الجمعة ١١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم سليمان عبدالعظيم

مُعضلة التدين في العالم العربي

يلعب الدين دورا كبيرا في الحياة اليومية العربية، بحيث لا يمكن للمرء الحديث عن أي سلوك إلا ويشمله التوجه الديني سواء أكان هذا التوجه حقيقيا أو مظهريا، صادقا أو كاذبا. ورغم أن الدين في حد ذاته يشكل منظومة حياتية متغلغلة في صميم الواقع العربي، إلا أن حجم مساحتة ووجوده، وبالتالي انعكاساته وتأثيره على سلوكيات الأفراد، تختلف وتتفاوت من فترة لأخرى ومن مكان لآخر. فبعض الدول يتغلغل فيها التوجه الديني بدرجة تفوق غيرها من الدول، بحيث يصبح رمزا لنظام الحكم، بينما البعض الآخر يرتكن إلى الدين كبنية اجتماعية مثله في ذلك مثل غيره من البنيات الاجتماعية الأخرى.

وبشكلٍ عام، لا يمكن الحديث عن الغياب الديني في عالمنا العربي، أو التحول التام من بنية تغترف من الدين والشعائر المرتبطة به إلى بنية أخرى مفارقة للدين ومبتعدة عنه، لكن ما يمكن الحديث عنه هو حالة الصعود والهبوط للممارسات الدينية من ناحية وللخطاب الديني من ناحية أخرى. وتلعب مجموعة من العوامل المختلفة دورا كبيرا ومؤثرا في هذا الصعود والهبوط، منها على سبيل المثال الحالة الاقتصادية ودرجة الانفتاح المجتمعي على الممارسات الكونية المختلفة وموقف النظام السياسي من التيار الديني إضافة إلى السياق العالمي المحيط. فلم تعد المسألة الدينية، خصوصا في العقود الأخيرة، مسألة داخلية بحتة بقدر ما أصبحت مسألة تمس بنية العلاقات الدولية وما يتمخض عنها من صراعات مختلفة.

إن شيوع وانتشار الممارسات الدينية المختلفة في عالمنا العربي، بشقيها الإيجابي والسلبي، تستدعي الدراسة السوسيولوجية المتعمقة. فلم يعد ذلك التقييم الأخلاقي، الذي يرتبط بممارسات الكثير من رجال الدين، حيث شيوع لغة الحلال والحرام، كافيا لرصد وتحليل المسألة الدينية ومستويات شيوعها في العالم العربي. فالمسألة تتعدى ذلك إلى الوقوف عند الجوانب الاجتماعية المختلفة التي تحلل البنية الدينية بأبعادها وتجلياتها المتعددة. فالتحليل السوسيولوجي يرتبط بالوقوف عند مظاهر الممارسات الدينية المختلفة، وأسباب تصاعدها من فترة لأخرى ومن مكان لآخر. إضافة إلى ذلك، فإن هذا التحليل يقتفي تلك المظاهر والسلوكيات والممارسات الدينية عبر شرائح اجتماعية مختلفة، محاولا الوقوف عند التباينات المختلفة التي تتخذها تلك الشرائح الاجتماعية في ممارساتها الدينية.

ومن أبرز التجليات الهامة المرتبطة بالشيوع الديني في عالمنا العربي هو التدين والانغماس في المظاهر والسلوكيات الدينية. وهى ظاهرة أشمل وأوسع من ظاهرة الانتماء لجماعة دينية بعينها سواء أكانت جماعة شعائرية سلمية أو جماعة حركية عنيفة. فالتدين الذي نقصده هنا هو الذي يظهر من خلال الممارسات الفردية والجماعية المختلفة، حيث يصبح بوصلة توجيهه هو الدين، سواء أتم ذلك عن فهم حقيقي للدين أو عن فهم مغلوط، وغالبا ما يتسم بالتشدد والغلو في الممارسات اليومية والتعامل مع الآخرين. وهى ظاهرة، رغم أنها ارتبطت بمجتمعات عربية بعينها، إلا أنها قد أصبحت تكتسب العديد من الأفراد يوما بعد يوم.

ورغم أن الدين في حد ذاته وفي معناه العميق ينطوي على رحابة إنسانية بالغة وعلى قدرات هائلة في التواصل مع الآخرين، فإنه من الملاحظ أن التدين الشديد والغلو فيه يمثل أداة انقطاع في التواصل مع الآخرين والتعامل معهم. ونحن لا نتحدث هنا عن علاقات المسلمين، بوصفهم الفريق الأغلب في عالمنا العربي، بغيرهم من الشعوب الأخرى غير المسلمة، بقدر ما نتحدث عن علاقاتهم اليومية بغيرهم من المسلمين على مستوى الحياة اليومية. فلقد استخدم البعض الدين كأداة ملاحقة للآخرين، يتم من خلالها تقييم سلوكياتهم وتصرفاتهم المختلفة تحت معيار الحلال والحرام. وهى مسألة تعيدنا إلى أشكال عفا عليها الزمن حيث محاكم التفتيش القروسطية والتفتيش في عقول الأفراد ونواياهم المختلفة.

وخطورة هذه المسألة، أنها وبدون سابق إنذار، تمنح البعض قدسية مفترضة أو متخيلة، حيث يطلقون من خلالها أحكامهم المختلفة على المحيطين بهم، ويتم من خلالها تقييم الآخرين ورصد سلوكياتهم. ولأن أية عملية تقييم لابد وأن تستند إلى معايير محددة يتفق عليها الجميع قبل البدء بها، فإن ما يحدث في الواقع الفعلي هو أن يمنح الشخص المتدين لنفسه قداسة وهمية تمثل، من وجهة نظره، تلك المعايير التي يمكن من خلالها أن يفرض تقييماته على الآخرين، ويصادر سلوكياتهم وممارساتهم المختلفة.

وتنتشر تلك التقييمات عبر معظم ممارسات الحياة اليومية، وعبر معظم مؤسسات المجتمع التي ننتمي إليها. واللافت للنظر هنا أن تلك الحالة من التقييم تظهر بشكل واضح داخل الأسرة الواحدة. ففي أحيان كثيرة نجد داخل الأسرة فرد متدين وفرد آخر غير متدين، وهى مسألة جد شائعة في طول العالم العربي وعرضه. وما يحدث في الواقع أن يبدأ المتدين في ممارسة تلك الملاحقات اليومية لأخيه غير المتدين. ولوكانت تلك الملاحقات تتم في إطار من النصح الحسن اليسير والمتسامح لما مثلت أي مشكلة، لكن ما يحدث في الواقع أن المسألة تتحول إلى نوع من الضبط الاجتماعي الصارم الذي يتبنى الفضيلة التي تنتقص من الآخرين ولا تعلى من شأنهم، فهى تنفر ولا تحبب، تهدم ولا تبني، تفارق ولا تقارب. وفي أحيان كثيرة يفضل الكثيرون البعد عن الشخص المتدين لما يثيره من عداءات وحدة في التعامل.

ورغم أن حالة التدين هذه، بغض النظر عن جوانبها السلبية والإيجابية، هى حالة شخصية بالأساس، لا تعني أن الشخص المتدين أفضل من غير المتدين، فإن ما يحدث في الواقع أنها تنتقل من مستوياتها الفردية المحدودة إلى مستوياتها الجمعية التي تشكل قيودا وأعباء كثيرة على غير المتدينين. ومن أكثر الجوانب السلبية المرتبطة بتلك الحالة أن يتصور الشخص المتدين أنه أفضل من الآخرين، وأن حالة التدين الخاصة به تمنحه الشرعية والقداسة للاستعلاء على الآخرين، وفرض رؤاه وتوجهاته المختلفة عليهم. ويقوم الشخص المتدين هنا، سواء عن وعى أو غير وعى، بتشويه صورة الدين القائم على التسامح والتواصل مع الآخرين، ليحل محله صورة مخيفة من الأوامر والقيود والملاحقات. ومن أسف أن الدين براء من كل هذه الممارسات، لكن تلك الممارسات تنقل صورة جامدة وصارمة إلى الدين ذاته، فينسي الكثيرون تلك الممارسات والقائمين عليها ويوجهون سهام نقدهم إلى الدين ذاته.

وتنقل حالة التدين هذه، في أشد تجلياتها تطرفا، الفرد من مستواه الإنساني النسبي الذي يخطأ ويصيب، ليحل محله شخص مقدس لا تصيبه الخطيئة من قريب أو بعيد. وهى مسألة مخيفة وكريهة في الوقت نفسه. فهى مخيفة من حيث أن الفرد يعلي من شأن نفسه على حساب الآخرين، الذين لا يتصورهم سوى منحرفين وغير أسوياء، تلفهم الخطيئة عن يمين وعن شمال. وهى كريهة من حيث كون الشخص المتدين بمثل هذه السلوكيات يقارب نفسه، بوصفه معصوماً من الخطأ، من مرتبة الأنبياء، غالباً ما يتم ذلك عن غير قصد وعن غير وعى.

إن التدين ظاهرة سلوكية موجودة في كل المجتمعات الإنسانية، وهو ظاهرة سوف تستمر ما بقي الإنسان يمارس عباداته وشعائره الدينية، لكن خطورة التدين تكمن حينما يصبح مظهريا يركز على توافه الأمور وصغائرها، ويهتم بملاحقة الآخرين وينشغل بتوجهاتهم وأيديولوجياتهم المختلفة. هنا يزداد المجتمع تخلفا، وتزداد حدة وضراوة المعارك التافهة التي تُهدَر من خلالها الطاقات بدون أي إنتاج أو مردود حقيقي. وهي معارك لا تضر في النهاية سوى المعاني المشرقة والمتسامحة للدين، ودعواته المستمرة من أجل التواصل مع الآخرين والحوار معهم. في مثل هذه الأيام المباركة المرتبطة بعيد الأضحى، فإنه من الواجب على الجميع أن يعيد للدين وجهه المتسامح الصافي، بدون أن يفرض البعض توجهاته الأخلاقية التي تكرس عصور محاكم التفتيش المسيحية المظلمة، وتجعل من البعض مقاولي أخلاق يطاردون الجميع، ويفتشون في السلوكيات والنوايا والتوجهات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى