القرار الأخير
حملني كالعادة بين يديه القويتين وضمّني إلى صدره الزغب وسار بي نحو القنطرة التي تربط بين الضفة الجنوبية والضفة الشمالية لواد بطّاشْ.
كان هذا الواد يروي ضفتيه بنفس القدر من السخاء، وكانتا مزدهرتين بنفس القدر، إلى أن اكتشف أولئك المساخيط حقل الغاز بالضفة الشمالية، فتركونا عرضة للجفاف والموت.
أذكر أنني تظاهرتُ مع المتظاهرين لطي يمدّونا بالماء الصالح للشرب، وبعد سنوات من الهراوات والصبر، جاءونا بقناة عبر الوادي، وربطوها بصنبور يتيم تتجمهر حوله الأرواح البائسة من الصباح حتى السماء.
والآن، صارت القناة قنطرة عبور نحو الموت.
كم طفلا وكهلا هوى من فوقها فوجدوه منتفخاً بالماء ورجلاه تتضرّعان إلى السماء.
أحس ببرودة واد بطّاشْ. كان وما زال ماء البطّاشْ بارداً برودة القبور.
اعتصرني بقوة.يخاف إن سقطتُ أن يضيع سُكره وأكلُه ودخانُه ولباسُه. فكل ذلك من عرقي. أنا الأخرى أخاف... من ماذا أخاف؟ لماذا أخاف؟ عليّ أن أضحك من كثرة الهمّ. فلو سقطتُ وتكسّرتْ ضلوعي لما تغّير حالي بأكثر مما هو عليه.
نفث دخانَه الرديء في أنفي. إن لم أمت سقوطاً من على هذه القناة ـ القنطرة ربّما أموتُ من السرطان. هئْ هِئْ... يا ربّ! ما هذه الأحوال الباعثة على الضحك؟
صعد الأدراج الخمسة. نعم. لا بدّ أن يتوقّف لكي يلقي نظرة حب عفن على برّاكة تلك المومس منصورة. كان مغرماً بها قبل أن يتزوّجني ولا زال. لماذا تزوّجني؟
الوغد. تتقلّص عضلاتُ عنقِه ويضطربُ قلبه؛ إنه يبتسم لها.
الوغد، يلحس كالبقرة شفته العليا؛ إنّه يغمز لها.
أنا الأخرى كنتُ جميلة وذات مال، وكنتُ اصطاد الرجال: الكابران الحسناوي، بنعيسى مولْ الطاحونة، كبّور الصياد، السرغيني مول الحمّام، علال مول الطاكسي... كلهم ماتوا، فماذا أفعل أنا في هذه الدنيا؟
لم يكن لي ساقا منصورة القويتان، ولهذا تهشّمتْ ساقاي على الفور عند سقوطي من هذه القنطرة اللعينة.
المسخوط تهتزُّ جثتُه؛ لا بد أنّ تلك العاهرة تسخر منّي وتقلّد عاهاتي.
المكروه يضبط توازنه لكي لا نقع. يسقط رماد سيجارته الكريهة على عينيّ المسمولتين. هِئْ هِئْ هِئْ... ما نفع البكاء؟ لماذا يا الله بعد أن أخذت منّي القدرة على المشي، تأخذ منّي الإبصار؟... ما نفع السؤال؟
يوماً مّا سيذوب شحم تلك المنصورة وسيتلاشى سحرها؛ فماذا سيفعلُ هذا اللئيم؟ هل سيتزوّج من عجوز أخرى لأجل مالها؟ هِئْ هِئْ هِئْ...
اعتصرني وقال:«هل عدتِ للبكاء أيّتها الملعونة؟»
يقمعني. يغصب حقوقي. وحتى حقّي في البكاء يغصبه منّي.
ضوضاء الضفة الأخرى يتصاعد. نحن نهبط إلى الجحيم. وكالعادة، سيضعني على عتبة المسجد المقابل للسوق؛ وكالعادة سينصرف إلى البار المقابل للمسجد؛ وهناك سينخرط في السّكر إلى الغروب.
أنا له مجرّد حصالة نقود.
أعلم أن بالجوار طاحونة تملأ المكان بالضجيج. هِئْ هِئْ... ما ألذّ أن تكون أصمّا! كم تحاببنا أنا وبنعيسى في ذلك الضجيج؛ خلف آلة الطحن كان يطحنني... هِئْ هِئْ...
لن يعود الجيلالي زوجي؛ معذِّبي، قبل أن يمتلئ بالخمر. عند آذان المغرب، أعلمُ أنّه أفرغ في جوفه دزينة من البيرة ولتراً من الرّوج (الخمر الأحمر)، ونفث أربعين سيجارة، وأكل طبقيْن سمكاً وبطاطا مقلية. وأنا هنا على العطش والجوع أستجدي الصدقات:«أعّْ الله... أعّْ الله...أعّْ الله...» ويدي المشلولة تدور في الهواء كطاحونة لا طحين فيها.
يُأذِّن المؤذِّنُ لصلاة المغرب، فيأتي الحقير. يدخل يده في صدري المصدور. يجمع ما جمعته من نقود ويدسها في جيبه. يحملني بين يديه القويتين رأساً إلى القناة القنطرة. يخيِّم الليل. لا أحد. أفكر. أقرر. أنتفض. نسقط معاً.يموتُ هو، وأبقى أنا في الإنعاش...