السبت ١٩ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم جوزيف سماحة

هامشيون

كانت أياماً مقلقة تلك التي واكبت صدور القرار 1701 وتلته. كانت مقلقة في لبنان تحديداً. قررت خلالها القوى الهامشية في الأكثرية الحاكمة ارتداء «الكاكي». تصرفت كما لو أن العملية العسكرية الإسرائيلية حققت أهدافها وحان وقت القطاف السياسي. غادرت الحد الأدنى من الحس السياسي ومن الذوق. كادت توجّه الأوامر الزاجرة الى المقاومين: تعالوا الى مجلس الوزراء لوضع سلاحكم على الطاولة.
تعامل هامشيو الأكثرية مع قادة الحزب وكأنهم، أي القادة، ضباط ارتكبوا خيانة أو معصية أو عيباً: سنوقفكم في الساحات العامة ونجردكم من الرتب، وأقصى ما نسمح لكم به عدم طأطأة الرؤوس. إنه وقت المحاسبة ونحن من يحاسب، قال الهامشيون. ألسنا نحن من تناول الغداء، قبل قانا، مع كوندوليزا رايس ومن أولم، بعد قانا، لديفيد ولش. تأسيساً على ذلك تحقّ لنا الدعوة الى الوليمة الكبرى. ها قد دعونا إليها ولو كنا حاضرين وحدنا.

كانت لحظات صعبة ومريرة. تصرف الهامشيون كأن قتلى إسرائيل وشهداء لبنان في رصيدهم. تجاوزوا، في الحماقة، عند اقتراب الهدنة، حماقة إيهود أولمرت وعمير بيرتس ودان حالوتس عند بداية الحرب. وفي اللحظة التي كان الاسرائيليون يكتشفون فيها حجم أخطائهم تقدم الهامشيون اللبنانيون لاستلام الشاهد غافلين عن أننا لسنا في سباق بدل وأن العدّاء الأخير، الجيش الإسرائيلي، لم يكمل اجتياز المسافة المفروضة عليه. إذا كان الاسرائيليون، باعترافهم جميعاً، قد أخطأوا في تقدير «قوة المقاومة واستعدادها» فإن الهامشيين اللبنانيين ارتكبوا خطأ أشدّ فداحة: بدوا عديمي الإحساس حيال مواطنيهم. لم يقدّروا حق التقدير حساسية جمهور يلتقي عنده رافدان شديدا الالتهاب: المصاب
العظيم ونشوة النصر

هامشيو الأكثرية لبنانيون بالمعنى الرديء للكلمة، أي إنهم يعتقدون فعلاً أن الآلة العسكرية الاسرائيلية والوزن السياسي الأميركي هما في خدمتهم. لا يعرفون شيئاً عن الدروس التي استخلصها الإسرائيليون من غزو 82 وأبرزها تجنّب الغرق في لبنان، وتجنّب تأمين سند مباشر لقوى داخلية راغبة في تعزيز موقعها. والواضح أن هذه الدروس شديدة الانطباق على حالة هؤلاء الهامشيين المراهنين على أن التاريخ يكافئ الكسالى لمجرد تقديمهم طلب انتساب إلى الشرق الأوسط الجديد.

الوهم الذي ركب الهامشيين اللبنانيين هو ذلك القائل بأن بعض التصريحات الحاملة لأهداف العدوان تعطيهم حظوة لدى القائمين به. لم يلاحظوا أبداً أن البشر الجدّيين يجرون حسابات مختلفة.
كانت تلك اللحظات مقلقة فعلاً. إلا أن ما تلاها دفع الوضع نحو قدر من الجلاء. لقد اتضحت، بسرعة، الهوة الفاصلة بين النتائج الميدانية للمواجهة والقرار 1701. واتضح، في هذا السياق، أن أي محاولة لتطويع الوقائع من أجل أن تطابق القرار، في القراءة الأميركية ــ الإسرائيلية، هي محاولة للانتقال من حافة الهاوية إلى... الهاوية.

وفي هذا الوضع، بالضبط، تزايد الضغط من أجل التوصل الى تسوية توائم بين المعطيات المعبّرة عن موازين القوى الميدانية في الجنوب والقرار الصادر عن مجلس الأمن. وما قرار إرسال الجيش الى الجنوب، حسب الصيغة المقرّة في مجلس الوزراء اللبناني، إلا التعبير عن هذه التسوية. ولقد سبق ذلك اعتراف كوفي أنان وكوندوليزا رايس بمحدودية القدرة على تنفيذ المطالب القصوى.

يمكن الافتراض، في هذا المجال، أن الولايات المتحدة وصلت الى استنتاج مؤداه أن الاستمرار الفعلي في الضغط المنفلت من عقاله سيؤدي الى الفوضى. هذا أولاً. وثانياً، أن الفوضى، في الشرط الراهن، ليست في مصلحة التحالف الأميركي ــ الإسرائيلي.

ما يرجح هذا الافتراض هو أن التعثر الإسرائيلي شرّع الأبواب أمام أزمة داخلية مرشحة للتصاعد وقابلة لأن تعيد تشكيل الخريطة السياسية. لقد تساوق «انهيار» الجبهتين الأمامية والخلفية الى حدّ بدا معه أن «المضي قدماً» (ترجمة عربية لـ«كاديما») لم يعد سهلاً.

يجب أن نضيف إلى ما تقدم ضغط «الكوابيس» العراقية على إدارة جورج بوش. ويؤدي هذا الضغط الى ثبات الرجل في انعدام الشعبية، وإلى تململ الجمهور الأميركي، وإلى هزيمة «ديمقراطيي الحرب».
قادت الحسابات المستجدة الى إجازة التسوية بصفتها فرصة لالتقاط الأنفاس. وعندما توجهت القوى الجدية نحو هذه الصيغة، وهو أمر ينتظر وصول القوة الدولية حسب الشروط المتوافق عليها في لبنان، عندما حصل ذلك بقيت أصوات الهامشيين اللبنانيين مرتفعة ولكنها تحولت الى صدى يعجز عن إعاقة إنتاج التسوية.
يمكن القول إن الهامشيين اللبنانيين يقولون بصوت مرتفع ما يفكر فيه آخرون ويقولونه همساً. إلا أن الفرق بين السلوكين لا ينبغي له أن يقود الى انتقاد أخلاقي. الفرق ناجم عن حسابات سياسية، وعن تقدير للممكن والصعب والمستحيل. والفرق ناجم، أيضاً، عن نوعية التمثيل والمسؤوليات المترتبة عليها. والفرق ناجم، أخيراً، عن الاضطرار الى مراعاة المشاعر في بيئات مختلفة.

لقد أسكت العقلاء الهامشيين في معسكرهم. لم يسكتوهم تماماً وإنما جعلوا صوتهم خفيضاً. نراهم على الشاشات، يخيّل إلينا أنهم يزعقون، وهم يكونون يزعقون فعلاً، ولكننا بالكاد نسمعهم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى