الأحد ٢٣ آب (أغسطس) ٢٠١٥
بقلم مصطفى أدمين

من دودة إلى أسد

عندما استلّتْه القابلة، قالتْ لوالدته:«سْويرتي يعيش»؛ ذلك لأنّ «ئزم» (هذا هو الاسم الذي كانت تحلم به والدته) جاء(من دون ألم) إلى الوجود: ضئيلا، رخواً، وباهتاً مثل دودة الأرض. فقال والده الفقيه «أو عيسى»: [«ئزم»؟ واشْ بْغيتي الناس يضحكو عْلينا؟ هذا راهـْ «تاوكّا»].
ولكنّ «ئزم/تاوكّا» رضع من ثدييْ والدته «فاضمة سْناتْ»، وترعرع مع أقرانه في شُعُب جبال «تيدرارين»، وأكل مما تأكل القطط والكلاب، وتسلق أشجار الأركان مع المعز ، إلى أن «صار رجلا» حسب ما خُيِّل لوالدته وعمره لم يتجاوز الخامسة عشر. آنذاك أرسلته مع أوّل حافلة إلى إنزكان ليتعلّم فن التجارة مع خاله «الدّا نون».
غير أن هيئته القليلة، وتساقط أسنانه غير المبرّر، وخوفه اللامعقول من ناس المدينة؛ جعل هولاء يتحاملون عليه بالتهكم، وتحميله ـ بالاتفاق مع الصدفة ـ لقب «تاوكّا». الحال الذي جعل خاله «يعفيه» من مهامّه، ويضعه بين يديْ صديق له اختصاصي في صيد السمك بالقصبة؛ المعلم «ئِخف».
الغريب أنّ «ئزم/تاوكّا»، كان أكثر حظّا من معلّمه في مسألة الصيد، إذ كانت الأسماك تترك الطعم الذي يقدّمه لها على رأس صنّارته، وتخرج إليه لتلتهمه.
تنبّه المعلّم إلى قدرة تلميذه «تاوْكّا»على جلب الأسماك، فخطر بباله أن يربطه بخيط نيلون سميك ويرسله إلى البحر. فكان أن تبعته ثلاثة قروش، استطاع المعلّم أن يصطاد منها واحدا كاملا، وثلاثة أرباع واحد آخر.
ليست القروش وحدُها من كانت ترى في «ئزم/تاوكّا» طعاما مستساغا، بل حتى أسراب السردين، وقطعان الأخطبوط، وحشود جراد البحر، ورهوط السرطانات، وجماعات قناديل البحر... وفي إحدى المرّات، «استطاع» الأسد/الدودة، أن يوقظ أطماع الحيتان، فخرج إليه (في محيط مدينة آنزا) حوتٌ ضخم ليلتهمه:
كانت ليلة عظيمة ساعة خرج الحوت، ولم يكن في الشاطئ المظلم إلا المعلم وطعمه والحوت. فصرخ المعلّم:«لقد صرنا أغنياء يا ولدي يا تاوكّا». وفي طرفة عين، زحفت من الجبال المُطلّة على المُحيط، جيوش من «جراد البرّ» مسلّحة بالسكاكين والمُدِّيات والشواقير والمناشير، والتي ـ في أقل من عشرين دقيقة ـ أرّبت الحوت، وعادتْ به (على هذه الصفة المؤرّبة) إلى جحورها؛ وحتى عظامه حمّلتها لتبني وتدعم بها بيوتها. هذا «الحدث الامعقول»، جعل المعلّم يفقد خصيتيْه، وجعل «تاوكّا» يقول باللغة الأمازيغية:«تاگمْرْتْ نْ إخّانْ آيْگا.»
دسَّ المعلّم خِصْيتيه في جيب سُتْرتِه بإهْمال، ووضع يده على كتف تلميذه (طعمه) بأسى، وأنشد هذا الشعرَ «العَرَبْزيغي» الغريبَ في غرضه:
إنّايّي أرْواسْ مقّورنْ *** يعيشو منّو جْميع الناسْ
لكِنْ لبحرغير ضايَة *** عْليها أباكّو عسّاسْ
ثم جرّه من يده إلى حرفة أخرى...
بيع الخضر في سوق إنزگانْ أأمن للعقل والعقيدة: تشتري الثوم بعشرين درهما للكيلوغرام، وتبيعه بالتقسيط بعشرة دراهم لـِ«الرابعة». الربح مائة بالمائة خارج السوق. حلال. وهكذا صار «تاوكّا» «لا باس عليه» من الناحية المادّية ـ الجدلية.
وبعد أن تشرنق «تاوكّا» في تجارة «تِيسْكْرْتْ» مدّة ليست باليسيرة، تضخّمتْ خُصيَّتاه بشكل نضالي، وكبر زُبيْبُه بشكل حضاري، وصار لا يفكّر إلا في النساء. ساعتها قال لشريكه المعلم «ئخفْ» بلسان حوّلتْه المدنية:«بْغيتْ نتجوّجْ».
فتمّ له ما أراد؛ أخت المعلّم؛ بلحمها الكثير، وشدقيها الضخمين، وبشرتها المتحولة (بنية، خرّوبية، زيتونية، فحمية، حسب ساعات الأيّام والفصول)، وباسمها المرعب «أجدّيكْ».
خلال سنة من الزواج، رأى «تاوكّا» ـ الذي كانت زوجته تناديه باسم «أشْكيدْ» ـ نفسه يعود إلى صورته الأولى؛ «زُوندْ ئبعلانْ» لا حياة فيه ولا صوت له؛ «أرگازاً» مغلوباً على أمره، ليس له حقوق وكلّ الواجبات عليه.
تقول «أجدّيگْ»:«أشكيدْ، دير، افعل، اترك، جيب، أويدْ، نوض، انعس....» وهو:«واخّا، وخّا، وخّا....» مثل عبد يشتغل في الإدارة.
إلى أن قالت له ذات ليلة:
ـ أنا ما بقيتْشْ قادرة نبوسْ فمّْ بْلا أسنان.
آنذاك انْكبَّ عليه الضّيْمُ، وتجهّم فمُه، وانكمش زبُّه من فرط الإحساس بالحُـگْرَة، وقال لها:
ـ واخّا.
في الغد، ذهب بطلنا إلى أحد الإصلاحيين الاختصاصيين في تقويم الأفواه، وحكى له عن مأساته مع «دردائِيتِه» اللامعقولة وزوجته المهووسة بالبوس.
أدخل الإصلاحي إصبَعَه الأوسط في فم «تاوكّا» الأدرد، وسوّك له به ذات اليمين، وذات اليسار؛ ثم قال:
ـ أرى أن فمك يليق لهذا الطقم، وهو لأحد النقابيين المتوفين... أتركه لك بنصف ثمنه.
مضغ «تاوكّا» أسنانه الجديدة، وقال:
ـ واخّا.
في هذه الأثناء، تُوفيَ والدُه في نهاية قراءته ـ بالصدفة ـ لرواية لأحد الوزراء كلّها موت في موت، وتوفيتْ والدتُه جرّاء تناولها لوصفة من «الطب البديل» أفادها بها دجّال إذاعي، وضاع في البحر مجموعة من الصيادين السراغنة بسبب جهلهم السباحة، وانقطع التيار الكهربائي في مدينة «القُليْعة»، ونفد «الدواء الأحمر» من مستوصف «بيزكارْنْ»، وقدّم وزيرٌ مّا استقالته في بلدٍ مّا لسبب مّا، وقرأ أحدُ لصوص الشعر شعْراً ملصوصاً في متحف التراث الأمازيغي بأكادير...
وقع البوس والرضى؛ غير أن الأعراض بدأتْ تظهر عليه في اليوم العشرين من تركيبة الفم.
العرض الأول:
عندما قالتْ له زوجتُه الكارثة «أجدّيـگْ»:«جيبْ ليا الشفنج وُدانونْ وُكيري»، ردّ فمُه:
ـ نْجيبْ ليك أگْلايْ، ووضع يديه على فمه ليكتم الكلام القبيح الذي تفوّه به (للتّو) (أكره هذه الكلمة الأخيرة لأنها حمار الكثير من الحمير الشعراء والمكتّبين).
العرض الثاني:
عندما وضع سلعته من الثوم، ووقف عليه أحد رجال القوات المساعدة وقال له:«قم من هنا... لا يحق لك البيع في هذا المكان»، نطق فمُه وقال:
ـ عْلاشْ؟ واشْ ماشي من حقّي نعيشْ؟
وفي مخفر السلطة، رفع فمه هذا الشعار:
ـ هذا عار... هذا عار... المواطن في خطار.
تركوه (أعتقد أنّهم تركوه بسبب اقتراب يوم الانتخابات) وما إن دخل إلى البيت وحاولت زوجته أن تؤنّبه على عدم امتثاله لأمرها بجلب الفطور وما جاوره حسب مدينة الدْشيرة وإنزْگان وما جاورهما، حتى سدّد لها لكمة أسقطتْ من فمْها ثنيتينْ علويتين، وضرس من فكها السفلي، وناب مستبد من مدخل مدخلها.
وفي نفس الوقت، خرجتْ ساكنة حي «الوفاق» للمطالبة بالزّفت، وتظاهرتْ ساكنة حي «بنسرگاوْ» لإحداث مستشفى لمعالجة مرضى إدمان الحشيش والقرقوبي، وتنظّمتْ عُصبُ من الشباب لمعارضة تنظيمان عُصب فرق كرة القدم التي تجنّد منظّميها على توسيخ حيطان المدينة بالخربشات الكروية، وقامت مجموعة من النساء الشريفات بالتنديد بالنساء الحقيرات مِمّن يظهرن في (بعض) برامج التلفزيون المغربي ويتأبّدْن فيها لا لكفاءتهن بل لكون الكفاءة الوحيدة التي يمتلكنها هي الدبلوم في «علم الجماع»...
وبعد أن انهال عليها بمكيال الكيلوغرام وكسّر به ركبتَها، قال لها:
ـ شْكونْ أنا؟... واشْ أن «أشْكيدْ» ولاّ «ئزامْ»، فأجابته من خلال دم ينزف من فمها الوحشي:
ـ أنت... سيدي ئزامْ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى