نعم من قتل دلال؟
"من قتل دلال؟" عنوان المقال المؤرّق الذي كتبه عادل سالم في "أرب تايمز" عن الشّابّ الأردنيّ الذي طعن أخته خمسا وستّين طعنة ثمّ ذبحها لا لشيء إلاّ لأنّها هربت من بيت أبيها لتتزوّج الرّجل الذي أحبّته ورفضه أهلها. بعد أن قتلها أخوها على هذا النّحو قطع رأسها عن جسدها وأخذ يجرّه في شوارع قريته "صارخا بأعلى صوته إنّه غسل العار وهو لا يدري انه ارتكب جريمة بشعة ذهبت ضحيتها اخت له لا تستحق هذه العقوبة لا في قانون ولا في اي دين ..." و" كان يحمل في يده الأخرى كبد أخته يلوكه بأسنانه مؤكدا غسل العار طالبا من الناس ان تنزل لترى : (تعالوا وشوفوا أنا غسلت العار عشان تبطلوا تعايرونا). بينما انطلقت الزغاريد من بيت الضحية ، من الأم والأخوات وكأنهم في عرس حقيقي..."
سمّاها أهلها "دلال" ثمّ حرموها من أبسط حقوق الإنسان : حرمة الجسد والحقّ في الحياة والحقّ في اختيار القرين والحقّ في المحاكمة العادلة في صورة اعتبارها منتهكة لقانون ما. حرموها من حقوق الأحياء والأموات معا : أبى أخوها إلاّ أن يحاصرها بالعقوبة والتّشفّي إلى ما بعد موتها فانتهك أيضا حقّها وهي ميتة في أن لا يمثّل بجثّتها...
عندما قرأت هذا المقال تذكّرت النّواح على الموتى وقد كانت النّساء يضطلعن به، وكان جزءا من طقوس الموت التي تخلّد ذكرى الموتى. رغبت في الإجابة عن سؤال كاتب المقال وفي التّطريز على إجاباته وأسئلته، وهذا ما سأفعل، كما رغبت في أمر آخر : تخليد ذكرى أموات ليسوا من "عظماء الأمّة" ولكنّهم يمثّلون الطّحين الذي تنتجه رحى جماعيّة تدور باستمرار في ربوعنا، رغبت في كتابة شواهد على قبور منسيّة في ثقافتنا القائمة على التّهريج وعبادة النّجوم والتّزلّف إلى الأحياء الأقوياء. ولكن اصطرعت في نفسي صور كثيرة غير صورة "دلال" : تذكّرت الممثّلة الجزائريّة "مناد الحاجّة" التي أحرقها أخوها في مستغانم يوم 18 أغسطس 2000، لأنّها تتعاطى فنّ التّمثيل. كأنّها أرادت أن تلعب دورا تراجيديّا على الرّكح فلقيت التّراجيديا في واقعها. وتذكّرت عشرات العراقيّات اللاّتي قطعت رؤوسهنّ بتهمة معلنة هي تعاطي البغاء ولغايات غير معلنة أهمّها الانتقام من قريبات المعارضين للنّظام الوحشيّ السّابق، وتذكّرت غير المحجّبات اللاّتي يلقًى عليهنّ بماء النّار (الفيتريول) لتشويه وجوههنّ التّائقة إلى ماء الحياة والهواء، والمرجومات بتهمة الزّنا في البلدان التي تطبّق الأحكام الجنائيّة الفقهيّة القديمة مسمّية إيّاها "الشّريعة"... هؤلاء لا أعرف وجوههنّ، أمّا الطالبة التي قتلت نفسها في مطلع التّسعينات وهي تحاول إخراج جنين من بطنها ووجدتها زميلاتها جثّة هامدة في دورة مياه بإحدى المبيتات الجامعيّة فأعرف وجهها ولا تبرحني صورتها. قيل لي إنّ ممرّضة المبيت لم تبال بها فلم تدر ما العمل بالجنين الذي في بطنها وبالفضيحة التي تنتظرها. أذكر وجهها وعينيها المتّقدتين ذكاء وأذكر أنّني كنت أدرّسها الترجمة وأنّنا كنّا بصدد ترجمة نص ّ فرنسيّ مشهور لألفونس دودي عنوانه "عنز السّيّد سوقان". فهذه العنز فضّلت الحرّيّة على العلف الجيّد والقيد الذّهبيّ وكلّ الرّفاهية التي يوفّرها لها سيّدها فهربت إلى الغاب فأكلها الذّئب. وأذكر أنّ هذه الطّالبة بالذّات سألتني في أثناء التّمرين عن الحرّيّة سؤالا لا أتذكّره بدقّة، فقلت لها تقريبا إنّ لها طَعما سائغا ولكنّ ثمنها المدفوع في الغالب هو اليتم والعزلة والفقر... والمسؤوليّة على أيّة حال. ولم أكن أعرف أنّ الثّمن الذي ستدفعه باهض إلى هذا الحدّ، ولم أكن أعرف أنّها ستكون طُعما سائغا لا للذّئاب بل لرحى تدور على غفلة منّا. لم يقتلها قاتل بعينه، أخ أو أب ولكن قتلتها يد جماعيّة لا مرئيّة. كيف يمكن أن أتجنّب إحياء ذكرها؟ أيّ رحى تدور فتطحن هذه الحيوات الفرديّة؟ لماذا ندفع للحرّيّة ولدفق الحياة فينا أثمانا باهظة؟
لنعد مع ذلك إلى "عظماء الأمّة" ولنتذكّر "رّائدات" الكتابة والحرّيّة في العالم العربيّ. من يجيبني اليوم : لماذا صمتت "نظيرة زين الدّين الحلبيّ" التي ولدت سنة 1908 وتوفّيت سنة 1976، ونشرت "الحجاب والسّفور" ثم "الفتاة والشّيوخ" فيما بين سنتي 1928 و1929 ثمّ صمتت صمتا مطبقا؟ لماذا لم يطبع كتابها الأوّل إلاّ بعد سبعين عاما من نشره (صدرت الطّبعة الثّانية سنة 1998، عن دار المدى بدمشق) وبعد أكثر من عشرين عاما على وفاة صاحبته؟ و"مريانا مرّاش" التي يقال إنّها أوّل امراة كتبت المقال الصّحفيّ، لماذا أصيبت بالماليخوليا في آخر حياتها؟ أيّ رحى جعلت "مي زيادة" تصاب بالوساوس وتقيم في المستشفيات بعد أن كانت تعقد في مصر الصّالونات الأدبيّة التي يحضرها أبرز رجال عصرها؟ لا شكّ أنّ هناك جرائم شرف عنيفة وهناك آلات شرف هادئة تؤدّي إلى الموت البطيء الهادئ والاختناق بالصّمت..
جرائم الشّرف العنيفة والهادئة التي تستهدف النّساء لا يمكن أن تنسينا أحداث العنف الآخر الذي يستهدف المدنيّين الأبرياء من رجال ونساء وأطفال، وهو عنف يجب أن نسمّيه "إرهابا" رغم التّحفّظات التي يبديها المتعاطفون مع هذيان زعماء تنظيم القاعدة ومن نحا نحوهم، ورغم التّجوّز الذي يتعمّده السّياسيّون الأمريكيّون عندما يخلطون بين الإرهاب والمقاومة المشروعة. يجب أن نسمّي الأشياء بأسمائها وأن نفضح في الوقت نفسه الخلط المتعمّد، فالقدرة على التّمييز وعلى ترك الانتماءات القبليّة العمياء فضيلة يجب أن تتوفّر في من يتحمّل مسؤوليّة الإعلام والتّحليل والتّفكير.
لقد كانت العناوين والأسئلة الفرعيّة المريرة لناشر المقال على هذا النّحو : "أخ يقتل أخته ويجر رأسها في القرية فرحا، شرطي أردني يقول إنّها جريمة بشعة ولكن لو كنت مكانه سأقوم بنفس الجريمة. أين دور رجال الدين الاسلامي في تحريم هذه الجرائم؟ الجاني يقول : يدي عفنت وسوّست فبترتها".
العنف المؤدّي إلى الجريمة نتيجة للعنف البنيويّ الهادئ الذي يسمّيه عالم الاجتماع الرّاحل بيار بورديو بـ"العنف الرّمزيّ". إنّه قساوة بنيويّة تكون محلّ إجماع صامت أو صريح بين الضّحايا والجلاّدين في الوقت نفسه. فما يسمّيه بورديو نفسه بـ"الهيمنة الذّكوريّة" عبارة عن مصنع منتج للعنف الهادئ الذي يفعل فعله باسم مبادئ تصف نفسها بأنّها أخلاقيّة وتحاط بهالة من التّقديس. هذه المبادئ تقدّم على أنّها بديهيّة وطبيعيّة لا تحتاج إلى النّقاش وهي في الحقيقة تاريخيّة واعتباطيّة وعرضة إلى التّفكّك المستمرّ والانفضاح. ثقافتنا السّائدة مصنع يحوّل الظّلم واللاّمساواة إلى مبادئ وثوابت ومسلّمات.
من قتل دلال؟ قتلها الأخ والأب والعمّ والأمّ المزغردة والقببلة ورجال الشّرطة الذين سلّموها إلى أهلها وهي متزوّجة وقتلها هذا التّصوّر العتيق القبليّ للشّرف... وكلّ ما ذكره صاحب المقال صحيح ومرير. ولكن هؤلاء الفواعل ليسوا إلاّ تجسيدا لبنى وصيغ للعلاقات ما زالت متحكّمة في حياتنا الخاصّة والعامّة من حيث ندري ولا ندري، وما زالت منتجة باستمرار للعنف الرّمزيّ الهادئ ومنتجة من حين إلى آخر للعنف الدّمويّ المحتدم. إنّها البنى التي يمكن أن نسمّيها "صهريّة" لأنّها تقوم على الصّهر والمزج والخلط بين ما يتحتّم علينا اليوم عدم صهره وخلطه ومزجه. إنّنا نصهر أوّلا الأب في صاحب السّلطة. فصاحب السّلطة عندنا ليس مسؤولا أمام مواطنيه بل أب مقدّس معصوم عن الخطإ. أب يُعدّ أبناءه البيولوجيّين لخلافته ويأكل أبناءه "الرّمزيّين" ويكمّم أفواههم ويضع لنفسه الأنصاب في كلّ مكان، ويحرص على تنظيم واجبات الطّاعة والولاء، ويحرص على إيجاد كباش الفداء من أجل إبقاء لحمة المجموعة ومن أجل الحفاظ على مصالحه. فالأب في القبيلة يطاع ولا يناقش، والأب لا يختار ولا ينتخب ويبقى أبا على مدى الحياة. والأب ينجب نفسه : فالابن سيكون أخا مضطلعا بنفس الوظائف القمعيّة. صهر صاحب السّلطة في الأب ينتج صهر الأخ في صاحب السّلطة، ولذلك يحقّ للأخ أن يستبدّ بأخته كما يستبدّ الأب-صاحب السّلطة بالرّعايا. ونحن نصهر جسد المرأة في جسد خياليّ هو جسد العشيرة أو الأمّة. فتعريض جسد المرأة إلى الغير هو تعريض المجموعة والأرض والوطن إلى الخطر. وكم ارتبطت المرأة بالأرض والوطن المفقود في أدبنا النّضاليّ وشعرنا الوطنيّ وكم تمنّيت أن نخلّص جسد المرأة من هذا الرّمز حتى تصبح فردا مسؤولا عن جسده متحكّما فيه
ونحن نصهر الزّوج في صاحب السّلطة، بدل أن نعتبر الزّوج قرينا و"إلفا" و"سكنا". فالزّوج في أغلب تشريعاتنا العربيّة يطلّق زوجته بمحض إرادته ويحقّ له تأديبها ومراقبتها وتقرير مصيرها.
ونحن نصهر الماضي في الحاضر. إنّنا لم ندفن موتانا ولم ننه حدادنا عليهم، ونعتبر السّلف الصّالح نموذجا نقتدي به في كلّ شيء وفي كلّ زمان. ومعلوم أنّ الميّت الذي لم يدفن يعود في شكل شبح يلاحق الأحياء وينغّص عليهم عيشهم ويحكم عليهم بالتّأثّم الدّائم لعدم وفائهم له.
ونحن نصهر الدّين في الدّنيا ونصهر أحكام الدّنيا التي يعاقب عليها القانون في أحكام الآخرة التي هي أمر بين الإنسان وربّه. فالأحكام المتعلّقة بالمعاملات يجب أن تصبح قانونيّة وضعيّة ويجب أن نحرّر القرآن من الفقه الذي أحيط به والذي يختزله في مجموعة من الأحكام المحلّلة والمحرّمة. إنّه نصّ تعبّديّ روحانيّ يمكن أن تلهمنا مبادئه الأخلاقيّة في تطوير تشريعاتنا وتطوير منظومة حقوق الإنسان وتهذيب نفوسنا وتعليمنا الرّحمة وعدم التّمثيل بالنّفوس والأجساد، ولكن لم يعد بالإمكان اعتباره مصدرا للتّشريع والاجتهاد في مجال المعاملات والحياة العامّة. لم يعد بالإمكان الإبقاء على اللاّمساواة بين الرّجال والنّساء ولم يعد بالإمكان قطع يد السّارق وقتل المرتدّ وقتل الزّاني المحصن وجلد شارب الخمر...
ونحن نصهر الدّين في السّياسة ولذلك تتضخّم الفتاوى التي لا تعدو أن تكون مواقف سياسيّة ظرفيّة مقنّعة، ولذلك يستعمل أهل السّلطة الدّين لإثبات شرعيّتهم الهشّة التي لم تستمدّ من إرادة الشّعب ومن الممارسة التّمثيليّة الدّيمقراطيّة.
ونحن نصهر الأدب في الدّين، ولذلك نواصل ملاحقة الشّعراء ونواصل منع الكتب وحرقها على نحو يندى له الجبين.
هذه البنى الصّهريّة هي التي تنتج العنف الهادئ والعنف المحتدم في أشكاله المختلفة. فإلى جانب عنف قتل النّساء هناك عنف نهب الثّروات وتكميم الأفواه، وعنف منع النّساء والرّجال معا من الفعل السّياسيّ ومن الانتخاب ومن الجهر بالرّأي والنّقد ومن حقوق المواطنة، وهناك عنف القوانين التي تكرّس دونيّة المرأة وتعتبرها كائنا تحت وصاية الأب أو الأخ أو الزّوج. الثّوابت التي تنتجها هذه البنى الصّهريّة لم تعد مبادئ يمكن التّمسّك بها، والبديهيّات التي ندافع بها عنها لم تعد بديهيّة. ومع ذلك فنحن متأرجحون متردّدون في قبول البنى الدّيمقراطيّة القائمة على الفصل وعدم الخلط. ولذلك فنحن منفصمون : نقول لكلّ شيء لا ونعم في الوقت نفسه، نحبّ الحداثة ولا نحبّها، نريد تحرّر المرأة والفرد ولا نريد، ونلوذ بالماضي من الحاضر، تماما كالمنفصم الهاذي الرّافض للواقع وللزّمن. نتمسّك بثوابت لم تعد تلائمنا ونقفز على النّيران ونرقص بأغلالنا لكي نثبت لأنفسنا وللعالم أنّها تلائمنا وأنّها هي "هويّتنا" الثّابتة.
الإرث اختيار وقرار، واليوم اخترت أن أرث النّواح الطّقوسيّ القديم، على هذا النّحو : النّواح على قتلى الإرث الأبويّ المستبدّ، على مسحوقي طاحونة العادات و"الثّوابت".
مشاركة منتدى
1 كانون الثاني (يناير) 2004, 16:09, بقلم Dr. Amer Alshawa
While I sympathized with the case of Dalala , and although I am against this honor-killing crimes, the author’s style made me loose interest in her arguments. She, unscholarly and subjectively, summed in a very strange way many issues, implying an anti-Islam agenda.