهد، 1991م.
- شريعتيسبزواري محمدباقر، حول الکلام والتکلم، مكتبة الاعلانات،طهران، 2002م.
- غربال محمد شفيق ، الموسوعة العربية ، دارالقلم، قاهره، 1965م.
- فاخوري حنّا، الجامع في تاريخ الأدب العربي، ج1، دارذوي القربي، الطبع 1، 1422هـ.
- قلقشندي، صبح الأعشي، الجزء 1و2، دارالكتب الخديوية، 1913م.
- كاوياني محمد، علم النفس والإعلانات، مؤسسةالزيتون ، قم، 2008م.