الأحد ١٠ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم خليل الجيزاوي

مناقشة رواية (مواقيت الصمت) بأتيلييه القاهرة

رواية تكشف التواطؤ المجتمعي حول الفساد السياسي وتثير قضية أطفال الشوارع

في ندوة احتشد فيها الكتاب والأدباء والزملاء الصحفيين وبعض القنوات الفضائية العربية ناقش أتيلييه القاهرة في ندوته الرئيسية التي تعقد مساء الثلاثاء من كل أسبوع رواية (مواقيت الصمت) للكاتب خليل الجيزاوى التي صدرت عن الدار العربية للعلوم ببيروت بالاشتراك مع مكتبة مدبولي للتوزيع بالقاهرة ومنشورات الاختلاف للتوزيع بالجزائر، أدار الندوة د. مدحت الجيار أستاذ النقد الأدبي بآداب الزقازيق وبدأ الندوة قائلا: نناقش الليلة رواية (مواقيت الصمت) للروائي خليل الجيزاوى وهي الراوية الرابعة من مشروعه الإبداعي، و(مواقيت الصمت) تمثل تلك الرؤية التي بنى عليه روايته أو بنى عليها الكلام كله، أو كما جاء في (مواقيت الصمت) بين الرجل والمرأة حيث انفصمت عُري العائلة وكان لابد أن يعود الكلام؛ لتستأنف الحياة؛ ولهذا حين بدأ بكل الكلمات والجمل المأثورة والحكيمة والمقدسة التي جعلت من الصمت تمثالا جميلا، خرج الكاتب من هذه الحيرة وقال؛ لقد استمع الناس أيضاً إلي أن الساكت عن الظلم وعن الشر شيطان أخرس، كان لابد أن يعود الكلام؛ لأن الكلام هو الذي يعيد التوازن للحياة. ويشترك معنا في مناقشة رواية (مواقيت الصمت) هذه الليلة مجموعة من النقاد المتميزين وهم:

د. سامي سليمان، ود. يسري عبد الله ود. مصطفي عطية.

في البداية قال الناقد د. يسري عبد الله مدرس الأدب والنقد بآداب حلوان: إن رواية «مواقيت الصمت» للروائي خليل الجيزاوى تعري الواقع المصري، وتكشف عناصر الخلل الموجودة فيه، وحالة التواطؤ بالصمت التي تتم إزاء بعض القضايا الشائكة، مثل قضية «أطفال الشوارع»، وهي القضية المركزية في أحداث الرواية التي تعد الرابعة لكاتبها، فضلا على عدد من المجموعات القصصية الأخرى، و أشار د. يسري عبد الله إلى علاقة التضايف القائمة بين الدالين اللذين يتكون منهما العنوان «مواقيت .. والصمت»، التي وصفها بأنها علاقة آسرة، وكاشفة عن قدرة واعدة على استخدام اللغة وتوظيفها بشكل دال ومغاير، فضلا على انطوائها على سحر لغوي خاص. ولفت الناقد إلى أن الرواية تأتي في سبعة فصول يُصدر كل منها بمقطع من أسطورة شعبية تدور حول ميلاد توأم من البنات، ثم موت إحداهما وتلبس روح التوأم الميتة لجسد التوأم الأخرى.

وهو ما حدث في النص الأصلي مع هبة التي حلت في جسدها روح توأمها الميتة هند وأفسدت عليها حياتها، لتصبح الأسطورة نصا موازيا ومقدما للنص الأصلي للرواية، مشيرا إلى مشهد أو واقعة خروج الأب الميت من إطار صورته المعلقة بالحائط ليحدث البطلة هند عن ذكريات شتى، ويكشف لها عن رحلة صعوده منذ أن كان فقيرا، والتي تزامنت مع ظهور مجتمع جديد في طور التشكيل، مؤكدا صلاحية هذا الفصل من الرواية ليصير مقدمة درامية للرواية، لأن القارئ يتعرف من خلاله على أجواء النص والعوالم السردية بداخله وكذلك الشخوص المركزيون. وكشف الناقد عن تقنية التداعي التي لجأ إليها الأب ليحكي عن معاناته وألمه، بدءاً من حياته مع زوجته الثرية المتسلطة ومروراً بارتباطه الحميمي بالمكان، وهو حي «السيدة زينب» بالقاهرة الذي يعد المكان المركزي بالرواية.

وأشار إلى أن اللهجة العامية تبدو صيغة من صيغ الحكي في الرواية، لافتا إلى امتزاجها بالفصحي أحياناً؛ لنصبح أمام تنويعات لغوية متعددة، تتواءم مع التنويعات السردية المسكون بها النص. وأكد د. يسري عبد الله: أن الجيزاوى كاتب الرواية مسكون بالواقع الاجتماعي ومشحون به، موضحاً أن الدوال المستخدمة في روايته حاملة لعدة مدلولات؛ لأنها ليست منشأة في الفراغ، وإنما الكاتب يعمل انطلاقاً من وعيه السياسي والمجتمعي، ومن هنا تبرز قضية أطفال الشوارع التي يغوص عبرها السارد الرئيس في الواقع المأزوم الذي يحكي عنه، بحيث نصبح أمام مجتمع تعلوه قشرة حداثية تخفي عنا عمقا حيا مسكونا بالجهل، وهيمنة القوى. وهو ما ظهر في توضيح شكل استخدام الإنترنت بين كل من الشرق والغرب، إذ يستخدم في الأولى لوظائف لا أخلاقية، عكس وظيفته في الثانية لاجتلاب المعرفة. وأشار إلى التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها بعض طبقات المجتمع المصري، مشيراً في هذا السياق إلى «سيد» الذي تحوَّل إلى سعيد الفاتح وهو حبيب هبة القديم الذي رفضه والدها زوجا لها، واستطاع عبر ممارسات غير أخلاقية تماماً، أن يصير رجل أعمال مشهوراً، لكن الكواليس تخفي ما يقوم به من استخدام النساء في صفقاته المشبوهة، ورغم ذلك يظهر في بيته بمظهر الرجل المتدين، الذي يتزوج من امرأة ريفية محجبة، ويحرص على أداء الصلاة جماعة مع أبنائه في المنزل.

وفي مداخلته النقدية، قال د. سامي سليمان، الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية هذا العام: إن «رواية مواقيت الصمت» تتضمن عالمين: أحدهما ذاتي تعبر عنه هبة وأزمتها مع الهوية المفقودة أو المتبادلة بينها وبين توأمها هند، وعالم موضوعي، تشكله قضية مثل أطفال الشوارع والتحولات المجتمعية التي رصدتها الرواية، وأضاف: هناك إمكانية لتداخل العوالم وتعددها وتفاعلها، وتناقضها في إطار تجسيد رؤية تتضمنها تلك العوالم، وأشار إلى توظيف الكاتب فكرة الأسطورة الشعبية بشكل أسهم في الكشف عن بنية الشخصية الرئيسة وتشكيل حركتها، كما ساهم توظيفها اجتماعياً في تباين حدود العوالم المتخيلة في الرواية.

ولفت إلى أن فكرة إيمان الأب بالمعتقدات الصوفية وممارسته لها في حي السيدة زينب، كان مقوماً من المقومات التي دعمت وجود هذه الأسطورة، وكذا عودة الأب بعد وفاته وخروجه لابنته من الصورة المعلقة على الحائط، ثم عرج في مداخلته على استخدام الكاتب عدداً من التقنيات السردية في الرواية منها: الراوي، المونولوج أو «الحوار الداخلي»، وتقنية الاعتراف التي تتخذ وظيفتين مهمتين في الفصل السادس، إذ اعترف سعيد الفاتح بأنه مجرد واجهة لرجال الأعمال والدولة الكبار، واعتراف التوأم الميتة هند لأختها الحية هبة بأنها تلبستها وحاولت السيطرة عليها. ولفت الناقد د. سامي سليمان إلى معاناة بطلة الرواية (هند) حالة الاغتراب، وهو ما يظهر عبر اشتياقها للحبيب ومحاولة استعادة جوانب تجربتها معه، وأيضاً محاولة استعادة علاقتها بالمكان، ذلك فضلا على محاولة استعادة علاقتها بنفسها التي استلبتها إياها أختها أو توأمها الميتة هند. وأكد أن الرواية تقوم على نقد الأوضاع الاجتماعية القائمة على لسان الأب مرة ونقده للأم وتسلطها، وكذا كشفه عن ازدواجية سعيد، فضلا على موضوع أطفال الشوارع الذي تدرسه البطلة، وعرض نموذج لهؤلاء عبر تقنية الحوار التسجيلي الواقعي والفني في آن، فضلا على كشف الرواية صوراً من التحلل والفساد في سلوك أبناء الطبقات الكبيرة، واستغلالهم للطبقات الأدنى.

وفي المداخلة النقدية الأخيرة بدأ د. مصطفى عطية قائلا: تفجّر رواية "مواقيت الصمت" للروائي خليل الجيزاوى قضايا عدة، مثل: قضايا العزلة، والاغتراب الاجتماعي، وأطفال الشوارع، والعالم السري للمسئولين الكبار. إننا نلهث وراء أسطرها، ونحن ننتقل من عالم لآخر، من عالم أبطال الرواية: الأب منصور الصياد، وابنته هند، وحبيبها سعيد، وشخصيات عديدة تواجهنا ونحن نغوص في أعماق هؤلاء، إلى عالم أطفال الشوارع والمشردين. إنها شخصيات شديدة الإنسانية، على الرغم من انغماسها في القبح والسوء، و خلف كل شخصية حكاية، وخلف كل حكاية جوانب من تجبر الإنسان، وضعفه واستكانته. ونفاجأ في خضم الأحداث، وتنوّع الشخصيات أن السارد ممسك بكل الخيوط، يحركها وفق منظومة سردية تبدو للمتلقي – في الوهلة الأولى – غير مترابطة، وسرعان ما يكتشف أن هناك عشرات الخطوط التي تصل فيما بينها.
يمكن قراءة هذه الرواية بمداخل عدة، ولكن بنيتها الفنية تستدعي التوقف عندها، خاصة أن ثمة ترابطا بين هذا البناء الفني، وبين الدلالات العديدة المتولدة عنها.

العتبة الأولى: عنوان الرواية "مواقيت الصمت"، والعتبة الأولى نطالعها، وهو عنوان لا يثير التساؤل وقد لا نقف عنده كثيراً ونحن نقلب صفحة الغلاف، لكننا سرعان ما نعود إليه متعجبين، حين نتعمق في قراءة أحداث الرواية، ونعيش مع شخصياتها، ونكتشف أنها ليست أزمنة الصمت، وإنما أزمنة البوح، فالكل يفضي، والكل يتحدث، والبوح يمتد صفحات وصفحات، وكأنه نص مونودرامي، فقط ممثل واحد على ساحة الأحداث، ويحتل المسرح السردي قبل أن تتداخل معه شخصية أخرى. نرى هذا في الفصل الأول مع الأب الذي رحل عن دنيانا، ولكنه عاد يناجي ابنته "هند" عندما حاورته وهي تتأمل الصورة، ونرى هذا مع العديد من الشخصيات مثل أم شحتة، سعيد/ الحبيب، ومحمد جنينه، ويكون السؤال: هل ثمة تناقضاً بين العنوان والبنية السردية؟ والجواب: إن العنوان يقدم دلالة ضدية، أي أن الرواية وسيلة لكشف المكنون، وفوران الصدور، فالكل كان صامتين، وها هم الآن يتكلمون، فدلالة العنوان ماضية في زمنها، وأحداث الرواية تطرح رؤية آنية ومستقبلية، وهذا ما أوضحه المؤلف صراحة في الاستشهاد، في الصفحة الأولى، وقبل الإهداء حيث يذكر: "الحق أخرس والباطل له ألف لسان. مثل شعبي"، "إن كل شيء يكتمل في الصمت. أمبرتو ايكو"، ومن هنا نعلم أن المتكلمين في الرواية كانوا صامتين طيلة حياتهم، وأن مساحات البوح لديهم نادرة، والبوح هنا يخالف الكلام، فالكلام أمر حياتي معتاد، بينما البوح هو الكلام الحر عما في أعماق النفس. وأكّد ذلك الإهداء، حيث يقول المؤلف: "إلى ولدى محمد خليل الجيزاوى وجيله لعلكم تستطيعون تكسير أسوار الصمت العالية "، وبالتالي تتضح دلالة العنوان لتكون دلالة عن حال جيلنا الحاضر، والجيل السابق، من البسطاء والمهمشين والعاديين وهؤلاء الذين يؤثرون السلامة والعيش في الظل. وعلى جانب آخر في متن الرواية، نرى مقولة الأب لابنته: "مواقيت الصمت" إنها رواية عبثية عشنا أحداثها أنا وأنت يا ابنتي، لماذا لا تعيدى ترتيب كتابة أحداثها؟ ولماذا لم تبدأ مواقيت الكلام بعد؟(ص11).

وهذا يؤكد من جانب آخر الفرضية التي في العنوان، أنه عنوان تحريضي على البوح بما في الصدور من زفرات. وقد سبقت عناوين الفصول إشارات عديدة ، ولكن تأتي العناوين بسيطة من كلمة أو كلمتين، وهي تمثل في بساطتها ركيزة في البناء، فالفصل الأول حمل عنوان "صورة "، وهو علامة على أحاسيس الساردة/ هند مع صورة الأب في شقة السيدة زينب، ومن ثم يبدأ الأب بحوار الابنة، والبوح التفصيلي بكل شيء عن حياته الخاصة وعصاميته، ومن ثم تطورت دلالة الصورة من مجرد إلى صورة للأب إلى علامة على تاريخ وعلاقة شديدة الخصوصية بين الأب وابنته، ومن أهم منابع الخصوصية فيها ارتباط الأب والابنة بحي السيدة زينب. ونفس الأمر في باقي الفصول التي حملت عناوين: هو وتناول حديث الساردة عن سعيد وهي وتناول حديث الساردة عن توأمها، وأم شحتة وتناول التعرف على شخصية أم شحتة وهكذا، فالعناوين ساهمت بشكل كبير في اكتمال السرد، المعتمد على تعدد الأصوات والشخصيات.

بنية الرواية:

اعتمدت الرواية على بنية المكان والزمان المفككين، والشخصيات متعددة الأصوات، في الفصل الأول كان الأب متحدثا بشكل كبير، ثم نرى الابنة وهي تحاور الأب، وتنبش في أوراقه وكتبه، كان هذا في شقة السيدة زينب، ويعد الفصل الأول مفتاحا أساسيا في فهم الرواية، فقد قدم لنا ملخصا سرديا وفكريا عن الساردة/ هند، وحبيبها، والأم، والأخ، وهي الشخصيات المحورية في الرواية. ومن ثم جاءت الفصول الأخرى معمقة هذه الشخصيات، مع تنوّع المكان، والزمان، في ضوء الأرضية السردية التي تلقاها القارئ في الفصل الأول. ربما يُظَنُ أن هناك تشتتاً مكانياً وزمنياً وفي الأحداث، ولكن المتأمل يجد أن هناك مكاناً وزماناً مهيمنين، وفيهما كانت الأحداث وحركة الشخصيات، فالمكان المهيمن: هو حي السيدة زينب، ونجد أن الوصف دقيق لكل ما في هذا الحي، وهو وصف يتجاوز الوصف البصري إلى التحدث بشكل تفصيلي عما في الحي، من ناس وبنايات، فها هي الساردة تقول وهي عائدة من مطار القاهرة: "لفحتني رائحة الحلاوة الطحينية التي تفوح من مصانع الرشيدي، قبل تقاطع شارع قدري، غمرتني رائحة البخور، صلصلة صاجات بائعي العرقسوس، الزحمة الشديدة فرصة مناسبة؛ لأصافح مئذنة السيدة، مقام سيدي العتريس، بعده ألمح النور الأخضر الذي يشع من مقامك سيدتي، سيدة آل البيت، أقرأ الفاتحة، أردد صامتة: مدد يا أم العواجز، بسرعة يدي بالمنديل تعالج فيض الحنين، لمحت السائق يتابعني مُندهشاً"(ص29،30)؛ لقد جمع هذا الوصف ما بين حواس الساردة: البصري والشمّي، وأعماقها التي تختزن مشاعر فياضة نحو الناس والأشياء ومعالم المكان.

هذا المكان ظل مُهيمناً طوال الرواية، بينما تضاءلت مساحة الأمكنة الأخرى، فمصر الجديدة – كمكان- فيه فيلا أسرة هند، حيث عاشت فيها الأم المتجبرة، وعندما يموت كل من الأم والأب، تصبح الفيلا خاوية، إلا من حارسها فقط. نفس الأمر مع أطفال الشوارع، حيث كانت السيدة زينب ملجأ لهم من بيوتهم، وبلادهم. إنه المكان الحنون، الذي يحتضن الغني والفقير، المستقر والمشرّد.

رواية تكشف التواطؤ المجتمعي حول الفساد السياسي وتثير قضية أطفال الشوارع

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى