الجمعة ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
في رواية "المشرط " كمال الرياحي
بقلم صلاح الدين بوجاه

من يصدّق هذا الهراء؟

ينبغي أن نشهد أننا إزاء نص آسر ، فهو مركب كأشد ما يكون التركيب ، قوامه نصوص مستعارة من قديم المصنفات ومحدثها ، لحمته تنويعات شتى ... وسداه شذرات للكاتب – كمال الرياحي- ولغيره ، وبنيته هدهدة بين الأزمنة والأمكنة ، وشخوصه متعددة كثيرة متشابهة حينا متباعدة أحيانا ! أما رموزه فتحيل على إمكانات بعيدة تكاد لا تُحصى !
والمتمعن ينفذ بسرعة إلى التعالق بين بنيتين تتبادلان الظهور ، فتطفو الأولى حينا وتطفو الثانية حينا آخر ، لكن أثرهما الواضح في الشخصيات والوضعيات والأحداث يلبث بيّنا قويا حاضرا ... إحداهما بنية بسيطة كأشد ما تكون البساطة والأخرى معقدة كأشد ما يكون التعقيد . ينبع هذا وذاك من وظيفة الراوي حينا ومن تداخل المتون حينا ... ومن صلة النص بالمرجع في أحايين متعددة أخرى !

والحق أننا إزاء أثرٍ لا يني يُحيل على المصنفات القديمة ، لا بما يقول إنما بما يوحي به ويفضي إليه ، وبالأحوال التي ينشىء ... فتَنشَأ منها استيهامات كثيرة تُطوّح بالقارىء بعيدا ، وتقتضي منه أن
يُبَدّل ذائقته في كل آن وحين ! حتى لكأن متقبل هذه الرواية ينبغي له أن يعدد أدواته ويغير صيغ تعامله مع نصوص آيبة من كل صوب محيلة على مناخات متباعدة ومدارات متعددة ... دون انقطاع عن واقع الناس في حلهم اليومي وترحالهم في أسواق حاضرة البلاد على هذا الوقت ! وفي غيرها من المدن والقرى والمداشر !

" من سيرة خديجة وأحزانها " عمل يحيل على الكثير من الهراء والفوضى ، حتى كأنه -محاكاةً للتعبير الأثير عندي- مثل سوق شعبية في واحدة من قرانا الكثيرة .... على سفوح جبال مكثر أو ريف القيروان أو ... غير بعيد عن دارات برقو وضواحي كسرى في الوسط التونسي الفسيح ! من تلك الفوضى المدروسة جدا ، أو قل من " اقتصاد الفوضى وتدبرها " ينشأ عمل رائق واضحُ الأرجاء متكامل كأعذب ما يكون! لهذا نقول إنه من السهل مع هذه الرواية أن نصرح أننا إزاء نص قد عمل على تجنب النقائص المفترضة التي يقع فيها متدبر هذا الفن الصعب !
عبر أدوات من قبيل الفقرات ذات الحروف الغليظة ، أو الفراغات الُمحدَثَة قصدا ، أو الرسوم المستعارة من الفن العالمي ، أو السطور المستقيمة الكاملة ، أو النجوم الفاصلة ، أو العناوين الصريحة ... يمضي النص معلنا عن توتراته ، كاشفا خباياه ، مُحيلا على تدافع أجزائه وقلقها وعدم ركونها إلى الدعة والسلم والاطمئنان !
وهو منحى في تمثل بنية العمل الروائي أثير عند المشتغلين بهذا الفن اليوم، بل إنه قد غدا من السمات الحاضرة بقوة في الرواية الجديدة . فكأن " حقيقة" المستهل و"حقيقة" الختم مجرد " اقتراحات ممكنة" لما يمكن أن تكون عليه الرواية! بين الحقيقتين تنبثق نسبية كاملة ، أو ينبثق سرب من النسبيات في السرد ، والمعنى والدلالة ... حتى
لكأن النص بكامله مجرد إمكان منجز من إمكانات شتى تُعرض على المتقبل لتشعره بأن " الأبطال " داخل النص وخارجه ... مجرد إمكانات غير نهائية لما قد يكون عليه الكائن البشري ... هذا الأعزل المنهك الهامشي ... الغريب ! فمن يا تُرى يصدق هذا الهراء ؟ أتوجد حقا كائنات مشطورة مجزوءة "مُبَهذَل بحالها" إلى هذا الحد ؟ أتوجد بنية مهشمة مثل هذا التهشيم ؟

هذا هو الانطباع الأول الذي يظفر به الخائض في أحداث هذه الرواية : نصوص متنافرة ، وفقرات متدافعة ، ووحدات قائمة فوق خواء من التتالي الخاضع لمبدأ "الضم" و"التداعي " ... وعفو والخاطر والصدفة !

الحقيقة\ في ذكر الخروبة المبروكة التي سكنها الهدهد\في ذكر المخاخ\ما أشد حماقة من يموت بالحمى\رؤى\في ذكر سيدة الروتند\من يصدق هذا الهراء\حديث العنبرية\فيما حصل لعصافير شارع الشوارع وقصة لقائي بالنيقرو\ حكاية التمثال والعمامة وأخبار أخرى \ماذا تراك تقول عني يا صديقي الفنان المعتوه\ في بيان السرقة ومن سرقها والجريمة ومن ارتكبها\التصريف الثاني عشر في طي الأرض\التصريف الثالث عشر في الطيران\التصريف الثامن في حجاب الأبصار\من كراسة النيقرو \خوذة طيار إسرائيلي في العراق \ قضية قناص النساء\سلسلة ذبح مؤخرات النساء تدخل الأحياء الراقية\لماذا لا يكون الجاني إمرأة\يبدو لي الآن أنني في تلك الليلة كتبت قصة المخاخ\في ذكر شهلاء الحمراء\الحقيقة... باستثناء عناوين فرعية قليلة أخرى يمكن أن نجزم بأن ما ذكرنا يمثل جميع مفاصل هذه البنية المتكسرة، الممعنة في تكسرها وتشظيها !

ولا نشك في أن النظر في هذه الجزاء سرعان ما يوقفنا على السمة الغالبة على الرواية في مستوى بنيتها ، ذلك أن وحداتها لا "تتتالى" بقدر ما تخضع لمنطق آخر عكسي يمكن أن نلقبه مبدئيا
"بمنطق التعاكس" ! فالوحدة لا تدعو مثيلتها التي تسبقها أو تعقبها إنما تحيل على أخرى بعيدة عنها حينا ... أو هي لا تحيل أصلا على أية وحدة أخرى ! فكأنما هي نسيج وحدها ، أو قل كأنما هي تمثل حبة رمل فريدة ملقاة على شاطيء بعيد مهجور !

إذا سلمنا بنجاح الكاتب في هذا ، أو في إيهام قارئه بهذا ،سلمنا بنجاح هذا البناء في إحداث حال من الفوضى المرغوب فيها ... التي لا تعدو أن تكون فوضى حياتنا ، وحياة أمثالنا من أهل هذا الزمان... في بلادنا وغيرها من أرض الله الواسعة !

هو مبدأ التدافع إذا ... هذا السائد في جميع المقاطع والأجزاء والتمفصلات الكبرى والصغرى . إن الرواية لا تتقدم بفضل ترافد بنياتها وهياكلها إنما بسبب من تعاكسها التام القاضي بأن كل
"بنية" ترفض سابقتها ولاحقتها ... وتغامر في دنيا الأحداث والمعاني والدلالات وحيدة ، أو تكاد .

نلتقط هذه السمة ، ونلح عليها ، لأنها هنا تتجاوز " السمة الجزئية" لتمثل القانون الأكبر الذي تسير على هديه رواية " المشرط"،
أو قل إنها تسير على" لا هديه!" إن صح النحت ! فهو من قبيل الضرب في صحراء التيه والفوضى حتى منتهاها !
الملاحظ أن جملة هذه البنيات الصغرى تندرج ضمن بنية كبرى تعتمد مبدأ " التنابذ" نفسه ، وتصل بين " السرد" و"المعنى" ، محكمة قبضتها على الشكل والدلالات في آن ! ألم ترد في الصفحة الأولى ملاحظته هذه : " ... عندما كسروا الباب الخشبي واقتحموا الغرفة
المتربة لم يعثروا إلا على حزمة من الأقلام الجافة وفُتات خبز أخضر ودفترين بخطين مختلفين ولم يهتد أحد إلى تمييز خطه من خط الآخر ... لذلك قررنا نشر ما جاء في الدفترين مذكرين بالعبارة الشهيرة( المواد المنشورة هنا لا تلزم إلا أصحابها ولا تعبر ضرورة عن رأي هذا المنبر )" ... ألم يضعنا الراوي بهذا إزاء عدد من المفارقات نذكر منها :
- العثور على دفترين بخطين مختلفين.
- عدم الاهتداء إلى تمييز الخطين.
- قبول التناقض ونشر ما ورد في الدفترين.
- الاعتذار لدى القاريء لحدوث هذا التناقض ، والإعلان عن عدم تحمل مسؤوليته !
هذا التناقض الأصيل النابع من الرؤية المتحكمة في الرواية هو ذاته الذي نلاحظه في الشخصيات ، كل الشخصيات . وإنها لكثيرة ذات أنواع وأقسام شتى ووظائف مختلفة ، بل لعلها متناقضة أيضا ! ذلك أن الوقوف على مبدأ التناقض والتنابذ لملمة لكل المستويات من البنية حتى الدلالة مرورا بالشخوص والمعاني والرموز ... على اختلافها .

من الشخصيات الراوي \ الرواة ، أو قل الراوي الأول ثم الراوي الثاني . ومنها عبد الرحمان بن خلدون ، ومنها "شورب" واليوسفي ، وعبد الله أوجلان، ومنها أيضا عصافير شارع بورقيبة! وإنما رغبنا في استعراض بعضها ههنا للإيحاء باختلافها وتنوعها وتناقضها .
ينبع ذلك من أنواعها ووظائفها في الوقت نفسه ، فمنها التاريخي ، ومنها الفني الذي يعيدنا إلى عالم الرسم ، ومنها الأدبي ،
ومنها الواقعي الذي لا شاهد على وجوده إلا الكاتب... فضلا على قرائن بعينها من واقع عاصمتنا ومقاهيها وحاناتها ، وبعض الأماكن المخصوصة فيها . فإذا أضفنا إلى أنواعها تلك صنوفا أخرى من أمثال " الشخصيات الأشياء " أو " الشخصيات الخيالية " أو " الأشباح" غدا الأمر - مجددا - من قبيل السوق المنسية في إحدى قرانا الضائعة في الجبال ... ودفعنا إلى الاستفهام مجددا : كيف يمكن أن نصدق هذا الهراء ! ؟

من الشخصيات المخاخ، والعرافة ، والرجل المحموم ، والجرس ، والزوجة ، والنيقرو، وبولحية ، والسلطان ، وهندة ، وسليم النادل، وسيدة الروتند، والروتند ، وشارع بورقيبة ، وابن الحجاج، والشهلاء الحمراء ... بيد أن أبرزها - سردا ودلالات - شخصية "النسناس" الذي لبث كائنا أسطوريا \ واقعيا مشطورا - مثل جسده- بين النص والمرجع ... أو قل بين النصوص والمراجع ... على وتعددها واختلافها !

ويبدو أن ذِكْرَ "النسناس" هذا قد ورد في مصنفات كثيرة قديمة منها رحلة الغرناطي، وأخبار الزمان ومن أباده الحدثان وعجائب البلدان والغامر بالماء والعمران للمسعودي، ومعجم البلدان لياقوت الحموي والحيوان للجاحظ.... هذا الكائن المجزوء منشطر بين الواقع والوهم والحيوان والإنسان والنص والواقع يختزل رموزا مهمة تأخذ بجماع السرد والدلالة في هذا العمل الآسر الراغب في تنبيه القارىء من غفلته !

وقد ذهب في ظننا عند المستهل أنه يسهل الزج بالشخصيات في "ثنائيات" أو " ثواليث" .. أو سواها لغايات منهجية هدفها الإمساك بالمعنى والظفر بالدلالة . لكننا سرعان ما أحجمنا عن هذا الوهم ،
إذ تبدو كل شخصية نسيج وحدها نوعا ووظائف... حتى إنه ليعسر تشبيهها بغيرها . وهل هذا إلا من قبيل العودة إلى الفكرة الأولى التي استهل بها هذا الكلام ... فكرة التشتت والتناقض والتشظي والتكسر التي وقعنا عليها في مستوى البينة ، ونظفر بها هنا مع الشخوص... وقد نقع عليها مجددا حين نخوض في جوانب أخرى من جوانب هذه الرواية المحيرة التي من شخوصها أيضا - إضافة إلى ما ذكرنا- آدم وحواء للرسام الإيطالي ماساتشو ( القرن 17) ،والرسام الألماني دوراي ألبرخت ( القرن 16) ، والرسام الفنلندي فان ديرفاوس(القرن 17)... فضلا على أدونيس الشامي، الشاعر علي أحمد سعيد !

وندرك تمام الإدراك أن هؤلاء، وغيرهم، يسهمون بلوحاتهم ونصوصهم ، والشواهد المستقاة من أعمالهم، في إغناء المعنى وتنويع الدلالة... إنما رغبنا هنا أن نلمح إلى أن كمال الرياحي قد عمل عبر استدراج استراتيجيا روائية فريدة ... فجعلها تتفشى في الرواية وتنشيء وهم إسهام جميع الشخوص الواقعية والمتخيلة ، المرجعية والنصية ، في الأحداث ... وبالتالي في المعاني .

لهذا كانت المعاني كثيرة متنوعة ، ولهذا كان "هم استحداث الدلالة" نابعا من كل جملة وكل فقرة ، وكل رمز ! ولهذا نجح "كمال الرياحي" في استرفاد عوالم هرمان هسّة ، وكافكا ، وشطر من السرياليين مثل أندري بروتون وأبوللينير ، ولهذا يحلو لنا مجاراته في مساءلة المعنى : ترى من يصدق هذا الهراء !؟

إننا إزاء عملية "مسخ" ... بل يمكن أن نغامر فنقول إننا إزاء عمليات متتالية من مسوخ كثيرة تضرب السرد بسياط من الإثارة ، وتوقد هجعة المعنى بآلاف المعاني الصغرى المتنوعة المؤدية - إن بسرعة أو بتؤدة - إلى إلقاء الاستفهامات القادرة على مساءلة المدونات الفلسفية الكبرى ، ووضع منظومات السؤال... وأنظمة المعنى .
هذا مرتكز المعاني في هذه الرواية : من السمخ يولد الخوف والهلع ، ومن الهلع تنبثق الاجرام ، وتولد الظلاميات على اختلافها. فلسنا مُغلبين "ظلامية" على أخرى ... إذ تترافد جميعا للإحالة على معنى ذهاب العقل وانسداد أفق الفهم ... وتغليب الشعوذة والوهم .
ورغم إدراكنا أن " ظلامية المفسرين الجدد للإسلام " هي الغالبة ههنا - بسبب نوعية الجرائم القائمة على إعمال المشرط في أعجاز النساء ... والرجال - فإننا نجنح إلى الإمساك بأكثر رموز الدغمائية عموما وشمولا لتأكيد أن ما تمر به مجتمعاتنا في السنوات الأخيرة ينبع بالأساس من " آليات غياب المعنى وانطفاء الدلالة " !
على غرار فارس سرفنتيس يمضي الراوي في " المشرط" ، أو قل يمضي الراويان في الدفترين معا ، في سقطات متتالية إلى الأمام ،
نحو إنشاء معنى ما ... أو نحو إنشاء عدد لا يحصى من المعاني الجزئية الممكنة الكثيرة ! وهل أفضل من اللامعنى لمراودة المعنى ... خاصة أن " الفلسفة العربية" أو " الفلسفات العربية" لا تمدنا بما يُعتمد عليه في المجال ! الفيلسوف العربي منشغل بإتقان الدرس الفلسفي الغربي... لهذا تُسهم الرواية العربية - دون ادعاء أو تتعالم- في خلق عوالم "هذيان دال " قادرة على استدراج معنى !
قناص النساء الذي لا تتجاوز "إنجازاتُه " في الرواية عددا من الصفحات قليلا يغدو الخيط الواصل بين مجالات متباعدة جدا من قبيل الطب والحكمة في الكتب القديمة ، ومصنفات الجغرافيين وأصحاب علوم الهيئة ، وذكر سيرة "خديجة" وأحزانها ، وذكر
الخروبة المباركة التي يسكنها الهدهد ، والتعريج على جملة أحزان ناسنا هؤلاء في مجتمعنا هذا في زمننا هذا ... بلغتنا هذه غير الخالصة من أثر نصوصنا القديمة أحيانا ... حتى لكأننا إزاء راو لا ينسى شيئا من همومنا وأنى له أن ينسى وهو المنبثق منا العائد إلينا : " كيف يمكن أن أنسى؟ وكيف أنسى والحقيقة كالسيف تحش أحشائي كل ليلة مدمرة حصون السكينة ، مهدمة أسوار نفسي الآمنة ... الليل يتوعد بالحلول ... ها هي خطواته الثقيلة ... ها هو الضوء يختنق بين كفيه والظل يشتد سواده ، وها هي عيون النوافذ يصيبها العمى ، وداعا أيتها الرؤية ...! " لهذا من السهل جدا أن نجزم هنا أن الكاتب لا ينتقد "وضعا اجتماعيا جزئيا ما " إنما ينتقد أنفسنا إلينا ... ويعرض بكل أوضاعنا ... دفعة واحدة ... شأن النصوص الكبرى التي لا تتعرض إلى الجزئي المحدود إنما تتوق إلى إصابة " لب اللباب" في أعمق لدلالاته الوجودية وأبعدها أثرا !

وبما أن نصيحة باولو كويلهو تَرِنُّ أبدا في سمع صاحبنا " لا تنس ... أن تذهب حتى نهاية أسطورتك الشخصية " نلفيه يعمد إلى توسيعها كي تشمل جميع أساطيرنا الشخصية وغير الشخصية إيذانا بطور يتداخل فيه الشخصي والعام ، ويتماهى النصي والمرجعي ويمتزج الأوهام بالواقع - أو الأوهام بالوقائع- استدراجا لمعنى ممكن للأشياء قد يتأتى من الهراء ... إذا أمكن تصديق هذا الهراء !
لن نغوص في أغوار هذا العمل ونكنه أبعاده وأقرابه إلا بالإقرار بأنه عمل مراوغ ! فالرياحي يغري بتسليط الضوء على عدد لا يحصى من الجزئيات و"لصغائر" ... معرضا عن " الكبائر" على هيئة لاعب الكوريدا الذي يلاعب الثور ... حتى نكاد نوقن أن
الضحية لا يعدو أن يكون اللاعب ذاته ... فإذا المداورة تُسفر في النهاية عما لا يمكن أن يكون نتيجة منطقية للإيقاع اللعبة : إصابة الثور !

كي نربأ بأنفسنا ، فلا نكون الثور المصاب ، ينبغي أن نفهم أن المراوغة هي أصل الأشياء هنا ، وأن ما يُعرض ويُقال ليس بالضرورة مقصودا لذاته ... إنما لتأدية معنى آخر خفي لطيف ... يكاد لا يبين ! الكلمات لا تقول الأشياء والكائنات بقدر ما تحتمل دلالات أخرى ممكنة ! أمر الدلالة ناتج عن " خلل" أصيل مصاحب لانبثاق النص ذاته : " نعتذر من القراء الكرام عن الخلل الذي حدث في نشر الدفترين، فقد تداخلت مادتهما وسقط منها الكثير ولم ينتبه إلى ذلك مصححو الجريدة ، ولأنهم أضاعوا الدفترين الأصليين واستحال الإصلاح ، فقد وقع الاستغناء عنهم جميعا وتحويلهم إلى التحقيق واستبدالهم بمصححين جدد أكثر نشاطا وانضباطا . ونُعلم القراء أن ملف قضية القنّاص أُقفل نهائيا ولم يعد يعنينا لا من قريب أو من بعيد ! "

مفهوم الخطأ مصاحب لانبثاق النص ، ومفهوم الخطيئة وثيق الصلة بانبثاق آدم وحواء ... وهل الخطأ والخطيئة إلا من ضرورات المجتمع الإنساني على وجه الحقيقة والإطلاق ! هذا ما ينطق به حال "النسناس" في حله وترحاله في عوالم "خديجة" وأحزانها ... وهل "خديجة" في بعض مفاهيم أهلنا في الأزقة والحارات إلا من بعض
فَهْمِنَا لاندغام المقدس بالمدنس !

إن الربط بين " المشرط" وقديم نصوص كمال الرياحي( نوارس الذاكرة 1999\ وسرق وجهي2001) من هذه الناحية سرعان ما ينبهنا إلى سمات حاضرة تتكرر ، وتصل هذه المدونة بمسار القصة
والرواية في تونس منذ عصر آبائها الأُوَل . بل إنه في الإمكان اليوم أن نقول إن هذا النص الجديد الذي يضاف إلى المسرد الروائي التونسي يسهم بقسطه في الكثير من التعليل والتبرير ، بل في إكساب تسلسل السرد التونسي معنى ما !

سُئل البشير خريف عن "آبائه" فصرح: هم الرزقي والدّعاجي . وفي حسباني انه يسهل على "المشرط" أن يبحث له عن سند خالص في أعمال كل من الرزقي والدَعاجي والمسعدي وخريف والمدني وحسن نصر وبوجاه ... فيسهم بهذه الكيفية في إعادة ترتيبهم ضمن سياق الرواية التونسية ، ويسهم بالتالي في إعادة ترتيب هذا السياق الروائي العام ضمن ضروراته التاريخية .

وحري بنا ، بعيدا عن الناظرين بعين واحدة ، أن نقف على تقاطعات شتى بين مدونات متباعدة في الظاهر لكنها في جوهرها تنهل من المعين ذاته ... غزيرا كان أو ضنينا شحيحا . لهذا نلاحظ هنا أن هذه الرواية ضرورية اليوم ، لدى مفتتح الألف الثالثة للميلاد ،
لإعادة تمثل روايات كثيرة ظهرت تباعا منذ ثلاثينات القرن العشرين حتى طور التسعينات ، وألقت السؤال الحارق ذاته : من ترى يصدق هذا الهراء !؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى