من كشكول فلسطيني في القاهرة
25 عاما في الضفة...، ...، ...، وسبعة أيام في عمان، المدينة التي تتأرجح
على سبعة جبال، تقاوم دخان المركبات "نصف نقل" و"نقل عمومي"، وغبار
الصحراء الزاحفة....
تتركها وتمضي حيث حال سبيلك وحلمك...
هذا هو عمرك وحجم تجربتك، وجئت لتتم بعض سنوات قدرك هنا...
"هنا مصر" الشوق واللهفة وشهوة الانتشار والدهشة، و"الغربة" التي لم
تجربها بعد.
... قالوا لك في ميناء "نويبع": "سبع ساعات وتكون في القاهرة".
ساعات سبع وتصل، وأخذت الطريق ثماني، وساعة واحدة لا تفرق معك أنت.
ثماني ساعات كانت كافية في العادة، "وفي أيام العز"، كما يقال، وقبل بداية
"الانتفاضة" لتلف المدن الفلسطنينية جميعها من جنين إلى القدس، لكن
وبلغة الاحتلال وحواجزه وخلال السنوات الأربع الماضية لا تسعفك لتمر دخولا
من حاجز "بيت إيبا" العسكري على مدخل "نابلس" الغربي، أو خروجا منها
شرقا وصولا إلى مدينة "رام الله"، عاصمة فلسطين السياسية، عبر "حاجز
حوارة العسكري" أيضا، وهو الذي "يغربل" مواطني المدينة بين ممنوع
ومسموح له بالخروج.
والمسافة في مجملها لا تتعدى ستة كيلو مترات، وعن السبب...؟؟؟؟!!!!....
_هكذا اعتباطا، وحتى دون مقدمات أو أسباب، ففي "ضفتك الغربية" التي
احتوتك 25 عاما تكون مرهونا للاحتلال، ويجب أن تضع أجندتك وزمنك بناء
على ذلك.
تكتشف أن الزمن يختلف هنا، لأنك تمتلكه، تضعه في قبضة يدك، أو في "
زجاجتك المسحورة" وتلف به، تدور به دورانا حلوا، لذيذا دبقا كالقطر، وفيه
تتلخص الحرية ببساطة أشكالها، أن تؤمن أن الوقت الذي منح لك من خلال
عمرك هو لك، وتستطيع التصرف به بكل راحة ودون عوائق، تستطيع أن
تستثمره وتقوده، وهو يفقد، هنا، قدرته كحاكم يجب أن تطيعه وتتفاعل معه
سلبا. وفي حالتك في "ضفتك الغربية" يجب أن تتعامل مع محددات وضوابط
ومؤخرات وعوامل توقف لا تنتهي، وتتغير، وتختلف لتقلب توقعاتك، وأي برنامج
تفتخر به وتكون قد وضعته لقضاء نهارك أو ليلك.
الزمن أولا، وبقية الفروق تظهر تباعا.
والفروق جميعها، سواء في عمان أو نويبع أو القاهرة، ليست بحاجة إلى
اكتشاف، تشاهدها كالشمس الساطعة في سماء القاهرة، في كل مكان
غير "الضفة وغزة"، لا توغلات، لا رصاص أو هدم بيوت، لا طائرات، لا صور
شهداء، لا شوارع محفرة، ولا قصف عشوائي، لا حياة تحت جبروات السلاح،
والأهم لا حواجز "تفتل" رأسك وتدوخك، وتعيق رغبتك القائمة بطلب الحياة
والاستمرار في تفاعلك معها، ولا جيبات "همر" أو دبابات وقحة تنعص عليك
حتى أنفاسك، وتطاردك في جبال وسهول تشرف على المدن الملونة "بثلج
وقح" أيضا يتمثل بغبار قاتل نازع للمعان صور حياتك وأماكنك.
لا جيش يحمل السلاح المهاب من نوع "إم 16"، ولا جنود معدنيون فضائيون
يلبسون الأخضر الجيشي ويمتهنون "تدليلك" بالمقلوب والضد تماما.
وقائمة اللاآآآآآآآت هذه، "الحلوه على بالك في القاهرة"، تطول ولا تقصر،
تتمدد ولا تتقلص، تتكاثر بحكم العادة التي أجبرت على العيش عكسها،
حتى الأحاديث تحولت كمضامينها، وتفاصيل الاهتمامات، وتكتشف أن
المقارنة التي يسألك عنها الشباب المصري هي في أصلها "خطأ في خطأ".
تقول في بالك "شو جاب لجاب"...،... "فهنا مصر باختصار".
وتتذكر مقولة "المدن والعواصم بلا مفاتيح أو أبواب".
فهل هي فعلا كذلك، احترت في ترميز القضية، وأدركت أنها كذلك بلا مفاتيح
أو أبواب باستثناء مدن بلدك القادم منه بحقيبتك الخضراء، ومجموعات أوراقك،
وشهاداتك العلمية.
قدمت هرولة، وبهاجس زرع التردد في قلبك تمثل في احتمال عدم السماح
لك بالسفر، بمعنى عدم خروجك من فلسطين، مصادرة لحقك في السفر
واكتشاف العالم الاخر، وخرجت... ولم تُمنع كما توقعت كما هو حال غير
صديق لك، واكتنزك فرح كثير ومؤقت، خفت من عاقبة فرحك، فأنت قادم
لتحصد العلم، وفي منتصف الطريق تولد المشاكل والصعوبات، هكذا رسمت
الصورة وقدمتها لأهلك للحصول على إذن أخلاقي يسمح لك بالسفر واكتناز
المعرفة، وحصلت عليه وعلى توابعه من دعاء وصلاة.
وبحثت عن أي شخص تكلمه، وجاء شاب مصري يعمل "حلوانيا" يرغب في
العمل في صخب عمان في غير تخصصه في مجال الميكانيك، واستغرب
قدومك "لنهب" العلم من بلده.
ومضى كغيره بعد أن منحك شعورا لطيفا زادك قوة، وأنت مدرك أن أمامك
حل واحد وهو أن تكيف نفسك في هذا التداعي والوحدة والغربة "العربية-
العربية".
الكل يتحرك في حراك تخاله عشوائيا "يقلب الرأس"، وأنت لا تدري لأين...،
وتنتظر، وتنظر تتأمل بعمق يدخلك في كنه شعب تحبه.
وأسرب الناس، بل جيوش المواطنين تدخل وتخرج، تروح وتجيء، وأنت تمتهن
التأمل والتمهل في إطلاق الأحكام.
"لا تنتظر حظك بل انتظر دورك"، وها قد جاء دورك، أنت الفلسطيني، لست
الأول ولن تكون الأخير، الذي حمل نفسه وحقيبته وغاص في مدينة أخرى
غير مدينته التي كانت للتو تعاني من توغل معتاد، أنت "تتوغل" في القاهرة
والاحتلال الإسرائيلي يتوغل في المدينة والمخيم، يتوغل في حلمك
باختصار.
هل فعل سفرك هروب من واقعك؟ سؤال تسلل لنفسك، وبسرعة تجيب "
لع"، "مش هيك بالمرة".
هناك فرق بين الانتماء والارتماء في النسيان، هناك فرق بين الانتماء الذي
يعمق رغبتك بالحياة وبين الهروب أو الخيانة الاخلاقية لوطنك، كلنا نحب
الوطن ولذلك نحلق أو نطير، من يمتلك أجنحة ولا يطير يفقد دوره ويخونه، كل
الطيور كذلك.
هذه قناعة بدونها حتما ستموت معنويا، وأنت تعي واقعك ومستعد للاجابات
باختلافاتها.
اسعفك "الجرنال" من "بسطة" صغيرة في منطقة "الماظه" حيث "مصر
الجديدة" التي تبدو وكأنك سقطت فيها "ببرشوت"، ولا تشاهد أخبار مدينتك
إلا بحجم دبوس صغير، وتدرك أنك بمقدار ما ابتعدت عنها بمقدار ما قل
الاهتمام بها.
وتطالع الأخبار بجوار "كوشك" صغير، "غزتك وضفتك" كما عهدتهما في
وجودك، وترى بمقارنة بسيطة أن "الفطبول" يتربع على سلم اهتمامات
المصريين، بينما في الضفة "تفطر سياسة، وتتغدا سياسة، وتتعشى
سياسة، حتى الطفل الصغير يستطيع أن يتكلم بالسياسة" كما يقال.
مصر... أو القاهرة تحديدا، و"ميدان التحرير" تحديدا أدق.
أن تسمع غير أن تشاهد، وأن تشاهد عبر التلفاز غير أن تكون بطلا في
معمعة المدن الكبرى، غير أن تكون جزءا من الملايين التي تدخل العاصمة
العربية التي تلقفتك، أو الأحرى تلك التي رُميت في جوفها، وأخذت الأمواج
تتلاطم بك، وهو تلاطم محبب لك، يدهشك ويثير "فعفلة" في دماغك، تارة
تفكر، وتارة تندهش، وتارة اخرى تشعر بعمق التناقض، وتارات تشعر بصغر
حجمك وبانعدام جدوى التجديف الذي تمتهنه.
وتدرك أن المدن ليست بالحجم، وحتى العواصم، لكنه لا يغيب عن ذهنك انه
(أي الحجم) جزء لا يتجزء منها، وأنت تحاول أن ترى نفسك في مرآتها،
ويصعب عليك ذلك، فأنت "لست في القصر إلا من مبيرح العصر"، وعليك أن
تعرف حجمك، لتحمل الصبر صلاة، وتراهن على الزمن ذاته في محاولة
الاشباع والتشبع منها وبها، هو نفس الزمن الذي دفعك للخروج، فعملك
عامان لم يقدم لك سوى خبرة لا تسمن ولا تغني من جوع في واقع
اقتصادي "يضيق بالخلق والعباد".
وتدرك أن الواقع هنا أصعب أيضا.
وتضحك على دهشة طلبة الجامعة الأمريكية عندما شاهدوا عربة "همر"
سوداء، كان يبدو عليها دبلوماسية، وتتخيل "جيبات همرك الإسرائيلي"
وتقول لهم: "عنا منو كثير كثير كثير".
كعادتك لم تكتب عن المدن الكبرى التي تحتل شيئا كبيرا فيك، تسكنك قبل
أن تسكنها.
والسبب بسيط للغاية، فأنت لم تدخلها أصلا، وفيها (أي القاهرة) تكتشف
بسرعة أنك صغير بما فيه الكفاية.
وتحاول اتقان لهجة تحاول التسلح فيها لكسر حواجز الحياة في تفاعلاتك
الاتصالية مع محيطك.
اللغة هي السر في هذا الدخول، وتحاول أن تتقن اللهجة المصرية، ومهما
حاولت اتقانها تفشل كأي بداية، تصبح لكنتك في تلك المحاولات مضحكة
جدا، وما أكثرها، تلك اللهجة السلسة تقولها مفخمة ليرمقك المحدث
والسامع والقريب منهما بنظرات استغراب وبسمات على شفاه جافة أثر وقع
رمضان.
"أنت تونسي". ترد: "لأ".
"أنت ليبي إذا"؟ ترفع رأسك رافضا.
وتعجبك لعبة المدن والدول، تروق لك كأنك بحثت عنها.
"أنت سوري، بئا إنتا أما سوري أو لبناني"؟
"يا عمي لع، أنا مش سوري،... بل فلسطيني".
وعلى الفور تخرج "أهه، من غزة"؟ ترد قائلا: "لع من الضفة، يعني ضفاوي
بلغة التقسيمات التي الصقت بنا".
"وإزاي بئا خرجت من المعبر"؟ تتجهم قليلا "أية معبر يا عمي"؟ (يقصدون
المعبر الأمن الذي يفصل الضفة عن غزة، وهو مغلق منذ سنوات أربع).
وتتشرب الكلمات التي لا تعي خارطة واقع بلدك، فهنا يعتقد ان أهالي الضفة
يستطيعون دخول غزة، وتقول: "لأ، أبدا".
وتسهب بكلماتك المصرية المفخمة متحدثا عن طريق القدوم وصعوباته. ليقال
لك بانبساط شديد: "أجدع ناس يا عم، منورين يا ريس والله". وترد الكرة إلى
ملعب محدثيك: "النور منها وفيها".
وتتساءل: "لماذا عليك أن تهضم واقع بلدان مختلفة والجميع لا يعرف واقعك
الذي تحمله على كتفك"؟
ويقذف محدثك السؤال الكبير والصعب الذي تخافه دوما، ولا يمنحك فرصة أو
وقتا للاجابة عليه أبدا.
"إزاي وضعكم بالضفة"؟
وتدخلك الحيرة بماذا تجيبه، وكيف تصوغ خوفك في عدم نقل الصورة بأبعادها
الثلاثة وربما الأربعة، والخمسة....،...، والمئة، تتوقف قليلا...قليلا، هل عليك
أن تقول "الحمد الله" فقط، أم تقول: "تكيفنا مع كل شيء"، أم أن تقول: "ندّوخ
ونحن دائخين أصلا"، وووووو.
وتدخل نقاشا آخر دون أن تجيب عن السؤال بالمرة!