منازلُ الحقيقة
أمّي الحبيبة: «لكلّ شخص عدد أنفاس يُفرغها في الهواء قبل أن ينام للأبد. الحياة غريبة..أمّي، لا أدري بما أصف ما حدث معي، إنّها قصّة شخص لا يُشبه البشر»
غادرت المقبرة يومها بعد أن وقفت لبرهة على رُفات والدتي الرّاحلة.كان الخريف يستعرض قوّته على قمم الشجر وبين الأرصفة.. كان جبّاراً. رياحه هاجمت معطفي بلا رحمة. كنت أشعر بالسّعادة رغم ذلك، هذا أوّل يوم لي في العمل..أخيرا وبعد ادّعائي الصبر لأشهر طوال، دقّ جرس القدر ليُميت سويعات البطالة وأنعم ببعض الثبات.
حملتني سيقاني المُفعمة بالفخر ناحية بناء قديم، رفعت رأسي لأقرأ ما كُتب على اللّوح المُثبت فوق بابه: (دار الرّحمة) لمَ الكذب، لم يعنِ لي ذلك الاسم شيئا، لم تتسرّب نحو قلبي أية إشارة تدعم إحساسا من أي نوع، كانت الكلمة للعقل. ما حمله فكري كان يصب ضمن أيام ستتطاول حتىّ تتعدّى الثلاثين ثم تُثمر أياديها راتبا سيجعلني أنزع عن نفسي لقب: (الجامعي المُفلس)، ليتني عرفت ما ينتظرني وقتها!
طويتُ صفحة الماضي وفتحت ذلك الباب الذي لم يكُن في نظري سوى صفحة جديدة مُشرقة، صفحة سأكتب عليها انطلاقتي السعيدة. قابلتني ساحة كبيرة تنتهي إلى مبنيين مُتقابلين، قصدت مكتب المدير، أنهيت توقيع تلك الأوراق الباردة بملل. الراّتب لم يكن سخيا!
«لا بأس، إنّه يكفي لإقفال أفواه أصدقائي بعزيمة عشاء شهي يُلمّع صورتي ويرفع من قدري أمامهم فلطالما كنت الفرد الفقير الذي لا يجرؤ على مد يده إلى الجيب وإعلان طقوس الكرم» قلت في نفسي دافعا كلّ إحباط حاول إذلالي . إنّه وقت جمع المال.
كمن سيعمل ضمن بنك أو ما شابه. تابعت خطواتي شابة شاهقة الطول جعلت تريني غُرف نٌزلاء ذلك المكان. كنت المسؤول عن ثلاثة أشخاص طاعنين في السن، هل كنت أتوقّع غير ذلك ! مررنا بغرفة مظلمة، قُفلت نوافذها وانسدلت ستائرها لتُفصح الكآبة عن أسرارها وتلفّ المنطقة بانزلاقات مرعبة للمعنويات. كان هناك فوق السرير شيخ ٌ يضع نظّارات شمسية سوداء، كأنّ شمس ظهيرة تهيم فوق رأسه!
«لماذا يقبع في الظلمة؟» سألت الشّابة المتطاولة في الهواء فردّت من مكان بعيد، أظن أن فمها كان يبعد عن كتفي بثلاثة أقدام. قالت: «يدعونه بـ(رجل الظُلمة)، توفيت زوجته قبل شهر في هذه الغرفة.. كانت عمياء لا تُبصر. يقول بأّنه لايريد رؤية أحد بعدها لكي لا ينسى تقاسيم وجهها، أليس هذا وفاءً منقطع النظير؟» أضافت الشابة لكنّي لم أفهم سرّ إعجابها. هل ترى هذا وفاءً، إنّه موتٌ في الظل!
الغرفة الموالية كانت مسكن امرأة عجوز لم تختلف في غرابتها عن رجل الظلال لكنّها ناقضته بإشراقتها المميّزة. الضوء كان يخترق ستائر غرفتها لينعكس على وجهها الملطّخ بمراهم التبييض. شفتاها كانتا متورّدتين وشعرها كان مُمشّطا بطريقة رائعة كعروس ستُزّف لتوّها.
لماذا تضع هذا الكم الهائل من مساحيق التجميل؟ «سألت مرشدتي فأجابت قائلة:» السيدة (أمل)، لقد فقدت عقلها بعد أن تخلّى عنها ابنها و خلّفها هنا دون أن يُعقّب. كانت تنتظره كل يوم عند الباب الرئيسي لكنّه كان يخذلها في كل مرةّ لتعود إلى غرفتها حاملة جروحا غائرة. استيقضنا ذات يوم لنجدها على هذه الحال. إنها تظن نفسها فتاة في العشرين واليوم هو موعدُ زفافها.. لا تستغرب واستعد لذلك، عُرسها سيكون طيلة أيّام السنة
«اخرُجا،علي ارتداء الثوب الأبيض» صاحت بنا العجوز ثم أوصدت الباب لنكُمل نحن رحلتنا العجيبة. صدقا، لقد شعرت بالأسى لوضعها وذلك الشيخ المسكين. أنا العابث المستهتر، رقّ قلبي!
«ماذا سيكون شكلُه يا ترى؟» سألت نفسي وأنا أقف قُدام الغرفة الأخيرة في الممر. لقد توقّعت حالة مأساوية أخرى تختفي وراء ذلك الباب الخشبي، كما توقّعت شرحا مُفصلا من الفتاة الواقفة يميني. فنّدت الثوان القادمة ظنوني، لم يكن صاحب الغرفة من مُحبّي العتمة ولا مُعجبا بأيام الصبى. كان مُثقفا..لا تستغربوا فأوّل ما سقط عليه بصري، كانت كُرّاسة جميلة جعل شيخ عجوز يكتب عليها بنهم. بتركيز كبير كان يفعل، وفعلت أنا الأمر ذاته لأفهم ما يجري! كانت هُناك على شمال المدفأة مكتبة صغيرة حوت أصنافا من الكُتب. «هل هو عالم؟» سألت نفسي..كم أنا غبي، كيف لعالم أن يرتاد دور العجزة فالعلماء عادة ما يُنجبون أولادا واعين، بارّين وخلوقين؟
«من، هو؟» نطقت بالسؤال المعتاد فما ردّت العملاقة بل الرجل ذو اللحية البيضاء المستدقّة: «عبدٌ من عباد الله كرّمه الخالق بأن جعله ينعم بسرير مريح ومكان دافئ بعد أن هرم القوام وشحّ النبض»
ما أقول، وبما أشرح إحساسي وقتها. كلامه كان حنونا، حكيما و ُمتزنا. شيء ما ضرب أركان نفسي الهزيلة لتسقط منها بعضٌ من تفاهتها وتتهشّم على بلاط مملكته. دعاني الشيخ إلى الجلوس إليه وفعلت، أمّا الآنسة فقد غادرت نحو المبنى المجاور لاستكمال عملها.
قال الرجل العجوز«ما اسمك يا بُني؟»
«أحمد، أجبت بحياء وتذكرّت على نحو ما أستاذي للعلوم الشرعية فقد كان الوحيد الذي يجعل وجهي يتورّد احتراما له»
«أحمد، اسم جميل. خير الأسماء ما عُبّد وحُمّد..لقد أسميت ابني أحمدا أيضا، إنّه سميّك»
«سميّي؟» سألت بغباء فابتسم الشيخ وأضاف: السميّ هو ما اشترك معك في الاسم. بحياء تضاعف ليُشبع وجهي احمرار حرّكت رأسي كجاهل ثم تبادر إلى ذهني سؤالٌ سريع فانطلق لساني: أين هو؟
من تقصد يا بني؟
أحمد، أقصد..ابنك
إنه يسكن الشارع المجاور، أعانه الله، إنّه طبيب مجتهد..يبذل كل وقته في سبيل رعاية المرضى وإعالة أسرته
لم أفهم كلامه، أحسست بأن مجالسة الأذكياء تزيد من حدة غبائي. هل هو يدعو لابنه المرموق أم يُثني على شهامته بأن رماه إلى هذا المكان البائس ! جرت القشعريرة في كامل جسدي، أحسست بطهارة قلبه، شعرت برقّة أبوية ذكرّتني بأبي. استقام الشيخ بعدها من مكانه مُستلا كُرّاسته وقلمه وخطا ناحية الباب وهو يقول:>> اعذرني يا بُني، إنّه وقت الكتابة.
تداخلت الأفكار في رأسي، فعلا من الصعب فهم الحُكماء. مُتناسياً الكم الهائل من الأسئلة التي جمحت في عقلي،رميت خطوات متثاقلة قاطعا طول ذلك الممر سيرا حيث كانت ساحة دار العجزة مُتكشّفة بسبب النوافذ الزجاجية الشفافة. لقد وصل ذلك الرجل العجوز إلى الباحة الأمامية، جلس إلى كرسي يُجاور شجرة بلوط كبيرة وأخذ يكتب. من حسن حظي أن عامل النظافة كان يمر بجواري حينها فسألته عن حكاية العجوز الأبيض فردّ قائلا:>> العم (جلال)،لقد طرده ابنه من المنزل، رماه إلى الشارع كما تُرمى أكياس القمامة، يُقال بأنّه زحف إلى هنا زحفا بعد أن أوسعه ذلك العاق ضربا<<. بوجه غاضب تملؤه الحسرة مع رشّة مُفرطة من الشفقة، كنت أنظر إلى العجوز المسكين. >>كم أنت عظيم! << قالت كل ذرّة عطف بداخلي.
مرّت أيام الخريف مُتسارعة، ألفت (دار الرّحمة) كما ألفت الاهتمام بالسيّد المُظلم، العجوز الفاتنة و كذا العم (جلال). هذا الأخير، جلعني أتغيّر على نحو مُفيد. كنت أمضي سويعات فراغي بجواره. لقد كان يُنبوع علم لا ينضب وأكثر..كان بمثابة صفعة حارّة أيقظت دواخلي على حقيقة الحياة. لم أعد بعدها الشاب المادي الذي يسعى بكل سخف لإرضاء أصدقائه الجشعين، بل أحمدُ المُبتلى بصفات ذميمة يريد التخلص منها بمساعدة شيخ لاحول له ولا قوة.
كانت ليلة شتوية مُثلّجة، عندما سمعت نحيب امرأة ما. ارتديت معطفي وأسرعت نحو الخارج، كانت بجوار البوابة، أجل. كانت تنظر إلى الرّصيف المجاور والدموع تتسارع لاختراق خذها المُجعّد. لقد كانت السيدة (أمل( تنوح بكل ما أوتيت من قوّة. لم تكن ترتدي ثوبها الأبيض، لم يكن يحمل وجهها فرح عرُوس العشرين بل أسى ابنة التسعين. كانت ذراعاها مرفوعتين كأنّها تودّ احتضان النسيم البارد. صاحت:>> ولدي << ثم انهارت إلى الأرض بلا حراك. وصلت متأخّرا، حاولت إسعافها ولكنّ الأمانة كانت قد فاضت وارتحلت. كانت عيناها مفتوحتين، دامعتين، لا معتين. لقد أعادتها لحظات الاحتضار إلى وعيها حيث تذكّرت وليدها فانتظرته بأمل أن يعبر الرصيف ليعانقها..كُنت أبكي بحرقة وكذا كل أهل (دار الرحمة)..بكيناها بقهر ودفنّاها في اليوم الموالي..
مرّت أشهر الشتاء كما فعلت غريمتها باعثة الريح ونافثة الأوراق الجافة. بعد موت السيدة (أمل)، تعمّقت في فهم ما يُعانيه الأجداد المسنّون في دور العجزة.قطعا، علمت لون أرضهم و سقف سمائهم..أدركت نوع جروحهم. العم (جلال) كان مُعيل عقلي وقلبي. انفصلت عن الشلّة التي كانت تُراوح أيّامي المتماثلة ورُحت أقرأ الكُتب المُكدسة في غرفة العجوز الأشهب. بت أقبع بجوار شجرة البلوط أطالع ما ينفعني وأنظر إلى العم (جلال) وهو يكتب مُذكّراته. لا أخفيكم، كان كل فضولي يهيم حول معرفة ما يجول في مخيلته وما يخطّه على الورق الأبيض. أتعلمون، لقد خصصّت جزءا من راتبي كإعانة للدّار، أجل فعلت!
ماذا يحدث هنا؟<< سألت عامل التنظيف في ذلك الصباح عندما تسرّبت نحو آذاني صرخات مبحوحة آتية من آخر الممر.>> إنه ابن السيد )جلال)، لقد قرر أخيرا زيارته !<< هرولت باتّجاه الغرفة ولكن ما إن وصلتها حتى سدّ طريقي جسد رجل ضخم يضع نظارات طبية، كانت رائحة التبغ تفوح منه.وجهه المُسود زاد من قلقي، ضربات قلبي كانت غير اعتيادية، هكذا أحسست!
دفعني كثور هائج ثم غاب كزوبعة غبار مجنونة. رميت بجسدي داخل الغرفة حيث كان العم (جلال) ينظر ناحيتي بعيون جاحظة. هل كان يبكي أم هكذا هُيئ لي؟ لم يقل كلمة بل قبض على موقع قلبه وأخذ يتلوّى من الألم بعد أن سقط على سريره.( ليس أنت) صرخ شيء ما بداخلي. فكرة مُرعبة جالت بخاطري وسدّت الهواء عن رئتاي. رُحت أضغط على قلبه لأنعشه رغم أنني من كان يحتاج الانعاش.لقد أحسست بأنفاسه تنطفئ، ولكن رغم هذا لم أوقف حركة يدي على صدره. كن قويا، سيدي..من فضلك كن قويا << صرخت بكل قوتي.
لم ينجُ بل غادر كما فعلت السيدة (أمل)..استغرق إدراكي لذلك دقائق عديدة. أفقت و مدير الدّار يحاول جاهدا إزاحة يدي عن جسد العم (جلال) فما زادني ذلك إلا إصرار على ضمّه. دفعت المدير بكل قوّتي وانهرت فوق الرجل العجوز أرثيه. أحسست بأنني فقدت والداي مرّة أخرى.غصة رهيبة أدمت قلبي. القاتل كان ابنا رعاه أبوه حتى غدا رجلا بطول الشجر..القاتل كان هنا، لا لأجل التكفير عن ذنبه بل للقضاء على آخر الأنفاس الطيبة !
أمي الحبيبة: لقد كان رجلا عظيما، إنسانا رائعا، كم أحببته..دفنته بيدي كما فعلت معك وتركت له في قلبي مُضغة تُنير وفاءً لصنيعه معي . أمّي، أنا اليوم شخص مختلف. شيخ عاجزٌ أراني نور الحقيقة وتبعته. لقد ورّثني كُراسة مذكراته..قرأتها أخيرا، لقد كتب عن العجز، عن الأبوة، عن الإيمان وعن بر الوالدين.أمي، لقد كتب عنّي فقال: التقيت شابا لا يشبه سميّه أو من كان ولدي، أرى فيه أبا ناضجا و وولدا بارّا..إنّه جزء منّي وله أرجو كل التوفيق