هنيئا لمن افتقد الدهشة
ياللعنة!من أفقدنا الدهشة؟ هذه عبارة بحسب ذاكرتي وردت في أحد مقالات الكاتب خليل قنديل في الدستور،وقد استوقفتني وحاولت أن أجيب نفسي عليها لكن محاولة الإجابة قادتني إلى متاهات واستفسارات أخرى،فمن أفقدنا حتى القدرة على متابعة الفكرة؟ ومن أفقدنا الإحساس بأننا افتقدنا الدهشة؟
إن من يصرخ :ياللعنة لم يفتقد الدهشة بعد ، هو يحسد لأنه من الصامدين الذين لم يزل لديهم بقايا إحساس بالألم أو بالفقدان،فحين يصبح كل شيء يعادل لا شيء يستوي الفرح والحزن ، الألم والسعادة، الرضى والغضب، الحرية والاستعباد ..
حين تشعر بأن الحياة في حقيقتها معتقل واسع مفتوح لا يحسن العيش فيه إلا من يتقن فن التقولب والتلون والخداع تتلاشى الفروقات بين البحر والزنزانة وتصبح انفعالاتك هي ذاتها سواء كنت على شاطئ البحر أو في قعر الزنزانة فكل الأشياء سواء …
حين تنظر حولك وتجد أن كل المقاييس قد انقلبت رأسا على عقب وبأنك قد جردت من كل أسلحة المقاومة وليس باستطاعتك أن تفعل شيئا فإنك تفقد الشعور بالدهشة وتفقد حتى الرغبة في التعبير عن رفضك واستيائك…وتفقد الثقة بالعالم من حولك ..
حين يحاول الآخرون تجريمك بتهمة السوداوية فإنك تؤثر الانسحاب، وتصبح قضيتك الأهم هي أن لا تتيح لهم الفرصة لتجريدك مما تبقى لديك من قناعات حتى وإن بدت بأعينهم مشوهه
حين تهرب من الماضي أو نحوه، حين تنسلخ من الحاضر أو تتنكر له، وحين تخشى الغد الذي وبحسب مقدماته لن يكون أكثر رقة أو أقل إيلاما من اليوم والبارحة فإنك تضطر مكرها لتجريد ذاتك من الدهشة فذلك مدعاة لتحصينها من آثار صدمات مضت وأخرى متوقعة
حين تشعر بأنك غريب حتى عن ذاتك وبأن السوداوية قدرك فإن فقدان الدهشة يصبح السلاح الوحيد الذي يساعدك على البقاء لا أنت ميت ولا أنت حي في زمن أصبحت فيه الاستقامة من الكبائر ولم يعد فيه متسعا لغير قوانين الغاب
فهنيئا للحشرات المستأسدة …وهنيئا لم افتقدوا الدهشة .
هنيئا للحشرات التي استأسدت
في المقالة السابقة اختتمت موضوعا بعنوان "هنيئا لمن افتقد الدهشة "بعبارة "هنيئا للحشرات التي استأسدت" وعلى ما يبدو فإن هذه العبارة قد كانت المحك الأهم من وجهة نظر القراء ومن وجهة نظر من يشاركني السوداوية التي انطوى عليها الموضوع. بعض القراء اقترحوا -بعد فوات الأوان- أن تكون هذه العبارة هي عنوان المقال وفي حقيقة الأمر أنا أتفق معهم لأكثر من سبب أقلها أن استئساد الحشرات في زماننا هذا هو المتسبب في افتقادنا الدهشة ،فحينما يجرد أحدنا نفسه من الانفعالات وردود الأفعال الطبيعية للإنسان فإنه يختار –مكرها- وسيلته الدفاعية التي يحصن بها نفسه من الإصابة بالآثار الجانبية التي تتسبب بها هذه الظاهرة، هو ينسلخ كي يحصن نفسه من الاسترسال بالنقد والتعبير عن الاستياء الذي قد يوصله للجنون ما دام العالم من حوله في صمم..
إنه زمن الحشرات يا من تشاركوني فقدان الدهشة ، وإنه الزمن الذي يدفعنا مرغمين للانسلاخ والهروب والاغتراب ..
إنه الفضاء الرحب الذي يوفر للحشرات على اختلاف أنواعها أو اتجاهاتها أقصى درجات المقاومة للمبيدات ، وأقصى إمكانيات التقولب والتلون لتكييف الأجواء وترويضها بحسب ما تقتضيه مصالحها ، لكن الاختلاف قد يكون بحجم إمكانيات وصلاحيات الحشرة وحجم ما تحققه من مصالح شخصية ، فمن حشرات عملاقة قد تتفوق في إمكانياتها إلى الدرجة التي تمكنها من تعبث بنظام العالم في سبيل تجييره لإشباع نهمها وجوعها العريق للسيادة والجبروت ، إلى حشرة لا تعدو إمكانياتها القدرة على العبث بأمزجة وذوق واتجاهات جيل الشباب ، وإذا تعذر ذكر مثال على الحشرات العملاقة فقد يكون من المتاح أن أذكر ما تزدحم به ساحة الفن من حشرات تجيد استخدام الأسلحة البديلة لكسب معركتها في تحقيق الشهرة والانتشار والمال، فكشف الجسد هو البديل الأمثل عن جودة الصوت لدى المطربات وهذا يستوي مع المنطق السائد أو منطق وعالم الحشرات ..
لكن الفضاء الرحب يتسع لغير هؤلاء وأولئك ، فلكل مجال حشراته العملاقة التي تدفع سواها لافتقاد القدرة على تمييز الأشياء وتجبرها على الانسحاب وافتقاد الدهشة …
ومن يدري ماذا يخبئ المستقبل في ثناياه ؟ فقد يقرر الصامدون منا في لحظة صحو أن ينطلقوا نحو الفضاء الرحب ونحو التلون والتقولب والخداع …