هل صحيح يا عمي محمد ؟؟
أن تكون وحيدا لا يعني بالضرورة أن تجلس بعيدا عن الناس ، منعزلا ، لا تكلم أحدا ، ولا يكلمك أحد . فالوحدة ليست بابتعادك عن الناس ، أو عدم انخراطك في لقاءات كثيرة مع بعضهم . الوحدة الحقيقية أن ترى ثقافتك وطموحاتك وأمانيك وأفكارك .. الخ لا تتقاطع مع من حولك ويعيشون معك . أن تتكلم بلغة غير لغتهم وتحلم غير ما يحلمون وأن يكون تفكيرك غير تفكيرهم ، وإذا جمعتكم سماء واحدة وأرض واحدة فقد فرقت بينكم الأحلام والأهداف والمشاعر ، حتى الموسيقى التي يقال إنها لا تعرف لغة ولا انتماء كثيرا ما تتعارض وتتنافر مع ذوقك رغم أنك تعيش في وسطهم
.
من كان يؤمن أن المؤسيقى لا لغة لها فقد أخطأ فها هي شعوب بأكملها تطرب لالة موسيقية قد لا يطرب لها شعب آخر ويعتبرها نشازا .
الشعور بالوحدة شيئ قاتل جدا ، شيئ ممل ، فكيف إذا طالت الوحدة ولا تعرف متى ستنتهي ؟؟ ألست حينها كمن يتعذب بالنار ؟؟ أو يعذب نفسه فيها ؟
كثيرون منا اختاروا عزلتهم بأيديهم دون أن يدروا ، فإذا بهم يكتشفون أنهم غير قادرين على الخروج منها .
أليست الغربة عن الوطن عزلة اختيارية ؟؟ وأحيانا إجبارية ؟
صحيح ثمة ملايين من البشر رضوا بواقعهم الجديد واعتبروا أوطانهم الجديدة هي أوطانهم البديلة حتى لو قالوا غير ذلك بأفواههم وقليلون لم ينجحوا في التأقلم مع الواقع الجديد وظلوا يعيشون عزلتهم وكأني واحد منهم .
لم تنجح كل المغريات في أن تقتل في داخلي الانتماء الحقيقي لثقافة وحضارة تعيش في داخلي رغما عني . لثقافة رغم انكساراتها لا زلت أرى نفسي فيها وأنمو على ذكرياتها الجميلة .
أستمع أحيانا لأم كلثوم فأعود للوراء ثلاثين سنة ، لا أعرف لماذا كلما أستمع لها أحلق في الفضاء ، ألأنها من جيلي الذي بدأ يعد العدة للرحيل أم لأنني لا زلت أعيش في الماضي ؟؟
بصراحة أقول لكم لم أعد أشعر بذلك الطرب الذي تعودت عليه عندما كنت أسمعها أنا وأبناء جيلي فقد ذهب بريقها هنا في بلاد الغربة ، ألأن نانسي عجرم حلت محلها أم لأن زمانها قد ولى ، أم لأننا نحن نعيش في زمن لم يعد لنا ؟!
لطالما استمعت لها وأنا أجلس في سيارتي على شط بحيرة فكتوريا في ولاية منسوتا الشمالية في الولايات المتحدة وهي تصدح
يا فؤادي لا تسل أين الهوى
كان صرحا من خيال فهوى
رحم الله ابراهيم ناجي الشاعر المصري الذي كتب كلمات تلك القصيدة الرائعة ، هل حقا هوى صرحنا الكبير كما قال ؟؟
هل حقا تحطمت أحلامي ؟؟
أكانت كل أحلامي مجرد وهم وأمان لن تتحقق ؟؟
اسقني واشرب على أطلاله
وارو عني طالما الدمع روى
ماذا أشرب على أطلاله ؟ ومن هو الذي سيسقيني مادام الوطن الذي تعودت أن أشرب به أصبح بعيدا لا نراه إلا في الصور والانترنت ؟؟
لا لم يعد لصوت أم كلثوم ذلك البريق
لقد غاب عن صوت المسجل والسي دي نبرة صوتها ، ليس لأنها ماتت ...
هل هناك من يفهمني ، ويقرأ ما بين السطور ؟؟
أم كلثوم وأغانيها وصوتها جزء من حضارة لا تعيش ولا تنمو الا في بيئتها ، وعندما تسمعها بعيدا عن ذلك الوطن تصبح مثل قراءة تقرير في مجلة عن جزر بروناي وماليزيا ترى صورها لكنك لا ترى جمالها الحقيقي .
هناك في شوارع القاهرة ولبنان ودمشق والقدس يمكنك أن تحس بصوتها ، يمكنك أن تغني معها بصوت عال دون أن تخاف من أحد أو يسخر منك أحد ، هناك وأنت تجلس على أحد المقاهي ترى الناس يطربون معك ويشاركونك فرحتك .
ها هو عمي محمد بعكازه القصير يقف فجأة أمام المقهى يطربه صوت الست القادم من آلة التسجيل في الداخل فيحرك رأسه طربا ويهز عكازه بينما الست تغني :
هل رأى الحب سكارى ....
عمي محمد يتنهد قليلا ويرفع عكازه ويقول :
– ساق الله على أيام زمان
– واحد شاي لعمي محمد ، أصيح بأعلى صوتي للنادل ثم أدعوه للجلوس .
يجلس عمي محمد بجانبي يغلق عينيه كأنه يستعيد كل ذكرياته القديمة .
أم كلثوم تكمل القصيدة حتى تقول
وضحكنا ضحك طفلين معا
الله ، ما أعذب هذا الصوت يقول عمي محمد . تركته في سرحانه وانشغلت في تدخين الشيشة . كنت طربا مثل عمي محمد حتى استفقت وهي تقول
ياحبيبي كل شيئ بقضاء
ما بأيدينا خلقنا تعساء
حينها هززت عمي محمدا وسألته ، أصحيح يا عمي محمد ؟؟
هل صحيح أن سبب تعاستنا ليست من صنع أيدينا ؟؟
هل كان ناجي صادقا أم كانت له أحلامه الخاصة التي لا تتقاطع مع أحلامنا ؟؟
هل نحن الذين شئنا أم الحظ الذي شاء ؟؟
– عمي محمد ، عمي محمد ، هززته 3 مرات أخرى
– مالك يا عادل جرى ايه ؟؟
– انت نايم يا عم محمد
– ده انت فوقتني من أحلى حلم بحياتي
– الله ، انت لسه قاعد من 3 دقايق
– بس 3 دقايق ؟ الله دول أحلى 3 دقايق عشتهم
– عايز أسألك يا عم محمد
– قول يا ابني عايز ايه
– هل صحيح أن كل شيئ بقضاء ؟؟
– مش هتفرق يا ابني ما دامت النتيجة واحدة ، واللي راح راح
– لم أرد ....
– تعرف تلعب طاولة ، سألني عم محمد بعد أن عرف حيرتي
– انت لسه فاكر؟
– اغلبني إذا بطلع بايدك
– وكمان بتتحداني
– انتو جيل الشباب جيل ضعيف
– الله ! طب ليه ؟
– حتعرف لما تلعب الطاولة وتتغلب
– يا عبده هات الطاولة واتنين شاي ، ناديت النادل فقد قررت أن أغلب عمي محمد .