السبت ٢٦ أيار (مايو) ٢٠١٢
«كناري»أجمل مجموعة قصصية
بقلم علاء الديب

منذ «أرخص ليالي»

هذه مجموعة قصصية لكاتب استثنائي. صدرت «كناري» في ديسمبر 2010 وعلى الرغم من كل الأيام غير العادية التي نعيشها منذ وقت صدورها، فإنها تزداد أهمية وتفصح كل يوم عن قيمة جديدة، وقول يستحق التأمل فيه والوقوف عنده. أحمد الخميسي واحد من النادرين المتفرغين حقا للكتابة الأدبية، إنه يأخذ كلماته بقدر نادر من الجدية ويشتغل على جمله وقصصه ومعانيه كصائغ يشتغل في الذهب الغالي، أو كمحارب يدافع عن أرض الوطن، إنه صاحب إدراك مثقف لمعنى ووظيفة الأدب، وصاحب حس جمالي لايرضى إلا عندما تشف اللغة وتستقر على شاطيء الموسيقى. عشرون قصة قصيرة تطوف بك على أهم وأخطر قضايانا الاجتماعية، كما تحاول طرق كل أشكال القصة القصيرة من أول شكلها الكلاسيكي عند تشيكوف (مثلا قصتي: ممشى بين الأعشاب، وبدلة)، إلي أشكالها التجريبية الحديثة في (بط أبيض صغير، فرصة سعيدة، حديقة).

لم أتعود في هذا الباب الذي أنشغل فيه بتقديم الكاتب للقارئ أن أستغرق في العمل النقدي، ولكن الكنز الغني الذي يقدمه أحمد الخميسي يفتح مجالا خصبا لمناقشة شكل القصة القصيرة الآن، كما يضع القارئ أمام أخطر وأهم القضايا السياسية والاجتماعية بدون مباشرة فجة أو خطابية جوفاء، وأهم ما في الأمر هو البلاغة والاقتصاد اللذان تتميز بهما جمل الكاتب والعناية الفائقة بشكل القصة وبنائها بما يكشف عن عمق قضيته وأبعاد موضوعه، لذلك قارنت بين مجموعة "كناري" والعمل الخالد لعبقري القصة المصرية يوسف إدريس (1927-1991). فمجموعة " أرخص ليالي" (صدرت عام 1954) هي بشكل أوبآخر، إلي جانب قيمتها الفنية، قد ارتبطت بثورة 1952، كما ترتبط " كناري " بدون افتعال وتزيد بالأجواء التي كانت مقدمة لثورة يناير 2011.

اسمع هذا المقتطف الطويل من القصة رقم 3 والتي عنوانها " انتظار ":

" أحس رمضان الصايع بالأسى.. وشعر لأول مرة في حياته بأن شيئا ما لابد أن يقع فتتبدل بعده الحياة. بعيدا عن القاهرة على أطراف الطريق الزراعي استراح الجميع في أرض خلاء فسيحة، رقدوا في أماكنهم كيفما اتفق. وفي الصباح تأملوا المكان حولهم واستقروا فيه. ثلاث ليال امتد حبل الحكايات بينهم، ودفق كل منهم قصته للآخرين مرة كالوجع ومرة كالأمل. البعض كان ينسحب عائدا إلي المدينة، إلا أن صفوف الوافدين واصلت تدفقها. أناس من كل ناحية يأتون، يضعون حقائبهم، ويقصون حكاياتهم، وأخبار المليارات التي تسرق هناك، والحرائق المدبرة التي تلتهم الوثائق والتاريخ والمباني العريقة، العبارات التي تغرق في البحر بمن فيها، والجميلات اللواتي يقتلهن رجال الأعمال العشاق لحظة غضب، والقطارات المغلقة على الموت، وانفجارات المظاليم في قرع الطبول الأعمي، وحينما تتراخى أذرعهم بجوارهم ولا يعود لديهم ما يقصونه يقف رمضان الطويل ضاربا بمغارف كفيه صائحا "الفرج". كان كل منا ينتظر وحده، لكننا الآن معا، قوة من الآمال، وقوة من اليأس الصلب، ولابد لانتظارنا أن يشق بصوتنا السماء والأرض. الرجل الذي لم يعرف أحد اسمه انحنى على الأرض ببطء وتناول فرع شجرة اتجه به إلي المرتفع وغرسه في الطين، ثم عقد على طرفه خرقة صغيرة، تطلع الحشد الصامت إليها وهي ترفرف بتراخ ثم وهي تخفق في الريح بكل قوتها، علما على طين يختلج بالانتظار ".
في تلك السطور أشم رائحة ثورة شعب لا تطفئها مياه البحر!

يطرق أحمد الخميسي في القصة رقم 5 بعنوان "باب مغلق" في براعة ونبل إنساني نادر قضية العلاقة بين المسلم والمسيحي في هذه الأيام الغريبة التي أبنتت في الجانبين شرورا مجهولة، ووضعت بين الناس بابا مغلقا، ونسيت أو تناست أن (الرحمن الرحيم تساوي الله محبة). وكان الخميسي قد أصدر عن هذا الموضوع دراسة مستقلة عام 2007 بعنوان "الباب المغلق بين الأقباط والمسلمين". وفي تجربة إبداعية مجنونة سجل المؤلف في القصة رقم 6 وعنوانها " قصة " تجربة علاقة بين الكاتب وقصته ومنح العمل من الخيال والجمال ماحول العلاقة إلي قصة حب ملتهب نادرة المثال. وفي قصته " نظام جديد " يحمل المؤلف على كل ما يمكن أن يقال عن النظام القمعي الذي سيطر على روح الأمة وصبغ حتى فكاهتها بلون أسود مر المذاق. كذلك قصة "بدلة" التي تحدثنا عن الضباط والعسكر وسيطرتهم على الواقع. أما أنا فقد أحببت بشكل خاص قصة " فرصة سعيدة " التي تروى في سطور قليلة ألم أب يفتقد إبنه الذي يعيش بعيدا مع والدته التي أخذته ورحلت به.

في أبريل الماضي 2012 كان قد مر ربع قرن على رحيل "القديس". و"القديس هو الشاعر والفنان الشامل والمناضل السياسي والإنساني عبد الرحمن الخميسي (1920-1987) وهو نموذج لم يتكرر في حياتنا الثقافية والفنية، وهو بالنسبة لأحمد الخميسي ليس فقط والده، ولكنه روح فنية وأخلاقية وثورة فكرية وإنسانية تسكن روحه. من أشهر كلمات الخميسي الكبير والتي تحاول تلخيص كفاحه من أجل الفن الذي وهب له نفسه وحياته كلها قوله " عشت أدافع عن قيثارتي.. فلم أعزف ألحاني" ملخصا في تلك الكلمات الصعاب التي كانت توضع في طريقه والطاقة الإبداعية التي كانت تسكن عمره وأيامه. وقد عزف عبد الرحمن الخميسي ألحانا، وأشعارا، وأهدى لنا يوسف إدريس حين قدمه بجريدة المصري، ثم الجمهورية، وسعاد حسني ذلك الشهاب الذي أطلقه في فيلمه الخالد "حسن ونعيمة"، إلي جانب أشعار وأعمال فنية لم تجد من يعيد تقديمها بعد.

أحمد الخميسي المولود 1948، والحاصل على دكتوراه الأدب من موسكو 1992، يدافع عن قيثارته ويعزف ألحانه ويعيد لنا في نبله وكرمه وفروسية أخلاقه ذكرى شاعر وفنان عظيم. يقول أحمد في ختام مقال رائع كتبه عن والده بسطور من شعر القديس:

"وأحب هذا السهل منبسطا كما
أهوى الجبال وأعشق الوديانــــا
وأقاسم الليل الحزين شجـــــونه
وأساجل الفجر الجميل حنانا..."

هذا صوت القديس مازال يتردد. ويقول أحمد لوالده: "ويظل صوتك المغرد في ضميري".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى