الجمعة ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم زهير الخويلدي

هل يجوز التفكير هرمينوطيقيا مع ابن خلدون؟

"إن علم التعبير علم بقوانين كلية يبني عليها المعبر عبارة ما يقص عليه وتأويله"[1]

استهلال:

تأخرت الكتابة عن ابن خلدون نسبيا بالمقارنة مع غيره من الحكماء العرب على الرغم من أهمية المنعرج الذي أحدثه في تاريخية الفكر العربي الإسلامي وقوة الكشف العلمي لسنن الظواهر العمرانية ودقة الإشكاليات التي طرحها بالنسبة إلى حضارة اقرأ وخطورة القرارات النظرية والعملية التي اتخذها بشأن تدبير الاجتماع البشري واستراتيجية الإصلاحات التي اقترحها بالنسبة إلى الثقافة الإنسانية جمعاء.

كما استقرت الخيارات المعرفية عند جملة من المنطلقات المعاصرة والمرجعيات التحديثية بالرغم من النزعة الخلدونية البادية للعيان عند كل كاتب يشتغل على هموم الأمة سواء على مستوى شكل اللغة المستعملة أو ضمن الروح الفكرية التي يؤطر بها مباحثه ويرصع من خلالها مقالاته.

ولعل سبب هذا التأخير هو كثرة الضجيج حول هذه الشخصية الفريدة وتزايد النصوص المدحية الافتخارية لكاتب المقدمة مما جعله يكون ملهم لمرجعيات متنافرة مثل تنافر المادية التطورية مع الدينية الروحانية. والداعي الثاني هو الرغبة في التخلص من الهالة السحرية التي يمارسها تمثال ابن خلدون على المخيلة الإبداعية لكل عقل باحث عن وجهة نظر فريدة من نوعها وذلك بوصفه ما لا يمكن تجاوزه تصديقا للحديث الشريف:" لا نبي بعدي" وتفعيلا لمنهجية النقد الهرمينوطيقي التي نروم استعمالها هاهنا. فهل يجوز التفكير هرمينوطيقيا مع ابن خلدون؟ أو بعبارة أخرى ما السبيل إلى استخلاص تجربة هرمينوطيقية بالانطلاق من مقدمة كتاب العبر؟

إن التسلح بروح المغامرة وببعض من الحذر الفلسفي والتزود بالتدبير التعقلي قد ييسر علينا إمكانية الشروع في القيام بقراءة هرمينوطيقية نقدية لمقدمة ابن خلدون تحفر بين تضاريسها وتنقب في طياتها وتتجول في أروقة عمارتها وتستعيد اللغة التي كتبت بها والمقولات التي عبرت عن قدرته التأليفية المدهشة وتقف عند مواطن الضعف والقوة وحركات الصعود والهبوط في الأسلوب الخلدوني.

هذا المشروع على ضخامته ووعوده الكبيرة بالمقارنة مع أفق انتظار الجماعة العلمية يظل مستعصيا ما لم ينطلق من العمل الهرمينوطيقي الذي قام به ابن خلدون بنفسه في المقدمة على الرغم من ضموره وقلته. فكيف عرف علامة العرب في الهزيع الأخير من الحضارة في دورتها الأولى الهرمينوطيقا؟ وهل نجد أثر لمنهج في التفسير لديه؟ ما سر إغفاله لمصطلح التأويل؟ وماذا يقصد علم تعبير الرؤيا؟ ولماذا اختار تقريظ ملكة الخيال بالمقارنة مع ذمه الحواس ونقده للعقل؟ والى مدى لعبت اللغة دورا كاشفا للحقائق والمعاني؟ وكيف فسر ظاهرة النبوة؟ وهل كان مصطلح التأنّس على الضد من مصطلح التوحش؟

لكن الإشكال الأول هو: لماذا وضع ابن خلدون علم التفسير ضمن علوم قراءات القران؟ وهل هو يدرج ضمن العلوم الحكمية الفلسفية أم ضمن العلوم النقلية الوضعية؟ والإشكال الثاني هو: ماهو السبب الذي دفع ابن خلدون إلى وضع علم التعبير بعد علوم التصوف وقبل التطرق إلى العلوم العقلية؟ هل المقصود أنه علم بياني يستثمر مخزون اللغة من رمزية ومجاز أم أنه طريقة عملية ورياضة روحية تستثمر القلب والخيال؟ فهل يترتب عن ذلك أنه من العلوم الشرعية التي تختص بها الملة الإسلامية أم أنه من العلوم الكونية منقول عن الأمم الغابرة وأضافه له حكماء العرب بعض البدع؟ كيف عمل واضع علم العمران البشري على تفسير ظاهرة النبوة دون لغو أو تعصب؟

إن ماهو في ميزان الفكر ليس التقول على ابن خلدون غير ما أراد هو أن يقوله ولا ممارسة العنف التأويلي على مدونته وإنما استنطاق نصوصه ورفع الالتباس عن التناقضات التي تهز المتن الخلدوني من الداخل وتمنعه من التأثير في الواقع وتمنع من تحوله إلى أحد مصادر الثورة الإبستيمولوجية المنشودة.

1- علم التفسير بين الرسم والقراءة:

"لابد من النظر بالكتاب ببيان ألفاظه أولا وهذا هو علم التفسير"[2]

يدرج ابن خلدون علم التفسير ضمن العلوم النقلية الوضعية التي تقوم بالإخبار عن الواضع الشرعي ويبقي على حاجة إلى العقل من جهة الإلحاق بوجه قياسي. ويضعه من حيث الترتيب ضمن الشرعيات إلى جانب علم القراءات وعلوم الحديث وعلم الفقه وعلم أصول الفقه وعلم الكلام. ويعترف أنه من بين العلوم المختصة بالملة الإسلامية وأن العرب امتلكوا ناصيته وأتقنوا صناعته غاية الإتقان. في السياق يصرح ما يلي:"إن هذه العلوم الشرعية النقلية قد نفقت أسواقها في هذه الملة بما لا مزيد عليه وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التي لا شيء فوقها وهذبت الاصطلاحات ورتبت الفنون فجاءت من وراء الغاية في الحسن والتنميق. وكان لكل فن رجال يرجع إليهم فيه أوضاع يستفاد منها التعليم"[3].

ما يهمنا هنا أن علم التفسير إذا ما نظرنا إليه بعيون هرمينوطيقية معاصرة يضم علم القراءات التي تزيد عن السبعة وترتبط بالرواية والأداء وتتراوح بين المد والتسهيل وتشترط حسن السمع والإصغاء ولكن قيمتها لا تضاهي قيمة النقل والكتابة والتدوين. بين إذن أن ابن خلدون ينتصر إلى الكتابة على القراءة والى النص المرقون على الخطاب الشفوي ويظهر ذلك في مماهاته بين القرآن والمصحف بقوله:"القرآن هو كلام الله المنزل على نبيه المكتوب بين دفتي المصحف وهو متواتر بين الأمة."[4] علاوة على إدماجه فن الرسم أو الخط إلى الفضاء الهرمينوطيقي في الاعتناء بأشكال الحروف وأحوال الألفاظ وانثيال الجمل بقوله:"ربما أضيف إلى فن القراءات فن الرسم أيضا وهي أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطية لأن فيه حروفا كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخط"[5].

اللافت للنظر أن ابن خلدون مارس النقد الهرمينوطيقي عند إشارته إلى جملة من المسائل الإشكالية:

 الأولى هي المقارنة بين القراءة والكتابة في قوة الحفظ والنقل والوفاء للكلام الإلهي وأيهما يسهل إمكانية القدح في تواتر القرآن.

 الثانية هي مسألة تعدد القراءات وتأثير ذلك على الفهم والتأويل والإمساك بالمعنى الأصلي أو فرضية التشريع لتعدد المعاني بالنسبة للآية المنجمة الواحدة.

 الثالثة هي مسألة مخالفة أوضاع الخط في القرآن لقوانين لغة الضاد ورسم جملة من الحروف على غير المعروف من قياس الخط وكثرة الخلاف في الرسم وهو ما استوجب البحث عن التعليل والإقناع لتفادي مخالفة الرسم المصحفي لأوضاع الخط وقانونه.

يعلمنا ابن خلدون بأن الناس تفهموا الوحي عن طريق قواعد وتراكيب اللغة التي دون بها وهي لغة الضاد وأنهم ركزوا على معاني المفردات وعلاقات الفروض بالوقائع وميزوا بين المجمل والخاص والمطلق والمقيد وتوقفوا عند مقتضى الحال وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ واستخدموا المعارف المتوارثة وطبقات الشعر وعلوم اللسان وموضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب في تفسير القرآن. و" وصار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف وهي معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي...والصنف الآخر من التفسير وهو ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب..."[6]

ما ينبغي التوقف عنده في هذا المستوى أن ابن خلدون يمارس النقد الهرمينوطيقي مجددا من خلال القرارات التالية:

 القول بأن العرب لم يكونوا حضارة علم وأهل كتاب قبل نزول القرآن وغلب البداوة والأمية عليهم وماهو هام هنا تفاديه مصطلح الجاهلية وقوله بالتوحش.

 الاعتراف بأنهم كلما طلبوا العلوم ورغبوا في المعرفة إلا وعادوا إلى الأمم التي سبقتهم في ذلك وخاصة أهل الكتاب.

 الانتباه إلى أن تفاسير الوحي قد امتلأت بالمنقولات المتأتية من تفاسير التوراة والإنجيل وذلك بتصريحه الخطير:"تساهل المفسرون في مثل ذلك وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات."[7]

 إرجاع النوع الثاني من التفسير إلى النوع الأول وإزالة التفريق بينهما بقوله:"هذا الصنف من التفسير قل أن ينفرد عن الأول إذ الأول هو المقصود بالذات وإنما جاء هذا بعد أن صار اللسان وعلومه صناعة."[8]

 وقوع التفسير بالعقل في بعض الانحراف والغرابة وإعطاء الأولوية لعقائد المذاهب الفاسدة على حقائق النصوص ومعان الآيات.

من هذا المنطلق دعا ابن خلدون إلى التحقيق والتمحيص في التفاسير والقيام بالتحري والتثبت من أجل تخليص الجيد من الرديء والصحيح من الخاطئ وقام بتحذير الجمهور من الأخذ عن مفسري العقل والاكتفاء بما يعرضه مفسري النقل.

يناقش ابن خلدون ظاهرة الإعجاز عند الأنبياء ووقوع الخوارق والتصديق بها من طرف عامة الناس ويستند إلى آراء المتكلمين المعتزلة والفلاسفة العرب ، فإذا كان المتكلمون يرون أن المعجزة واقعة بقدرة الله لا بفعل النبي وليس للنبي فيها إلا التحدي بها والاستدلال قبل وقوعها على صدقه في مدعاه، فإن الحكماء يفسرون الخارق على أنه من فعل النبي ولو كان في غير محل القدرة وذلك لامكانية وقوع الحوادث بعضها من بعض وبناء على مبدأ الايجاب الذاتي.

بعد ذلك ينقل ابن خلدون العمل الهرمينوطيقي من دائرة الوحي القرآني إلى دائرة جديدة هي الأحاديث النبوية واستعمله كقانون للتمييز بين الأحاديث الصحيحة والحسنة والأخرى الموضوعة والضعيفة والمنقطعة والشاذة والمرسلة والمعضلة والغريبة وذلك بالنظر في الناسخ والمنسوخ وفي الأسانيد.وفي أمر الناسخ والمنسوخ نجده يصرح:"إذا تعارض الخبران بالنفي والإثبات وتعذر الجمع بينهما ببعض التأويل وعلم تقدم احدهما تعين أن المتأخر ناسخ."[9]

إن الحاجة إلى التأويل تأتي لتخطي التناقض بين النوعين من الأحاديث وبين النص والواقع والمتن والعقل، لكن كيف تمكن ابن خلدون من تفسير ظاهرة النبوة؟ وماذا يقصد بعلم تعبير الرؤيا؟

2- علم التعبير بين الرؤيا والنبوة:

"وأما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقلي إذا أدرك مدركه وألقاه إلى الخيال فصوره فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء."[10]

يضع ابن خلدون علم التعبير بين علوم التصوف وعلوم الحكمة وبين المنهج النقلي البياني والمنهج العقلي البرهاني وربما المغزى من ذلك هو المنزلة التي تحتلها الآلة التي يستخدمها في الكلام عن الكشف والحقيقة وهي الخيال الذي يأتي بين القلب والعقل. ويرى ابن الزيتونة البار أن الخيال "ينتزع من الصور المحسوسة صورا خيالية ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت الحاجة إليها عند النظر والاستدلال"، كما اعتبره الواسطة بين المحسوس والمعقول بقوله:"تجرد النفس منها صورا أخرى نفسانية عقلية، فيترقى التجريد من المحسوس إلى المعقول والخيال واسطة بينهما."[11]

يعتبر ابن خلدون الرؤيا والتعبير لها من العلوم الشرعية المستحدثة في الملة التي وقع جلبها من الأمم الغابرة وتوارثها جيل بعد جيل ويبرهن على ذلك بقوله:"الرؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق ولابد من تعبيرها". ولكنه يميز بين الرؤيا الصالحة التي ينظر إليها كنوع من البشرى وفي مرتبة الوحي والرؤيا الكاذبة التي ينظر إليها كأوهام وأباطيل وفي ذلك يصرح:" إنها كلها صور في الخيال حالة النوم ولكن إذا كانت تلك الصور متنزلة من الروح العقلي المدرك فهو الرؤيا، وان كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أودعها إياها منذ اليقظة فهي أضغاث أحلام."[12]

كما يفرق واضع علم العمران البشري بين ثلاثة مواضيع: الموضوع الأول هو المرئي والذي يتميز بالجلاء والوضوح وتكشف عنه الرؤيا الصريحة أما الموضوع الثاني فهو الموضوع الغيبي الذي يرتبط بالمستقبل وهو يحتاج إلى التأويل، أما الموضوع الثالث فهو غامض وغريب ويتعلق بالحلم والخيال،إذ يقول حول هذا الموضوع:"الرؤيا التي من الله هي الصريحة التي لا تفتقر إلى تأويل، والتي من الملك هي الرؤيا الصادقة تفتقر إلى التعبير، والرؤيا التي من الشيطان هي الأضغاث."[13]

لكن ما الفرق بين الموضوع الذي يفتقر إلى التأويل والموضوع الآخر الذي يفتقر إلى التعبير؟ وهل يوجد موضوع يصنعه الخيال ولا يفتقر إلى التأويل ولا إلى التعبير ويكون مجرد أضغاث أحلام؟ ألا يمكن أن نخضع الأحلام نفسها إلى منهج في التفسير كما بين ابن سيرين؟

يقوم علم التعبير على قوانين كلية هي بمثابة قوالب لغوية معتادة تتضمن التمثيل والتشابه والمناسبة وتوفر القرائن بين التصورات والدلائل ويستدل بقول ابن سيرين:" أصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا وأن العابر لا يضع يده من الرؤيا إلا على ما تعلقت أمثاله ببشارة أو نذارة أو تنبيه أو منفعة". ويضيف:"الرؤيا الصادقة قسمان: قسم مفسر ظاهر لا يحتاج إلى تعبير ولا تفسير، وقسم مكنى مضمر تودع فيه الحكمة والأنباء في جواهر مرئياته."[14] لكن أي صنف من البشر قادر على إدراك الوحي والرؤيا؟ وهل يتم هذا الإدراك بالفطرة أم بالرياضة؟ وهل قام ابن خلدون بعقلنة ظواهر الكهانة والرؤيا وتفسير حقيقة النبوءة؟

يصف ابن خلدون النبي بأنه واحد من البشر الذين وقع اصطفائهم لمعرفتهم وتفضيلهم بخطابهم وتخصيصهم كوسائل بين الله والعباد ، وتتمثل وظيفة النبي في تحريض الناس على الهداية وتدليلهم على طرق النجاة بتجنيبهم ارتكاب الشر وتقريبهم من فعل الخير، ويتفوق النبي عن البقية بالخوارق والاطلاع على المغيبات وبالصدق والعصمة والعفاف والصدقة وتلقي الوحي وتفهيمه للبشر وتقريبه لمداركه.

في هذا السياق يصرح:"ومن علاماتهم أيضا أنه يوجد لهم قبل الوحي خلق الخير والزكاء ومجانبة المذمومات والرجس أجمع. وهذا هو معنى العصمة وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات والمنافرة لها و:انها منافية لجبلته."[15]

يورد ابن خلدون قولا للحكماء العرب عن النبي يقر فيه بالمغايرة بين النبوة والولاية وبأن المعجزة هي مجموع الخارق والتحدي ويصف النفس النبوية على أن لها خواص ذاتية منها صدور هذه الخوارق بقدرته وطاعة العناصر له في التكوين. والنبي مجبول على التصريف في الأكوان مهما توجه إليها واستجمع لها بما جعل الله له من ذلك."[16]

الفرق بين معجزة النبي وتحدي الساحر أن النبي مجبول على أفعال الخير مصروف عن أفعال الشر، أما أفعال الساحر على الضد من ذلك كلها شر وفي مقاصد الشر. كما أن خوارق النبي كثيرة تتفوق على خوارق الولي القليلة وتقع في الغالب مغايرة للوحي الذي يثبت النبي صدقه بالمعجزة. في السياق نفسه يلخص الجرجاني فلسفة الإعجاز القرآني في موقف التحدي بتساؤله:"أيجوز أن يكون تعالى قد أمر نبيه صلعم بأن يتحدى العرب إلى أن يعارضوا القرآن بمثله من غير أن يكونوا قد عرفوا الوصف الذي اذا أتوا بكلام على ذلك الوصف كانوا قد أتوا بمثله؟ ولابد من "لا" لأنهم إن قالوا: يجوز، أبطلوا التحدي من حيث أن التحدي كما لا يخفى مطالبة بأن يأتوا بكلام على وصف...ثم إن هذا الوصف ينبغي أن يكون وصفا قد تجدد بالقرآن وأمرا لم يوجد في غيره ولم يعرف قبل نزوله."[17]

ولذلك يصرح ابن خلدون:" اعلم أن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم المنزل على نبينا محمد صلعم"[18]. ويضيف أيضا:"وأما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي أعلى الروحانيات ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكررا في حالة الوحي."[19]

يميز ابن خلدون بين الكهانة والرؤيا حسب التقسيم الثلاثي الذي قام به للنفس البشرية، حيث رأى أن هناك صنف من النفوس عاجز عن الوصول إلى الحقيقة الوجودية فينغمس في المدارك الحسية والخيالية ويركب المعاني عن طريق الحافظة والواهمة، أما الصنف الثاني فهو متوجه في حركته الفكرية نحو العقل الروحاني فيتسع نطاق إدراكه ويسرح في فضاء المشاهدات الباطنية ويصل مرتبة العلماء والأولياء.في حين أن الصنف الثالث هو مفطور على الانسلاخ الجسمي والروحي حتى يصير ملكا بالفعل ويحصل له شهود الملأ الأعلى ويسمع الخطاب الإلهي وهذه رتبة الأنبياء.

تظهر الكهانة من هذا الاستعداد الموجود في النفس البشرية للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية وذلك بالاكتساب والاستعانة ببعض المدارك والتصورات والأفعال سواء الكلام أو الحركة ولكنه انسلاخ وهمي واتصال منقوص وفي ذلك يقول ابن خلدون:"ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن وحيه من وحي الشيطان".[20] ويرى أن حالة السجع التي تدل خفة المعنى وابتعاده عن المرئيات والمسموعات وقربه من الاتصال والإدراك بالمغيبات. ان هذه الكهانة كانت موجودة زمن النبوة وانقطعت بعد ختمها. من ناحية ثانية يفسر ابن خلدون الرؤيا بأنها وقوع لمحة في النفس بعد أن أصبحت ذاتا روحانية بالقوة مستكملة بالبدن ومداركه سواء بالظاهر أو بالباطن وحول هذا الموضوع نراه يقول:"وأما الرؤيا فحقيقتها مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات."[21]

يبحث ابن خلدون بعد ذلك حال الرؤيا في اليقظة واختلاف حالها في النوم ويميز بين الحالومية والرؤيا الصالحة وينتقل إلى تقصي الأشخاص الذين يخبرون بالكائنات قبل وقوعها ويدركون الغيب من الناظرين في الأجسام الشفافة ومن أهل الطرق بالحصى والنوى والناظرين في المرآة ومن العرافين الذين يشغلون الحس بالبخور ومن المنجمين الذين يضعون قوانين لاستخراج الغيب بالدلالات وقراءة الكف وخط الرمل.

يتفهم ابن خلدون ظاهرة الوحي بتأكيده أن التنزيل يتم على مراحل ثلاثة ويتميز بالغيبة والشدة والرهبة، المرحلة الأولى من الله إلى الملك والثانية من الملك إلى النبي والثالثة من النبي إلى الصحابة، ويصف هذه التجربة كما يلي:"إنما هي في الحقيقة استغراق في لقاء الملك الروحاني بإدراكهم المناسب لهم الخارج عن مدارك البشر بالكلية، ثم يتنزل إلى المدارك البشرية إما بسماع دوي من الكلام فيتفهمه أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله ثم تنجلي عنه تلك الحال وقد وعى ما ألقي إليه."[22]

يحدد ابن خلدون الوحي القرآني في كتاب المقدمة في جملة من المواضع نذكر منها ما يلي:

 "القرآن هو بنفسه الوحي المدعى وهو الخارق المعجز فشاهده في عينه ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه."[23]

 "القرآن هو كلام الله المنزل على نبيه المكتوب بين دفتي المصحف. وهو متواتر بين الأمة إلا أن الصحابة رووه عن رسول الله صلعم على طرق مختلفة في بعض ألفاظه وكيفيات الحروف في أدائها."[24]

 "اعلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه. وكان ينزل جملا جملا وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع. ومنها ماهو في العقائد الإيمانية ومنها ماهو في أحكام الجوارح ومنها ما يتقدم ومنها ما يتأخر ويكون ناسخا له. وكان النبي صلعم يبين المجمل ويميز الناسخ والمنسوخ ويعرفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه."[25]

 "وأما القرآن وان كان من المنثور إلا أنه خارج عن الوصفين وليس يسمى مرسلا مطلقا ولا مسجعا بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها. ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها ويثنى من غير التزام حرف يكون سجعا ولا قافية."[26]

 "واعلم أن في حالة الوحي كلها صعوبة على الجملة وشدة قد أشار إليها القرآن...وسبب ذلك أن الوحي كما قررنا مفارقة البشرية إلى المدارك الملكية وتلقي كلام النفس، فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها وانسلاخها عنها من أفقها إلى ذلك الأفق الآخر."[27]

ما نلاحظه أن ابن خلدون يفرق بين الوحي والقرآن والمصحف والتنزيل والكتاب ويتحسس صعوبة الانزياح به من مستوى الكلام الالهي الى مستوى كلام البشر وما ينتظره من تلقي عند تعدد القراءات تبعا لتعدد اللهجات وما سيحصل لمعجزه عند التدوين والكتابة ومغادرة طور المفارقة والمكوث بطور المحايثة. لكن الإشكال الذي يطرح هنا هو طبيعة التقاطع بين الشرع والعقل ويمكن صياغته على النحو التالي: هل أن الشرع حد من حدود العقل أم التأويل هو الذي يعمل على إزالة التناقض وتوطيد الاتفاق بين الشرع والعقل؟ وهل تتمثل وظيفة التأويل في تحويل المعنى الحقيقي لتعبير ما إلى معناه المجازي؟

خاتمة:

"انظر كيف أخذ من العصمة والدعاء إلى الدين والعبادة دليلا على صحة نبوته ولم يحتج إلى معجزة فدل على أن ذلك من علامات النبوة."[28]

صفوة القول انه من المشروع لنا ممارسة فن الفهم والتأويل للمتن الخلدوني وبالخصوص للمقدمة وذلك لكون الهرمينوطيقا هي فلسفة كونية تشتغل على النصوص وكل التراث المكتوب للبشرية علاوة على أن ابن خلدون نفسه اعتنى بمنهج التفسير وأوجد علما جديدا يهتم بالرؤيا والمعجزة والوحي والكهانة سماه علم التعبير، لكن هذا الإقرار يصطدم بمشكلة كبيرة تتمثل في التباسية منزلة العقل في المدونة الخلدونية.

إن العقل عند ابن خلدون هو ميزان صحيح وأحكام يقينية لا كذب فيها وهو ينقسم إلى:

 عقل نظري الذي يهدف إلى إدراك مفهوم الوجود كماهو بتفصيلاته العامة والخاصة مع أسبابه البعيدة والقريبة وكذلك يرمي إلى تحقيق ذاته بوصفه معنى جوهر الإنسان.

 عقل تمييزي يهدف إلى تحقيق غايات عملية وهي تنظيم الأفعال الإنسانية.

 عقل تجريبي يهدف إلى إعادة تنظيم الأعمال البشرية من أجل جلب الخير وإبعادها عن الشر.

غير أن الشرع ليس مقيد بحدود العقل بينما العقل مقيد بحدود الشرع ، كما أن العقل يسقط في التبرير والتشريع عندما يحاول أن تكون له مهمة سياسية وحضارية ويواجه مجموعة من التحديات المعرفية والوجودية والإتيقية بحكم عدم قدرته على بلوغ المطلق في نظرية المعرفة وعجزه عن درك الوجود بإطلاق وتميز ما يسنه من قيم ومعايير بالطابع النسبي والمتغير.

يبررابن خلدون ذلك بتحديد وظيفة العقل وتثمين دور النقل بقوله:"من يقدم العقل على السمع في أمثال هذه القضايا وقصور فهمه واضمحلال رأيه فقد تبين لك الحق من ذلك. وإذ تبين ذلك فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضل العقل في بيداء الأوهام ويحار وينقطع."[29] فهل يمكننا النقل من تفسير ماهو خارق للعادة من معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء؟

إن حسن التعامل مع الكهانة والسحر والرؤيا والتنجيم والطلسمات هو تطبيق التأويل وذلك بمعالجة التعابير الظاهرة والتخلي عن معانيها الحرفية والالتجاء إلى معانيها الرمزية من أجل إزالة التناقض الذي يظهر مع العقل والواقع وربطها بعالم الحس والتجربة. من هذا المنطلق ينعت ابن خلدون عمل العرافين والمنجمين بالزعم والادعاء والباطل والظن بقوله:"والوهم أول ما يلقي إليك هذه وأمثالها إنما يجعله من قبيل الغيب الذي لا يمكن معرفته وظهر أن التناسب بين الأمور هو الذي يخرج مجهولها من معلومها...وليس هذا من المقام الأول بل إنما يرجع لمطابقة الكلام لما في الخارج ولا سبيل إلى معرفة ذلك من هذه الأعمال بل البشر محجوبون عنه وقد استأثر الله بعلمه."[30]

يعلق عبد الرحمان بدوي على هذا الحضور المكثف للجوانب الغيبية والأبعاد الاشراقية في المقدمة وانحسار مساحة المعقول بقوله:"والواقع أن المميز الأكبر بين ابن خلدون وفلاسفة الحضارة والاجتماع والسياسة في العصر الحديث هو غلبة الروح الدينية على اتجاه التفسير والتعليل. وهو أمر مفهوم بطبعه لدى مفكر ينتسب بكل روحه إلى الحضارة الإسلامية والى العصر الوسيط. ومن العسير أن نعثر في تأويلاته وتعليلاته على نزعة عقلية صريحة rationaliste. وأنى لنا أن نظفر بها عند رجل يؤمن بالكهانة والرؤيا والسحر، ويسمح للخوارق بأن تدخل عوامل في توجيه الأحداث التاريخية."[31]

فهل تستطيع الهرمينوطيقا الفلسفية الواعدة أن تنبش النزعة العقلانية الثاوية في عمارة المقدمة الخلدونية الشامخة؟

المراجع:

عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة. تحقيق سعيد محمود عقل، دار الجيل ، بيروت، طبعة أولى 2005.

عبد الرحمان بدوي، ملحق موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى،1997.

عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، شرح وتعليق محمد عبد المنعم خفاجي،دار الجيل،بيروت، الطبعة الأولى2004.

محمد ابن سيرين، تفسير الأحلام الكبير، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، طبعة جديدة منقحة 2004.

كاتب فلسفي

[1] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة. تحقيق سعيد محمود عقل، دار الجيل ، بيروت، طبعة أولى 2005،،ص.407.
[2] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة. ص.373.
[3] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة ،ص.373.
[4] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة ،ص.374.
[5] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة ،ص.374.
[6] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة ، ص.ص.376-375.
[7] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة ،ص.376.
[8] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة ،ص.376.
[9] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة ،ص.377.
[10] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة،ص.406.
[11] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة،ص.406.
[12] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة،ص.406.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى