الأربعاء ١٢ حزيران (يونيو) ٢٠٢٤
السرديات المبتسرة للطبقة الوسطى

من المصباح السحري إلى التشظي إلى التعميم إلى النخبوية

صالح سليمان عبدالعظيم

تمهيد:

نشر الأستاذ الدكتور "أحمد زايد" (وهو أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة، المستشار الثقافي السابق لمصر في الرياض، مدير مكتبة الإسكندرية، عضو المجلس القومي للمرأة، عضو مجلس الشيوخ، ناهيك عن الكثير من المناصب الأكاديمية وغير الأكاديمية الأخرى السابقة والآنية واللاحقة والعضويات المتناثرة هنا وهناك) مجموعة من المقالات في جريدة الأهرام القاهرية تناول من خلالها أوضاع الطبقى الوسطى المصرية، مُعنونة على النحو التالي:

1- الطبقة الوسطى.. التراكم البدائي لأرصدة القوة، 30 مارس 2024

2- الطبقة الوسطى والأسئلة الصعبة (1) 13 أبريل 2024

3- الطبقة الوسطى.. تقاطعات الاقتصاد والثقافة 27 أبريل 2024

4- الطبقة الوسطى.. الحدود والجيوب 11 مايو 2024

جاءت مقالات الكاتب متقطعة في سرديتها ومبتسرة بدرجة كبيرة، وهو أمر يُصعّب من مهمة التحليل والنقد والمتابعة. فالمقالات، كما سوف نوضح لاحقا، انطوت على قفزات غير عادية، وأنماط تشتت سردية ضحلة بدرجة كبيرة، تقافزت بعقولنا من حالة لأخرى، ومن محطة لغيرها على غير انتظام تحليلي، أو موقف نظري متماسك. ومُجمل الأمر عندنا، أنها أقرب ما تكون، بدرجة أو بأخرى، لانطباعات فنان، أو توجهات سياسي، منها لمحلل سوسيولوجي لديه عشرات الإصدارات الأكاديمية عبر عشرات السنين، ولديه مخزون خبراتي وحياتي عريض، ريفي في المقام الأول بحكم النشأة، وحضري في المقام الثاني بحكم التعليم والحراك الاجتماعي، يجعله قادرا على رصد وتحليل المشهد الراهن للطبقة الوسطى بدرجة كبيرة من الموضوعية والنضارة الأخلاقية- على حد تعبير الكاتب ذاته- والإنصاف الاجتماعي.

بل إن الكاتب نفسه يقدم عبر حضوره الفكري، وعبر عقود طويلة من العمل الجامعي، حالة واضحة وجلية للحراك الاجتماعي الذي يمكن أن يواجهه شخص ما وفد من الريف والتحق بالجامعة، ومر بحراك اجتماعي مثير للدهشة أوصله إلى ما هو فيه الآن. كما أنه أيضا يقدم مقارنات رائعة وعميقة بينه وبين غيره من الأكاديميين الذي كتبوا مثله عبرعشرات السنين، ومازالوا يقيمون في أحياء متواضعة، أوربما يعتمدون على وسائل النقل العامة في حركتهم وتنقلاتهم، ولم نسمع منهم وعنهم من قريب أو بعيد.

وقبل أن نُوغل في تحليل الجوانب الفكرية للكاتب، والمرتبطة بالطبقة الوسطى، فإننا سوف نقوم بعمل تحليل نقدي سريع يركز على الأنماط اللغوية، والتماسك البنيوي، والقفزات التحليلية، والارتباطات بين الأفكار؛ وهو أمر يشي، أو قد يشي، بطبيعة البنية الفكرية والعقلية لما تم كتابته عن هذه الطبقة المتعبة والمرهقة والمتحولة دائما.

 تُظهر لغة الكاتب ميلاً نحو الإسهاب والتعبيرات الملتوية المطاطة. وغالبًا ما يحجب هذا الإسهاب وضوح حججه ويجعل من الصعب على القارئ متابعة التقدم المنطقي لأفكاره. إضافة إلى عدم الدقة في تعريفاته وأطره المفاهيمية، مما يؤدي إلى الغموض والارتباك.

 من الناحية البنيوية، تفتقر المقالات إلى التماسك، حيث يتم تقديم الأفكار بطريقة مفككة دون انتقالات واضحة بين الفقرات أو الأقسام. هذا الافتقار إلى التماسك البنيوي يقوض التدفق العام للمقالة الواحدة من ناحية، وللمقالات المتعددة من ناحية أخرى، وينتقص من سهولة قراءتها وإقناعها.

 من الناحية التحليلية، غالبًا ما تتضمن حجج الكاتب قفزات كبيرة في المنطق، حيث يقدم تأكيدات دون تقديم أدلة أو مبررات كافية لدعم ادعاءاته. وهذا الميل نحو التفكير التأملي يقلل من مصداقية حججه ويثير تساؤلات حول دقة نهجه التحليلي.

 علاوة على ذلك، هناك نقص ملحوظ في الارتباط بين الأفكار في جميع أنحاء المقالات الأربع، حيث يقدم الكاتب المفاهيم والمواضيع دون دمجها بشكل مناسب في إطار سردي متماسك أو جدلي. ويؤدي هذا العرض المفكك للأفكار إلى تجربة قراءة مجزأة ومفككة، حيث يكافح القراء لتمييز الأطروحة الشاملة أو هدف المقالات النهائي.

بشكل عام، يكشف التحليل النقدي للمقالات عن عيوب كبيرة من حيث الوضوح اللغوي، والتماسك البنيوي، والدقة التحليلية، والاتساق المنطقي. إن أوجه القصور هذه تنتقص من فعالية حججه وإقناعها بشكل عام، مما يلقي بظلال من الشك على موثوقية ومصداقية استنتاجاته. وهو ما سوف نشرحة بدرجة أكبر من الإجرائية عبر التحليل العام للمقالات الأربع المنشورة.

المصباح السحري وأطماع الطبقة الوسطى:

تتناول مقالات الكاتب أحوال الطبقة الوسطى المصرية وتساؤلاتها، وتتطرق إلى وجودها، وتحديد خصائصها، والعوامل المؤثرة في ظروفها. لكن يمكن طرح عدة انتقادات فيما يتعلق بالأفكار المقدمة، ودقتها، وخصوصيتها، والجوانب المهملة، لا سيما دور الدولة في تشكيل الطبقة الوسطى. تبدأ سرديات الكاتب عن الطبقة الوسطى بحكاية من الفولكلور الريفي في صعيد مصر، بهدف توضيح موضوع الجشع المفرط وعواقبه. وفي حين أن الحكايات يمكن أن تكون أدوات فعالة لإشراك القراء وتوفير السياق الثقافي، فإن هذه القصة تبدو منفصلة عن المناقشة الأوسع للطبقة الوسطى والتراكم البدائي للسلطة.

ويُعد استخدام الفولكلور لإيصال درس أخلاقي أداة أدبية شائعة، لكن صلته بالحجة المركزية للمقالات غير واضحة. فقصة الرجل الجشع الذي وجد كنزاً من الذهب لا تتعلق بشكل مباشر بسلوك الطبقة الوسطى أو بمفهوم التراكم البدائي كما عرضه الكاتب في مقالاته. وهى تحمل شكلا تعميمياً من أشكال الكتابة، يُسقط من خلاله الكاتب سلوكيات شريحة ضيقة جدا من أبناء الطبقة الوسطى، من حملة المناصب وبعض العاملين في بعض المهن المرتبطة بالطب والتعليم والهندسة وغيرها، على الملايين من الغلابة الذين ينتمون إليها، ويصارعون مُر الحياة اليومية، ومازالت ضمائرهم الحية واليقظة ترفض هذا المصباح السحري، والتعامل مع حامليه حتى الآن.

ونتيجة لذلك، فإن إدراج قصة المصباح السحري يبدو عرضيًا وينتقص من تماسك الحجة المرتبطة بالتحليل، ناهيك عن افتقارها إلى السياقية المجتمعية والتطور التاريخي العميق. فالكاتب يعرض قصة الفولكلور دون إجراء فحص نقدي لأهميتها أو صلتها بالموضوع الأوسع للمقالات. ولا يوجد عرض لكيفية عكس القصة للمواقف المجتمعية تجاه تراكم الثروة أو كيفية ارتباطها بالسلوكيات الملحوظة داخل الطبقة الوسطى. وبدون هذا التحليل، لا تكون الحكاية أكثر من مجرد انعطاف سردي ينتقص من تركيز المقال وتماسكه.

تعسفية استخدام مفهوم التراكم البدائي:

نشأ مفهوم "التراكم البدائي" من الاقتصاد السياسي الماركسي ويشير إلى العملية التاريخية التي يتم من خلالها تراكم رأس المال في البداية، عادة من خلال عمليات مثل الاستعمار والعبودية وضم الأراضي. وهو ينطوي على الاستيلاء القسري على الموارد والثروات من المجتمعات أو القطاعات غير الرأسمالية، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تجريد الفئات المهمشة من ممتلكاتها واستغلالها. في مقال الكاتب، يشير استخدام مفهوم التراكم البدائي لوصف اتجاهات معينة داخل الطبقة الوسطى إلى أنه يرى أوجه تشابه بين العمليات التاريخية لتراكم الثروة والسلوكيات المعاصرة التي يُظهرها أفراد أو مجموعات الطبقة الوسطى المصرية. ومع ذلك، فإن قابلية تطبيق هذا المفهوم وأهميته لديناميات الطبقة الوسطى المعاصرة تنطوي على تعسف حاد في التطبيق، ويمكن التشكيك فيها لعدة أسباب:

السياق التاريخي مقابل الواقع المعاصر: ظهر مفهوم التراكم البدائي في سياق الرأسمالية المبكرة والانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية. وفي حين أنه قد يساعد في فهم العمليات التاريخية لتراكم الثروة، إلا أن تطبيقه المباشر على سلوكيات الطبقة الوسطى المعاصرة يكون محدودًا جدا. لقد تطورت ديناميات تراكم الثروة والعلاقات الطبقية بشكل كبير منذ زمن ماركس حتى الآن، حيث لعبت عوامل جديدة مثل العولمة والتكنولوجيا والتحولات المالية أدواراً حاسمة. فلا هو يصلح لوصف وتحليل الطبقة الوسطى في المجتمعات الغربية الأكثر نقاء من حيث القدرة على توصيفها طبقيا أو شرائحيا، ولا هو، بالطبع، يصلح لتوصيف وتحليل الطبقة الوسطى في مجتمعنا المصري، الذي تسيل فيه الحدود، وتتداخل الشرائح، وتتباين من خلاله الأهواء.

تعقيد سلوك الطبقة الوسطى: سلوك الطبقة الوسطى في المجتمعات المعاصرة متعدد الأوجه ويتأثر بعوامل مختلفة مثل النزعة الاستهلاكية والتعليم والحراك الاجتماعي والأعراف الثقافية. وفي حين أن بعض السلوكيات قد تشبه جوانب التراكم البدائي، فإن إسنادها إلى هذا المفهوم فقط يبالغ في تبسيط تعقيدات ديناميات الطبقة المتوسطة. وبدون تفسير واضح لكيفية تطبيق المفهوم على سلوكيات أو ظواهر محددة لوحظت في الطبقة الوسطى، نجد صعوبات في فهم الآثار الناجمة عنه. وإلا بهذا المعنى، سوف نعتبر الملايين من أبناء الطبقة الوسطى الذين يكدحون طوال اليوم، ويعملون في أكثر من مهنة، ويعودون آخر اليوم مهدودي الحيل والعافية والصحة والنفسية، طماعين!! والغريب أن هؤلاء الملايين الكادحين من أبناء الطبقة الوسطى المصرية، غابوا تماما عن العرض النخبوي للكاتب، غيابا مُريبا ومُخيفا ومُجحفا يثير الكثير من التساؤلات والإندهاش!!

الوضوح والتفصيل: تفتقر سرديات الكاتب إلى الوضوح في تعريف مفهوم التراكم البدائي وتوضيحه في سياق الطبقة الوسطى المصرية. ويقدم الكاتب هذا المصطلح لكنه لا يقدم شرحًا تفصيليًا لكيفية ظهوره أو عمله في المجتمع المعاصر. وبدون أمثلة واضحة وتاريخية، فإن ذلك يُفضي إلى خلق صعوبات في ربط المفهوم بظواهر العالم الحقيقي أو فهم أهميته.
تفسيرات بديلة: قد تكون هناك تفسيرات بديلة للسلوكيات أو الميول الملحوظة داخل الطبقة الوسطى المصرية، والتي لا تتوافق بالضرورة مع مفهوم التراكم البدائي. ويمكن لعوامل مثل السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، والتحولات الثقافية، والتقدم التكنولوجي، والتقسيم الطبقي الاجتماعي أن تؤثر أيضًا على سلوكيات الطبقة الوسطى ونتائجها. وبدون النظر في هذه التفسيرات البديلة، يظل التحليل غير مكتمل، وربما متحيز.

باختصار، في حين أن مفهوم التراكم البدائي قد يقدم نظرة ثاقبة لبعض العمليات التاريخية لتراكم الثروة، فإن تطبيقه المباشر على ديناميات الطبقة الوسطى المصرية يتطلب دراسة وتبريرًا متأنيين. وبدون تعريفات واضحة وتوضيحات سياقية تاريخية واقعية وملموسة، يفتقر المفهوم إلى الأهمية وقابلية التطبيق لفهم تعقيدات سلوك الطبقة الوسطى في المجتمعات الحديثة.

الدقة والخصوصية:

إن الانتقادات المتعلقة بدقة وخصوصية سرديات الكاتب للطبقة الوسطى تبدو معقولة وواقعية لعدة أسباب:

عدم وجود أدلة تجريبية: تقدم المقالات في مجموعها تأكيدات حول الطبقة الوسطى المصرية وظروفها دون تقديم أدلة تجريبية أو بيانات إحصائية لدعم هذه الادعاءات. وبدون أمثلة ملموسة أو نتائج بحثية، يُترك القراء للاعتماد فقط على تفسيرات وحكايات الكاتب الذاتية. ويبدو الأمر برمته في النهاية، عبارة عن سيرة ذاتية بالغة النخبوية في تجاربها من ناحية، وفي حدود تماسها مع فئات أخرى متنوعة وعديدة من أبناء الطبقة الوسطى من ناحية أخرى، وفي تعاميها الفكري عن رؤية المشهد بعين السوسيولوجي المُنصف لا بعين السياسي المُجحف. هذا النقص في الدعم التجريبي يُضعف مصداقية الحجج المقدمة، ويترك مجالا للشك حول صحة الاستنتاجات المستخلصة.

الطبيعة التأملية للحجج: نظرًا لأن المقالة تفتقر إلى الأدلة التجريبية، فإن العديد من حججها تظهر على أنها تأملية وليست مبنية على تحليل موضوعي. ولا تزال الادعاءات المتعلقة بالاتجاهات الناشئة داخل الطبقة الوسطى أو تأثير سياسات أو سلوكيات معينة غير مدعومة بأدلة، مما يجعل من الصعب على القراء تقييم دقتها أو ملاءمتها. وبدون بيانات تجريبية لدعم هذه الادعاءات، فهي مجرد تخمين وآراء ذاتية محضة.

تعريف واسع للطبقة الوسطى: تعريف الكاتب للطبقة الوسطى هو تعريف واسع وشامل، يتناول مختلف المجموعات الاقتصادية والمهنية. وفي حين أن الشمولية مهمة، فإن هذا التعريف الواسع يبالغ في تبسيط تعقيدات ديناميات الطبقة ويفشل في التقاط الاختلافات النوعية والدقيقة داخل الطبقة الوسطى. فالطبقة الوسطى المصرية ليست كيانًا متجانسًا، بل هي مجموعة متنوعة ذات مستويات متفاوتة من الثروة والدخل والتعليم والوضع الاجتماعي. ومن خلال جمع هذه المجموعات المتنوعة معًا، يتجاهل الكاتب الفروق المهمة التي قد تؤثر على تجاربهم وسلوكياتهم. لقد فشل التحليل في تقديم تعريف واضح للطبقة الوسطى، واعتمد بدلاً من ذلك على تأكيدات غامضة وملاحظات سردية هشة وضحلة. وبدون إطار مفاهيمي دقيق، تفتقر المناقشة حول الحدود الطبقية والجيوب إلى الوضوح والتماسك، مما يجعل من الصعب فهم الحجة المركزية للكاتب. بالإضافة إلى ذلك، يفتقر تحليل الكاتب إلى الدقة في تصوير الهويات الطبقية وأساليب الحياة. ويصور المؤلف الطبقة الوسطى المصرية كمجموعة متجانسة ذات تطلعات وقيم موحدة، متجاهلاً تنوع الخبرات ووجهات النظر داخل هذه الفئة الاجتماعية والاقتصادية. هذا التبسيط المفرط يقوض تعقيد ديناميات الطبقة ويفشل في التقاط الحقائق المعيشية للأفراد عبر المواقف الطبقية المختلفة.

غياب التحديد في التحليل: يفتقر السرد إلى التحديد في تحليله للطبقة الوسطى، ويُطلق تعميمات شاملة دون الخوض في سياقات أو ظروف محددة. وبدون أمثلة محددة أو دراسات حالة لتوضيح نقاطه، يفشل في تقديم فهم دقيق للطبقة الوسطى والعوامل التي تشكل ظروفها. وتعد الخصوصية أمرًا بالغ الأهمية لتقييم التحديات والفرص التي تواجه مختلف شرائح الطبقة الوسطى بدقة وتحديد الحلول المستهدفة. فالتحليل الراهن للطبقة الوسطى شابه تعميمات كاسحة وادعاءات لا أساس لها. كما يرسم الكاتب صورة مبسطة للحراك الطبقي، مما يشير إلى أنه يمكن للأفراد الانتقال بسهولة بين المواقف الطبقية المختلفة بناءً على عوامل مثل التعليم وتراكم الثروة. ومع ذلك، فإن هذا التصوير يتجاهل الحواجز البنيوية وأوجه عدم المساواة التي غالبا ما تعيق الحراك التصاعدي للفئات المهمشة داخل المجتمع.

في الختام، فإن الافتقار إلى الأدلة التجريبية، والطبيعة التأملية للحجج، والتعريف الواسع للطبقة الوسطى، والافتقار إلى التحديد في التحليل، يقوض دقة وخصوصية عرض طبيعة الطبقة الوسطى المصرية وجوانبها المختلفة. وعلى العكس من ذلك، فإن البحث التجريبي، والأمثلة المحددة، والفهم الدقيق للديناميات الطبقية ضرورية لتوفير صورة أكثر دقة وشمولاً للطبقة الوسطى في المجتمع المعاصر.

الجوانب المُهملة:

إن النقد المتعلق بالجوانب المُهملة في مناقشة الكاتب للطبقة الوسطى قد يكون مقبولا بالفعل، وله حجيته، خاصة فيما يتعلق بدور الدولة. وفيما يلي سوف نعرض لبعض الجوانب المُهملة في تحليل الكاتب، والتي لا يمكن التعرض للطبقة الوسطى المصرية بدونها:

الدولة والسياسات واللوائح الحكومية: فشل تحليل الكاتب للطبقة الوسطى في تناول كيفية تشكيل الدولة والسياسات واللوائح الحكومية بشكل مناسب للوضع الاقتصادي وتحولات الطبقة الوسطى. فتدخلات الدولة، مثل السياسات الضريبية، والإعانات، واللوائح التجارية، والسياسات النقدية، لها تأثير كبير في توزيع الثروة والفرص داخل المجتمع. فعلى سبيل المثال، يمكن للسياسات الضريبية إما أن تخفف أو تؤدي إلى تفاقم التفاوت في الدخل من خلال إعادة توزيع الثروة من خلال الضرائب التصاعدية أو تفضيل الأثرياء من خلال الإعفاءات الضريبية. وعلى نحو مماثل، من الممكن أن تؤثر القواعد التنظيمية المتعلقة بحقوق العمل، وحماية المستهلك، والمنافسة على القدرة التفاوضية التي تتمتع بها الطبقة المتوسطة في الاقتصاد. علاوة على ذلك، يُهمل الكاتب معالجة دور العوامل النظامية مثل السياسات الاقتصادية والأعراف الاجتماعية والمؤسسات السياسية في تشكيل الحدود الطبقية والجيوب المرتبطة بها. ومن خلال التركيز فقط على السلوكيات والتطلعات الفردية، يتجاهل الكاتب أيضا القوى البنيوية الأوسع التي تعمل على إدامة التقسيم الطبقي وعدم المساواة في المجتمع. ومن هنا فقد غابت الدولة وسياساتها وتوجهاتها عن تحليل الكاتب تماما، ولا أعلم كيف تم ذلك؟ وكيف لم تطرُق تلك الوحدة التحليلية بالغة الأهمية باب المخزون الفكري لعالم الاجتماع السياسي، وأستاذ النظرية السوسيولوجية؟

البرامج الاجتماعية وسياسات الرعاية الاجتماعية: يُغفل العرض دور البرامج الاجتماعية وسياسات الرعاية الاجتماعية في دعم الطبقة الوسطى. وتلعب البرامج الممولة من الحكومة، مثل الرعاية الصحية والتعليم والمساعدة الإسكانية وإعانات البطالة، دوراً حاسماً في توفير شبكات الأمان الاجتماعي وفرص الحراك التصاعدي للأفراد والأسر من الطبقة المتوسطة. إن إهمال دراسة تأثير هذه البرامج على الأمن الاقتصادي والحراك الاجتماعي للطبقة الوسطى يؤدي إلى تحليل غير مكتمل لظروفها وتحدياتها. وهو أمر كان يحتاج لتركيز كبير من الكاتب، وربطه بتحولات الدولة المصرية منذ العام 1952 وحتى الآن؛ وهو ما يمنحنا الكثير من التفسيرات وجلاء الأمر للكيفية التي أُعيد بها تشكيل الطبقة الوسطى عبر التغيرات الأيديولوجية للدولة المصرية وأجهزتها المختلفة.

سياسات التعليم: تؤثر سياسات التعليم، بما في ذلك مستويات التمويل، وتطوير المناهج الدراسية، والحصول على التعليم الجيد، بشكل كبير على قدرة الطبقة الوسطى على تحسين وضعها الاجتماعي والاقتصادي. إن استثمار الدولة في التعليم، من مرحلة الطفولة المبكرة وحتى التعليم العالي، من الممكن أن يعزز المهارات والمعرفة وإمكانات الكسب لدى أفراد الطبقة المتوسطة. وعلى العكس من ذلك، فإن التفاوت في الفرص التعليمية على أساس الوضع الاجتماعي والاقتصادي يمكن أن يؤدي إلى إدامة عدم المساواة والحد من الحراك التصاعدي. ومن خلال إهمال مناقشة سياسات التعليم، يتجاهل الكاتب عاملًا حاسمًا في تحديد آفاق الطبقة الوسطى المصرية.

الأنظمة الضريبية وتوزيع الثروة: فشل الكاتب في دراسة كيفية مساهمة الأنظمة الضريبية في توزيع الثروة والحراك الاقتصادي داخل الطبقة الوسطى. ومن الممكن أن تساعد السياسات الضريبية التصاعدية التي تفرض ضرائب على الدخول الأعلى بمعدلات أعلى في تخفيف التفاوت في الدخل ودعم الأسر من الطبقة المتوسطة. وعلى العكس من ذلك، يمكن للسياسات الضريبية التنازلية التي تثقل كاهل الأفراد من ذوي الدخل المنخفض بشكل غير متناسب أن تؤدي إلى تفاقم فجوة التفاوت وإعاقة الحراك التصاعدي. ومن خلال تجاهل دور الأنظمة الضريبية في تشكيل الوضع الاقتصادي للطبقة الوسطى، يتجاهل الكاتب جانبا حاسما من تدخل الدولة في النتائج الاجتماعية والاقتصادية.

وفي الختام، فإن إهمال دور الدولة في تشكيل أوضاع الطبقة الوسطى وآفاقها يقوض شمولية التحليل ودقته، حيث تلعب السياسات والأنظمة والبرامج الاجتماعية الحكومية دورًا مهمًا في التأثير على توزيع الثروة والفرص داخل المجتمع، ويؤدي تجاهل هذه العوامل إلى تحليل غير كامل لوضع الطبقة الوسطى وتحدياتها.

تحيزات الكاتب:

إن الموقع الطبقي المتميز للكاتب كأستاذ جامعي يستفيد من الوظائف والموارد المتاحة يقدم بالفعل تحيزات محتملة في تحليله للطبقة الوسطى. وباعتباره عضوا في النخبة الأكاديمية، وعضوا في الهيكل المجتمعي، فقد يكون لديه منظور يختلف عن منظور الأفراد الذين يواجهون تحديات اقتصادية داخل الطبقة الوسطى. ويمكن لهذا الموقع المتميز أن يؤثر على فهمه للديناميات الطبقية ودور الدولة في تشكيل القضايا الاجتماعية والاقتصادية بعدة طرق:

وقد يحُد موقع الكاتب المتميز من فهمه لنضالات وتجارب الأفراد من خلفيات أقل حظًا داخل الطبقة الوسطى. وقد لا تعكس تجاربه ونظرته للعالم كأستاذ جامعي الحقائق المتنوعة التي يواجهها أفراد الطبقة المتوسطة الذين يعملون في قطاعات أخرى أو يواجهون ظروفًا اجتماعية واقتصادية مختلفة. كما قد تؤدي المكانة المتميزة التي يتمتع بها الكاتب إلى الانحياز التأكيدي، حيث يفسر بوعى أو بدون وعي (غالبا في حالة الكاتب الراهنة بوعى عميق جدا) المعلومات بطريقة تؤكد معتقداته أو تجاربه الموجودة مسبقًا. وقد يؤثر هذا التحيز على تحليله للتحديات التي تواجهها الطبقة الوسطى، وربما يتجاهل أو يقلل من أهمية القضايا التي لا تتوافق مع تجاربه الخاصة. إن إدراك الفرد لتحيزاته وامتيازاته أمر ضروري لإجراء فحص شامل وموضوعي للظواهر الاجتماعية. ومن دون الاعتراف بمكانته المتميزة، يفتقر التحليل إلى التأمل الذاتي والتواضع اللازمين لفهم تعقيدات ديناميات الطبقة والقضايا الاجتماعية والاقتصادية بشكل كامل.

خاتمة:

في الختام، بينما يثير التحليل الراهن تساؤلات مهمة حول الطبقة الوسطى وأوضاعها المعاصرة، فإنه في النهاية لا يرقى إلى تقديم تحليل شامل ودقيق. فهناك العديد من أوجه القصور الرئيسية التي تقوض فعالية المقالة في المساهمة في فهم أعمق للطبقة الوسطى:

إهمال دور الدولة: يتجاهل الكاتب الدور الحاسم للدولة في تشكيل ظروف الطبقة الوسطى وآفاقها، حيث تؤثر السياسات واللوائح والبرامج الاجتماعية الحكومية بشكل كبير على الحراك الاقتصادي، وتوزيع الدخل، والوصول إلى الفرص داخل المجتمع. ويؤدي تجاهل هذا الجانب إلى تحليل غير مكتمل يفشل في فهم القوى البنيوية الأوسع التي تشكل الطبقة الوسطى. فالدولة المصرية تمثل إحدى وحدات التحليل الهامة المرتبطة بأشكال التغيير المختلفة، والاستقرار المجتمعي الدائم.

الاعتماد على المفاهيم التأملية: ينطلق الكاتب من مفاهيم تأملية مثل "التراكم البدائي" دون ترسيخها بشكل كافٍ في الأدلة التجريبية أو الأمثلة الواقعية. وهذا الاعتماد على النظريات المجردة دون دعم تجريبي يحد من قدرة العرض على تقديم رؤى ملموسة حول ديناميات الطبقة الوسطى.

الفهم المحدود للتعقيدات: من خلال إهمال دور الدولة والاعتماد على مفاهيم تأملية، يقدم العرض فهمًا محدودًا للتعقيدات المحيطة بالطبقة الوسطى. إن الديناميات الطبقية متعددة الأوجه، وتتأثر بعدد لا يحصى من العوامل بما في ذلك القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومن ثم فإن الفشل في النظر في هذه التعقيدات يقوض العمق التحليلي واتساع نطاق المقالات ورؤيتها الواقعية وشبه الموضوعية لعالم الطبقة الوسطى المتسع.

خلاصة القول، رغم أن التحليل يطرح أسئلة مهمة حول الطبقة الوسطى، إلا أنه يفشل في تقديم تحليل شامل بسبب إهماله لدور الدولة واعتماده على مفاهيم تأملية يرسي من خلالها تحيزاته الضيقة جدا، ويعلي من شأن مصالحه الخاصة جدا. ومن الضروري إجراء فحص أكثر دقة يأخذ في الاعتبار التفاعل بين العوامل المختلفة التي تشكل الطبقة الوسطى لفهم ظروفها وتحدياتها المعاصرة بشكل كامل.

صالح سليمان عبدالعظيم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى