الخميس ١٥ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم إبراهيم سعد الدين

هَوامشْ على دَفْتَر الرَّحيلْ

من الناسِ أشخاصٌ تحولُ ظروفُك أو ظروفهم دون اللقاء كثيراً، لكنهم يبقون ـ طيلة الوقت ـ حاضرين في الذّاكرة والمُخَيِّلةِ والوجْدان. شاعرنا الرّاحلْ محمد عفيفي مطر هو واحدٌ من هؤلاء. بل لَعَلَّه في حياته كان من أكثر النّاسِ حضوراً في أذهان أصدقائه ومعارفه ومُحبّيه وتلامذته وقُرّاءِ شِعْرِه. ومن أكثرهم حضوراً أيضاً في أحاديثهم ومُسامراتهمْ. وأغْلبُ الظَّنِّ أنه بعد رحيله سيظَلُّ ـ صورَةً وميراثاً، شاعراً ومُفَكِّراً ومُناضِلاً وإنْسانا ـ ماثلاً في ذاكرة التاريخ الأدبيّ وأجياله المُتعاقبة بقاءَ البِذْرَةِ في أصْلِ النَّباتِ المُزْهِر. لذا لن يكون حديثي عنه الآن احتفاءً بِشَخْصِه وشِعْره ـ كما هو الحالُ في تأبين الرّاحلين ـ فالمُقامُ هنا لا يَتَّسِعُ لمثلِ هذه المُهِمَّةِ الجليلة التي لا يمكن أن تفي بها إلاّ دراساتٌ نقْديّةٌ مُتَخِصِّصَة ومُتأنِّيَةٌ ورَصينة، وحتى هذه الدراسات يَتَعَذَّرُ أن تُحيط بتجربة الشاعر بالغة الخِصْبِ والعُمْقِ والجِدَّةِ والأصالة مهما تعدّدت مداخلها وتنوّعتْ زوايا الرُّؤية فيها، بل سيكون حديثاً مُرْسَلاً، واسْترجاعاً لذكْرياتٍ شخصِيَّة شاء القَدَرُ أن تَسْكُن الذاكرة والعقْلَ والوجدانْ وتَبْقَى حاضِرَةً طيلة الوقت، مهما تباعدت بيننا المسافاتُ وقَلَّت فُرَصُ اللّقاءْ.

الْتَقَيْتُ محمد عفيفي مطر ـ أوَّلَ مَرَّة ـ في مَطْلَع السَّبعينيّاتِ من القرن الماضي. كانَ نَجْماً بازغاً في سَماءِ الشعر على مُسْتَوى الوطن العربيّ، وقصائده في مجلة (الآداب) البيروتيّة تُعَزِّزُ مكانته وتَرْسِمُ ملامح قصيدة جديدة مُتَفَرِّدة السِّماتِ والخصائص بعد ثورة التَّجديد التي قادها كوكبة من شعراء الأمّة يأتي في المُقدّمة منهم نازك الملائكة وبدر شاكر السَّيّابْ وصلاح عبد الصبور. كُنْتُ قد قرأت له بضعة قصائد من أهمها ثلاثيته الشهيرة التي نشرها بعد ذلك في ديوانه (أنت واحدُها وهي أعضاؤكَ انْتَثَرَتْ) وهي: تطوّحات عُمَرْ، طقوس مَقْتَل عُمَر، مَرْثية عُمر. من حينها لم أسْتطع الفِكاك من شَرَكِ هذا الشاعر. فتابعته في إصداره المُبَكّر (من دَفتر الصَّمْت) ثُمَّ مجموعته الشِّعريّة التي تُعَدُّ دُرَّةً من دُرَرِ الإبْداعِ في الشِّعر العربيّ وهي (ملامح من الوَجْه الأنْبادوقليسي). على الرَّغْم من ذلك، لم يكُن شِعْر عفيفي مطر معروفاً على نطاقٍ واسِعٍ في مصر، ولا كانت المجلات الأدبيّة المشهورة ـ آنذاك ـ تنشرُ له إلاّ على استحياءْ. فباستثناء بضعة قصائد في مجلَّة (الهلال) التي كان يرأس تَحْريرها رجاء النَّقّاشْ، ومجلّة (المجَلّة) ورئيس تحريرها يحيى حَقّي، لا أذكرُ أنني قرأت له سوىَ قصيدة يتيمة في صحيفة (الأهْرام). هذا في الوقت الذي كانت بعض الأصوات الشعريّة الأقلّ موهبةً وثقافَةً وتَمَيُّزاً تملأ الدُّنيا في مصر صَخَباً دون أن تُضيف جديداً إلى المُنجز الشِّعْريّ للجيل السّابق. وحدهما عفيفي مطر وأمل دُنْقل ـ مع تميّز تجربة كُلٍّ منهما وسمات شِعْره ـ كانا هما العلامتان اللّتانِ تُضيئان آفاقَ المُسْتقبل وتؤشران ملامحَ مرحلة جديدة لحركة التطور والتجديد في الشعر العربي. وقد كان شعر أمل دُنقل أكثر انتشاراً بالمُقارنة بشعر عفيفي خاصة بعد صدور ديوانه الأوّل (البُكاء بين يَديْ زَرْقاء اليَمامة)، لذا كانت دهشة عفيفي بالغة حين التقانا ورأى مدى احتفائنا بشعره واستغراقنا في قراءته وشغفنا للتعرف على طبيعة هذه التجربة ورموزها وسمات التَّميُّز فيها. وازْداد دهشَةً حين اكتشفَ أننا نحفظُ عن ظَهر قَلْب القِسْطَ الأعْظَم من قصائده المنشورة في المجلات الأدبيّة والدّواوين التي أصدرَها. تعدّدت لقاءاتنا بعد ذلك، كان عفيفي يعمل ـ آنذاك ـ مُدرّساً بكفر الشيخ وقد تولّى رئاسة تحرير مجلة (سنابل) التي كانت تصدر عن المُحافظة، واستطاع عفيفي أن يَرتقي بها من مُجَرّدِ مطبوعةٍ إقليميّة إلى مجلةٍ ثقافية رفيعة المُسْتوى، أتاحَ ـ من خلالها ـ فرصة النشر لعدد كبيرٍ من أدباء الأقاليم والتعريف بنتاجاتهم الأدبيّة شِعْراً ونَثْراً، فكانت المجلّة بِحَقّ رئةً تتنفَّسُ من خلالها مواهب شابّة لم تجد لها موطئ قدمٍ بمجلات العاصمة التي كان السّواد الأعظم من كُتّابها من أبناء العاصمة أو المُقيمين بها. حتّى أُغْلقت المجلة بقرارٍ سياسي بعد أن نشرت قصيدة (الكَعْكَة الحَجَريّة) التي كتبها أمل دُنْقلْ احتفاءً بانتفاضة الطُّلاّب في مطلع السَّبْعييّاتْ ضدّ نظام السّاداتْ مُطالبين بالدّيمقراطيّة وتحرير الأرض المُحْتلّة عام 1967.

في مُنتصَف السَّبعينيّات سافر عفيفي إلى العراق ضمن موجةٍ من الهجْرة لِمُثَقَّفي مصر خارج البلاد. وهو نزوحٌ جماعيٌّ لم تَشْهد له مصر مثيلاً طوال تاريخها. كانت التَّوَجُّهات السياسية والاقتصاديّة والاجتماعية ومن ثَمَّ الثَّقافية للنّظام الحاكم في مصر قد تغَيَّرتْ كثيراً بعد رحيل عبد الناصر وتولّي السّاداتْ خاصّةً في أعقاب الإطاحة باليسار النّاصري فيما أسماه السادات بـ(حركة التصحيح) في 15 مايو/أيار 1971. وتمخَّضَتْ هذه الحركة التَّصْحيحيّة عن إعادة هيْكلةٍ للمؤسسات الثقافية والإعْلاميّة نُحِّي فيها المِئاتُ من رموز الثقافة والإعْلام في مصر ليتولّى المناصب العُليا في هذه المؤسسات أكثر العناصر رَجْعِيّةً وانغلاقاً ومُعاداةً للعقلانية والاستنارة وحرية الفِكْر والتَّعْبير، وهي عناصر اسْتبَدّت بها شَهْوة الانتقام فشَنَّتْ حملةً واسعة النطاق من الاضطهاد للمُثقفين الوطنيين والمُبْدعين من كُتّابٍ وشُعراء وصَحفيين، ولم تَدَّخر وسيلةً من وسائل البَطْش والإيذاء إلاّ ومارسَتْها بِحَقِّهم، بَدْءاً من منعهم من النَّشْر وانتهاءً بالمُلاحقاتِ الأمنيّة والفصْل من العملْ. في ظِلّ هذه الأجواء شَهدت السَّبعينيّات هجرة جماعية لعدد كبير من المُفكّرين والأدباء والصحفيين والمُبدعين في شتّى مجالات الإبداع الأدبي والفَنّي، ويكفي هنا أن نُذَكّرَ بأسماء مثل محمود أمين العالم وأحمد عباس صالح ورجاء النَّقّاش ومحمد عودة وأمير اسْكندر ود. فؤاد زكريا ود. غالي شُكري وأمين عز الدين وسعد أردش وتوفيق صالح وكرم مطاوع وغيرهم. محمد عفيفي مطر كان واحداً من هؤلاء الذين حملتْهم عواصفُ التَّغيير خارج البلاد وجرفهم تَيّارُ الهِجْرة الثقافية إلى أرض العراق. كان العراقُ ـ آنذاك ـ وطناً حاضناً لكُلّ من ضاقت بهم أرضُ الوطن من مختلفِ الأقطار العربية ومن شَتَّى الانتماءات الفِكْريّة والسّياسيّة. وكان الشَّعْبُ العراقيُّ كريماً مِضْيافاً بِحَقّ. ومع ذلك لم تكن إقامته ببغداد مُريحة. ذلك أنّ حُرِّيَّة الشاعر تنتهي حيث تبدأ ضرورات النّظام السّياسي ومُتطلَّباته. وقد كانت الحُرِّيَّة هي الرّاية التي لم تَسْقُط من يد عفيفي مطر طوال مسيرة حياته وإبْداعه. فهو القائل في أوّل دواوينه الشِّعريّة المنشورة (من دَفتر الصَّمْت): أحِبُّ الهواءَ الذي يَغْسلُ البَحْرَ لكنّني لا أُحِبُّ الجسورْ. أمّا ديوانه الثاني (ملامح من الوجه الأنبادوقليسي) فثيمة الحُرِّيَّة هي لُحْمتُه وسُداتُه وهي محوره ودائرتُه المُشْتَعِلة. أكثر من ذلك فإنّ الشّاعر أو المُبْدع على وجه العموم كثيراً ما يَنْقَلبُ حتّى على ما يعتبره قناعاتٍ سياسيّة حين تتجَسّدُ نظاماً سياسيّاً قائماً على أرض الواقع. كان عفيفي مُؤمناً بالتأكيد بالحرّيّة والاشتراكيّة والوحدة ومُؤمّلاً خَيْراً في أولئك الذين اتّخذوا هذا الشّعار مَبْدأً ومِنْهاج عمل. لكن الواقع السياسي في العراق ـ آنذاك ـ كان يمور بمتناقضاتٍ كثيرة مع ما يُرْفَعُ من شِعاراتْ، وكان الوضع يزداد تعقيداً ـ رغم كُلّ الإنجازات الاجتماعية والاقتصاديّة ـ في ظلّ مناخٍ سياسيٍّ تغيبُ عنه شمسُ الحُرِّيّة ويتضخَّمُ فيه دورُ الحاكم الفَرْد وسُلْطاتُه على حساب الحزب والمؤسسات السياسية القائمة. وزادت تعقيدات هذا الوضْع بعد اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية وما جَرَّتْه من مآسٍ وكوارث اجتماعيّة واقتصاديّةٍ وإنسانيّة في كلا البَلَديْن بل في المنطقة بأسْرها. لم يكن عفيفي ـ شأنه شأن مُعظم المُثقفين ـ يؤمن بجدوى هذه الحرب العَبَثيّة أو تنطلي عليه شعاراتُها، ولم يُصَدّق قطّ ما تسوقه أجهزة الدّعاية والإعْلام من مُبَرّراتٍ مُتهافتة. ولم يكن هذا الموقفُ ـ حتّى وإن بقي حبيساً في سريرة صاحبه ـ مَحَلّ رضا من نظامٍ سياسيّ يُطالبُ الجميع ليس فقط بعدم المُعارضة، ولا بإظْهارِ التأييد والمناصرة لسياساته فحسب، بل بإثباتِ الولاء قَوْلاً وفِعْلاً مع طَلْعةِ شَمْسِ كُلّ يَوْمٍ جديد. أكثر من ذلك، كان عفيفي مطر قد اعتذر عن تأليف كتابٍ صدرَ بعد ذلك بقلم كاتبٍ آخر بعنوان (صدّام حسين مُفَكّراً ومُناضلاً وإنْسانا). كان عفيفي يعملُ مُحرّراً بمجلة (الأقلام) العراقيّة، وقد اضطُّرَّ إلى تَرْك عمله بالمجلة وانتقل إلى صحيفة (الجمهورية) بعد تدخّل الكاتب والصحفي سامي محمد الذي كانت تربطه بعفيفي علاقة صداقة، لولا ذلك لوجد عفيفي نفسه بلا عملْ.

في عام 1980 سافرتُ للعراق للعمل باتّحاد مجالس البحث العلمي. وهو منظمة عربية معنية بالتنسيق بين مُؤسسات ومجالس البحث العلمي بأقطار الوطن العربي. وقد التقيت محمد عفيفي مطر هناك بعد مرور أعوام طويلة على آخر لقاءاتنا بمصر. وكان أوّل سؤالٍ بادرني به هو: كيف تَراني الآن وأنا على مشارفِ الخمسين..؟. كان مهموماً بالزّمن وأثرُ الاغتراب عن الوطن بادياً عليه. تواصلت لقاءاتنا بعد ذلك وأتيحَ لي أن أتعرفَ على عفيفي الشاعر والمُفَكّر والمُبْدع والمُثَقَّف والإنسان. فضْلاً عن مكانته المرموقة كشاعرٍ رائدٍ ومُتَفَرّد في ديوان الشِّعْر العربيّ، كان بحقّ مرجعنا الموثَّق حين تختلفُ الرّؤى وتتباين الآراء وتتعدّدُ الاجتهادات، عنده نجد كُلّ الإجاباتِ لتساؤلاتنا المطروحة، وعنده نؤمن بأنْ لا يقين في الفِكْر والثقافة فثَمّة نَهْرٌ مُتَجَدّدٌ دوْماً يَتَغَيَّرُ ماءه يَوْماً بعد يوم.

في عام 1984 (إن لم تَخُنّي الذاكرة) عاد محمد عفيفي مطر إلى أرض الوطن. كانت الأجواء السّياسيّة قد شَهدت انفراجاً ومُصالحةً مع التيارات السّياسية المُختلفة بعد رحيل السّاداتْ. ومع ذلك تعرض عفيفي للاعتقال والاستجواب والحبس بتهمة الانتماء إلى تنظيمٍ سياسيّ محظور في مصر، حتّى أُفْرجَ عنه. ثُمّ تعرّض للاعتقال والحبس والتعذيب مَرّةً أخرى بعد ذلك بسنواتْ لمشاركته في مظاهرة احتجاجية للمُثقفين ضدّ الحرب على العراق. في غضون ذلك كان عفيفي يأتي إلى العراق زائراً للمشاركة بمهرجان المَرْبد وغيره من الفعاليات الثقافية والأدبية التي كانت تُعقد بالعراق سنويّاً. والتقيته مرّاتٍ عديدة على هامش هذه الاحتفاليّات التي كانت تجمّعاً ثقافياً وأدبيّاً رفيع المُسْتوى للكُتّابِ والأدباء والشعراء والنُّقّاد من مُختلف الأقطار العربية.

آخر لِقاءٍ جمعني بمحمد عفيفي مطر كان عام 2007 على هامش معرض الكتاب الدّولي بالقاهرة. كان بيت الشِّعْر الفلسطيني برام الله قد قرّرَ تنظيم احتفالية تكريماً لعفيفي مطر بالقاهرة، وأوفد عدداً من أعضائه إلى مصر، وقد اتصل بي بعضهم واتفقنا على اللقاء جميعاً بالمقهى الثقافي بمعرض الكتاب. كان لقاءً بعد أعوامٍ طويلة من آخر لقاءاتي بعفيفي في بغداد. وقد اسْتحوذت حالته الصّحّيّة على مُعظم الحديث بيننا. وافترقنا على وعدٍ بلقاءٍ لم يَتَحَقَّقْ حتّى أتاني نبأ رحيله الفاجع.

كان شِعْر عفيفي وما يزالُ هو الأثير عندي والأكثر اسْتحواذاً على العَقْل والحِسِّ والوجدان، وهو الأكثر حضوراً في فضاء المُخَيّلة والذاكرة، بحيثُ أفسدَ تذوْقي لشعر الكثيرين من الشعراء الذين شُغِفْتُ بهم يَوْماً. غير أنه رغم اقترابي من هذا العالم الشِّعْريّ منذ البواكير لم أجد الشجاعة يوماً للكتابة عنه، فظَلَّت دراستي له مَشْروعاً مُؤجّلاً. كنت وما أزالُ أشعرُ بكثيرٍ من الرَّهْبَةِ والتَّهَيُّب أمامه، ليس لأنه عالَمٌ بالِغُ الخِصْبِ والثَّراء وشَديدُ الاتّساعِ والعُمْق والتَّنَوُّع فَحَسْب، ولا لأنَّ العثور على مفاتيح هذه التَّجْربة والإمساكَ بخيوطها يَتطلَّبُ مُعايَشَةً حميمةً وقراءةً بالغةَ التَّفَرُّدِ والخصوصيّة فقط، ولكن أيْضاً لأنَّه شِعْرٌ مُراوِغٌ ومُسْتَعْصٍ على التَّرْويض والاسْتئْناس، أشبه بِغَزالٍ بَرِّيٍّ تَظَلُّ طيلةَ الوقْت تُطارِدُه ـ مأخوذاً بِسِحْرِه وفِتْنَتِه وجمالِه ـ دون أن تُدْرِكه، فتُعاودُ الطّراد واللّهاثَ من جديدْ. لكنّك في نهاية المَطافْ تُدْرِكُ أنَّ المُتْعَةَ الحقيقيّة ليست في الاسْتحواذ على هذا الكائن الجميلْ بل في شَغَفِ المُغامرةِ ولَذَّة الكَشْفِ الدّائم في هذه الرّحْلة.
رَحَلَ محمد عفيفي مطر بعد رِحْلةِ إبْداعٍ طالتْ لأكثر من نِصْف قَرْن تبوّأ فيها مكانةً ساميَةً ومرموقة ليس بين أبناءِ جيله فقط بل بين شُعراء العربِ أجمعينْ، وكان قامَةً سامقَةً بِحَقّ وصَوْتاً مُتَفَرّداً ومُبْدعاً أصيلاً ورائداً من رُوّادِ التَّجْديدِ في الشِّعْر العربي، خَلَّفَ من بَعْده تُراثاً عظيم القيمةِ رفيعَ المُسْتوى في الشِّعْرِ والنَّثْر معاً، وصاغَ بِفِكْرِه ومواقفه سيرة حياةٍ تتميّزُ بالصِّدْق والنَّزاهَةِ والتَّجَرُدِ والسُّموّ والتَّرَفَّع والدّفاع المجيد عن حُرّيَّة الكلمة وكِبْرياءِ المُبْدعِ وكرامة الوطنْ. وكلاهما ـ شِعْرُه وسيرة حياته ـ سوف يبقيانِ جزءاً عزيزاً وغالياً من تاريخ الأدبِ وثقافةِ الوطنْ والأمّة.

أعْمالُه الأدبية

المجموعات الشِّعْريَّة

مُكابدات الصَّوْت الأوّلْ

من دَفْتر الصَّمْت (1968)

ملامح من الوجه الأنبادوقليسي (1969)

الجوع والقَمر (1972)

رسوم على قِشْرة اللّيْل (1972)

كتاب الأرْض والدَّم (1972)

شهادة البُكاء في زَمَن الضَّحِك (1973)

والنَّهْرُ يَلْبَسُ الأقْنعة (1976)

يَتحدّثُ الطَّمْي (1977)

أنتَ واحِدُها وهي أعضاؤكَ انْتثَرَتْ

رُباعيّة الفَرَحْ (1990)

فاصِلَة إيقاعات النَّمْل (1993)

احتفاليّة المومياء المُتوحّشَة (1994)

مِنْ مَجْمَرَةِ البِدايات (1994)

المُنَمْنَماتْ (2007)

الأعمال النَّثْريَّة

شروخ في مِرْآة الأسْلاف (دراسة في التُّراثْ)

محمود سامي البارودي (دراسة ومُختارات)

مُسامرات للأطْفال كي لا يناموا (مجموعة قصص للأطفال)

أوائل زيارات الدَّهْشَة (سيرة ذاتيّة)

هذا فَضْلاً عن أربع مَجموعاتٍ شِعْريّة لم تُنْشَر بَعد هي: مَلكوت عبد الله، فُخاريّات تَذْروها الرّياح، جُمْلَة من مئاتِ الألوفْ، يقين الرَّمْل.

مُخْتارات من شِعْر محمد عفيفي مَطَرْ

(مُقْتطفاتٌ من الذّاكرة)

1
 
أيُّها الوَجْه الذي لَوَّح لي ذات مساءْ
لَفَّكَ اللَّيْلُ فأحْبَبْتُ بِعَيْنَيْكَ الخَفاءْ
لَفَّكَ الضَّوْءُ فَعُدْنا غُرَباء
بَيْنَ عَيْنَيْكَ شُجَيْراتٌ من الشَّمْس القَديمة
وانتظارات الفصولْ
بَيْنَ عَيْنَيْكَ تآبينُ الأغاني
وبَقايا القُبْلَةِ المُرْتَحلَة
أطْلَعَتْ في القلب عنقودَ الهَزيمَة
آهِ.. يا مُعْجِزَتي المُنْتَظَرَة
لَمْ يَزَلْ يَصْرُخُ في قَلْبي البَريءْ
صَيْفُ أشْعاري الذي يَهْرَبُ مِنّي
وأنا أرْكضُ في لَيْلِ الشِّتاءْ
أيُّها الوَجْه الذي أوْمأ لي ذات مساءْ
فَتَشَهَّيْتُ سكونَ المَقْبَرَة
إسْقِني من مَطَرِ الدَّهْشَةِ كي ألْبَسَ في اللَّيْلِ
قَميصَ الشُّعَراءْ
واتَّخِذْني لَيْلَةَ العُرْسِ خضاباً وثَريدَة
عَلَّني أولَدُ من حَنْجَرَتي
فأُغَنّي بالولاداتِ الجديدة.
 
2
كُلُّ شَيْءٍ كان يَسْتَنْضِحُ مِنّي
كانت الأرْضُ جَنيناً في دَمي لم يَبْلُغ التّاسِعَ
والشَّمْسُ وأقْماري الخبيئة
كان في قلبي احْتدامُ الشَّجَرة
واخْتمارُ الطَّمْي والشِّعْر ـ الطّلوعْ
كُنْتُ ممّا يَمْلأُ القَلْبَ أجوعْ
وأُغَنّي للحياةِ المُسْكِرَة
عَلَّها تَطْرَحُني زَنْبَقَةً في عرْوَةِ الأرْضِ التي تَطْلَعُ منّي
كُنْتُ من حُبّي ألُفُّ الشَّرْنَقَة
وبها كُنْتُ أصلّي لأموتْ
قَبْلَ أن يأخذني منّي غُرابُ العاصفَة
وانْسحاقي في ترانيم السّكوتْ
 
3
 
إنَّني أدْخُلُ في أجْسادِكمْ
أبْدأ الرِّحْلَةَ ما بين العروقِ المُعْتَمة
عَلَّني أنْظُرُ ما يُشْبه شَمْسي المُظْلِمة
عَلَّني أنْظُرُ ما يُشْبه أعْراسَ الرَّدَى في الزَّحْمةِ المُنْهَمِرَة
عُدْتُ مِنْكُمْ بعد أنْ دَوَّخَني اللَّيْلُ وأعْماني الطّوافْ
لَمْ أجِدْ غير العيونِ الحَجَريّة
والقلوبِ الحَجَريَّة
واللُّغات الحَجَرِيَّة
 
4
 
في الزَّمَنِ المُنْكَشِفِ العَوْرَةِ والمُخْتَبئ الضَّميرْ
تَصْلُبُنا بُرودَةُ السَّريرْ
تَغْتالُنا تَحيَّةُ الصَّديق
أو تَرْجُمُنا حدائق الطريقِ
أو تُميتُنا مُرْضعَةٌ بِثَدْيِها الأجيرْ
لأنَّنا نَسْقُطُ من لزوجَةِ الأُلْفَةِ في الصَّباحْ
تَحيَّةٌ تُقالُ أو جريدَةٌ تُقْرأُ أو إشاعة
أو نُكْتَةٌ يَضيعُ فيها دَمُنا المَسْفوحْ
وتَخْتفي وجوهُنا في اللَّيْل والمَجاعة
نَسْتَبْدِلُ اتَّهامَنا حَتَّى تَضيع بيننا الجُثَّةُ والقَضيَّة
ويَلْبَسُ القاتِلُ ما خَلَّفَه المَقْتولُ من ثيابْ
وأنْتَ يا مُحْتَرِقاً في حُبِّكَ القاتِلِ والمَقْتولْ
من قَبْل أن تموتْ
قَدِّمْ لنا وقائع الشَّهادَة
الشّاهد:
أتَّهِمُ القُضاةَ والقاعَةَ إذْ تَغُصُّ بالشّهودْ
أتَّهمُ البَريءَ والمُحْسِنَ والمُسيءْ
أتَّهِمُ الإشاعَة
والشّارِعَ الذي يَغُصُّ باللَّذائدِ المُمْكنَةِ المَمْنوعة
مِنْ قَبْلِ أنْ أقْفِزَ في فوهَةِ البُرْكانْ
أتَّهِمُ الإنْسانْ
لأنَّه مُنْسَحِقٌ مُمْتَلئٌ بالشَّحْمِ والهوانْ
مُمْتَلئٌ من كُتُبِ التَّبريرِ والكَهانَة
بالرُّعْبِ والخيانَة
مِنْ قَبْل أن أموتْ
أتَّهِمُ السّكوتْ
أتَّهِمُ السّكوتْ.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى