من تجارب أدب الطفل في العراق
لقد كتبت سابقاً عن تجربتي الذاتية في الكتابة والإبداع، وقد تناولت وقتها قصة الطفل وقلت فيها : إن تدوين التجربة الذاتية يعد من أصعب الأعمال التي يواجهها الكاتب، لأنه من الصعب على الكاتب أن يتمكن من ذلك مهما كانت قدرته وإبداعه، لأن التفريق بين سمات التجربة الذاتية وبين وسائل الإبداع الأخرى صعبٌ جداً، وتكمن الصعوبة والحرج في هذا الخلط الذي قلما يستطيع أحدٌ تجاوزه، ومع هذا فإن الخوض في هذا المجال ما هو إلا تجربة.. وكما ذكرت سابقاً بأن التجربة قابلة للفشل أو للنجاح وكلتا الحالتين تقدمان شيئاً للفكر وللإبداع وللتراث الإنساني والحضاري الذي نطمح كلنا لأن نساهم فيه ونصنع لبنة ربما ستكون متميزة وذات تأثير وأهمية.
– لقد كتبت كثيراً من المسرحيات الموجهة للطفل منها:
1. فرح وفرح
2. بيت للجميع
3. الأصدقاء الطيبون
4. أصدقاء الشمس.
ولنقف قليلاً عند مسرحية أصدقاء الشمس التي مثلت مرات عديدة وأخرجها مخرجون معروفون وفكرة المسرحية تقوم على عملية سرقة الشمس من الغابة من قبل مجموعة من الأشرار.. وتقوم مجموعة الخير باستعادة الشمس من هؤلاء الأشرار… ويبدأ احتفال الفرح بعودة الشمس وهم يغنون:
مهما احتالوا… مهما فعلوا،تبقى الشمس هي الشمس،يبقى لقياها عرسُ،مهما احتالوا، وأرادوا من شمسي النيل،سيدق ناقوس الويل،وستهب أشباح الليل،نور الشمس.. هو الشمس،وتبقى الشمس هي الشمس،ويبقى لقياها عرسُ
بعد هذا أقول: الكتابة بدءاً لا تكون إلا من خلال المؤلف، إذ هو الذي يحدد أصلاً ما يعمل، حيث تختمر الأفكار في ذهنه وتتصارع أنواعاً وأشكالاً، فهناك شيء في نفسه يدعوه ويحثه ويوجه طلبات متتالية إلى عمق ذاته، يحس المؤلف انه مقدم على إنجاز شيء، يلتفت يميناً وشمالاً، إنه محاط ومحاصر برغبة ملحة في كتابة مسرحية للأطفال… أية مسرحية، أبطال وشخوص كثيرون يمرون أمامه، ذهنه ممتلئ بهم، أفكار مختلفة ومسرحيات متنوعة تتأرجح الرغبة، ترى أي نوع من المسرحية يكتب، هل انه يفكر في كتابة مسرحية لأطفالٍ دون سن التاسعة، حيوانات صغيرة مألوفة، حوار بسيط، فكرة موجزة ، وقت قليل.. أهذهِ هي صفات المسرح لهذا العمر؟، أم أنها مسرحية لأطفال فوق التاسعة ولها أيضاً مواصفاتها، حيث كل شيء يتعقد وينمو؟.. أم أنها لأطفال تجاوز والثالثة عشرة حيث تدخل المغامرات والأساطير والأبطال المتفوقون، وعلى خط آخر من نفس المسألة، يفكر الكاتب بالأشخاص الذين يمثلون المسرحية.
أهم أشخاص؟ أم حيوانات؟ أم أنهم دمى؟ والدمى على أنواع أشهرها القفازية وتلك التي تتحرك بواسطة الخيوط.. أو بصورة سطحية ذات بعد واحد مسطح، ولكل نوع من هذه الأنواع طريقة في الكتابة.. طريقة في الحوار.. طريقة في الحركة والإخراج والمؤثرات وللديكور النصيب الأكبر والأكثر تعقيداً في هذه المعاناة.
لقد حددت في ذهني الآن أي نوع من المسرحية أكتب، فقد وضعت نصب عيني احتياجات مسرحيتي التي أرغب في كتابتها وبدأت الأفكار تتصارع مختمرة في ذهني.. أمسكت الورقة والقلم بعنف ورغبة شديدة، لكنني ما زلت متردداً وخائفاً، ففكرة المسرحية تتكامل في مخيلتي لكن أشخاصها لم يتوضحوا لي كلياً، أبعاداً وأعماراً وأنواعاً، هناك خطان من الشخوص متباعدان لا ثالث لهما، شخوص فاضلة (شخوص خيرة) وشخوص شريرة بغض النظر عن نوعية وماهية تلك الشخوص.. إنني الآن أواجه أزمة اختيار، أي شخص أختار، شخوص الخير كثيرون: حمامة، بطة، عصفور، دجاجة، غزال، فراشة… وربما بقرة أو حصان أو خروف… وشخوص الشر أيضاً كثيرون، لنقل افتراضاً: ثعلب، غراب، قنفذ، ذئب، ابن آوى، لكنني أفاجأ أيضاً بقائمة من الشخوص غير منتمية للخير او الشر تحديداً، فالأسد ربما يكون خيِّراً.. أو شريراً وكذلك الكلب والحمار والقطة وربما الفأرة… لا نستغرب من ذلك… أنا شخصياً أكره القطة فهي شريرة في نظري وربما أنت تحب القطة وتعتبرها من أفضل المخلوقات جمالاً، فإذا اختلفنا في وجهة النظر… وكنت أنا الكاتب وأنت المشاهد كان عملي المسرحي رديئاً بنظرك حتى لو امتلك أعلى مراحل الإبداع والخيال والتصور.
هنا اختلاف الرأي أفسد في الود قضية، فلو كان نقيضي هذا ممثلاً لعملي خرج دوره الذي يمثله باهتاً وضعيفاً وتهامس المشاهدون فيما بينهم… إن حبكة المسرحية ضعيفة، لا تنسوا تراخي الممثل وعدم تعاطفه مع ما يمثل من دور، وأمسكوا بـ(قميص) المؤلف المسكين وربما لا يمتلك غيره وصبوا عليه سيل انتقاداتهم… فلو تركنا هذا وذاك وتعاملنا مع بعض الحيوانات ذات اللون المميز، الغراب مثلاً: فإن جعلناه سيئاً وأن الله عاقبه وجعل لونه أسود فإن المؤلف سيتخذ له مكاناً متميزاً في مجلس التمييز العنصري وحرمت عليه زيارة أفريقيا تحريماً نهائياً… وربما نسوا أو تناسوا أن المؤلف أيضاً ربما يشارك الغراب لونه والله أعلم.
لهذا فأنا أحياناً أشعر بحرج باعتباري مؤلفاً وأنا أقف أمام الحمامة البيضاء وأمام الذئب الرمادي والثعلب الأشقر وأمام طير السند وهند (السنونو) بلونيه الأبيض والأسود… ومع كل هذه الاحراجات تجاوزت هذه العقبة مجبراً ليس إلا، أقف أمام مجلس الحيوانات مذهولاً كلها تناديني وفي وقت واحد.. كلها تهتف باسمي.. كلها تقول: أنا.. أنا.. أنا، و(أنا) المؤلف الحائر المسكين أقف مذهولاً بينهم ترى ما الفرق بين الدجاجة والديك والحمامة والبلبل والعصفور والسنونو والهدهد في الطبيعة الحيوانية وفي مجال الخط المسرحي والحركة التوليفية، حيث يصاب رأسي بالصداع من كثرة التساؤلات، ما الفرق بينهم جميعاً؟ كلهم طيبون ويحبون الأطفال ولو انتقلنا من فضائية إلى فضائية بحثاً عن المنوعات الأجنبية، كان التساؤل نفسه موجوداً، ما الفرق بين الذئب والثعلب والضبع والنمر، كلها تمتلك خبثاً وشراسة وتبيِّت الأذية للآخرين.
الحقيقة في كثير من الأحيان تكون مرة وأمر من الحنظل كما يقول المثل، فهذه الحيوانات كلها مكروهة ولكن لا يوجد دور مفصل تفصيلاً على حيوان من هذه الحيوانات.. ومن المتفق عليه تاريخياً على أن الثعلب ماكر ولكن صدقوني إن للذئب مكراً وكذلك للضبع وللنمر، ربما أشد من الثعلب.. إذاً نحن كمؤلفين نساهم في تشويش الصورة لأطفالنا عن مملكة الحيوانات.. الآن توقف قلمي عن الكتابة، أحد أصدقائي الذي يزورني دائماً ويساهم في إضاعة وقتي معه قال لي وهذه حسنة يسديها لي لأول مرة:
– إن بعض الحيوانات تحتج وهي واقفة بباب غرفتي وهي تتوعدني ولسان حالها يقول: (أخرج إلينا أيها المؤلف.. وإلا ندخل إليك). الشجاعة تتركها جانباً، أقسم بالله لقد خفت وارتجفت، فأزحت الستارة عن الشباك يا للهول، وحيد القرن وعجل البحر والحوت الأزرق وسمكة القرش… كلهم يتساءلون معترضين:
– لماذا لا تتخذ منا أبطالاً لبعض مسرحياتك؟ إننا نشكو البطالة الدائمة، في حين أن الثعلب والدجاجة والأرنب يمتلكون عقود عمل تمتد لعشرات السنين.
أنا بدوري تساءلت مع نفسي: لماذا؟ لماذا؟ وكان الجواب الذي توصلت إليه تبريراً، هو أن خشبة المسرح لا تحتمل ثقل هذه الحيوانات… ومع هذا فقد هربت من الباب الخلفي وأنا أحمل في حقيبتي ألـ(لماذا) في كيس ملون، وأصوات الاعتراض تطاردني من مكان إلى آخر….وقتها نسيت كل شيء حتى البدء بكتابة المسرحية.
هذا غيض من فيض من المعاناة التي أتعرض لها من الشخوص وهناك أيضاً معاناة أكثر ثقلاً ووطأة وهي المفردات والجمل والعبارات التي استعملها، ويزداد عندي التحمل والصبر من أجل أن اكتب مسرحية للطفل تدخل الفرحة والبهجة في نفسه وتقدم له أكثر من معلومة تفيده وتطوره وتجعله أكثر رصانةً أمام مجمل التحديات، لأن هذا الفن الذي نساهم جميعاً فيه من أكثر الفنون اقتراباً من ملكات الأطفال وأذواقهم وأكثر قدرة على تنمية وصقل المواهب والإبداعات…هذه معاناتي أنقلها إليكم عسى ان تكونوا أكثر قرباً مني وأنتم تشاهدون أو تقرؤون إحدى مسرحياتي التي أحبها الأطفال وصفقوا لها كثيراً في أكثر من عرض.