هَوِيّات أمين معلوف القاتِلة
أول كتاب اقتنيته لأمين معلوف كان قبل سنة تقريباً. حين بدأت عيناي تتصفحان وتقلبان الكتب المعروضة في كشك "أبو علي" الواقع في وسط البلد، وبينما كنت أرجع خطوة للوراء، سمعت صوت أحدهم يصرخ: "آآآآآآآآآآي". كان الصوت خلفي تماماً، نظرت وإذ بي أدوس على قدم أحدهم!
تبادلنا الاعتذارات السريعة وأن أيّنا لم يكن يقصد، ليعود كل منا إلى تفحُّص الكتب المعروضة. وبعد لحظات سأل الرجل عن "أبي علي" صاحب الكشك، وبعد أن علم بغيابه سأل عن كتاب "الحروب الصليبية كما رآها العرب" لـ أمين معلوف، وحين استلمه من يد البائع قال: "إحكي لأبو علي أنه مريد البرغوثي بيسلم عليه وكان نفسه يشوفك!"
هنا استيقظت كل حواسي، "مريد البرغوثي!" وقبل أن يدير ظهره ويمشي، قلت بكل حماس واندفاع وعفوية حقيقية: هو أنتَ مريد البرغوثي؟
بهتَ الرجل لثوان أجابني بعدها مبتسماً : نعم
كيف يمكنني أن أنسى رواية "رأيت رام الله"؟ أو كيف لي أن أتوازن حين أسمع اسم "مريد البرغوثي" هذا الرجل الذي جعلني أرى "رام الله" من خلال روايته؟ ليس فقط أراني رام الله، بل أعادني إليها، وكأنني عشت بها قبل احتلالها وعدتها بعد ثلاثين عاماً!
سلّمتُ على مريد البرغوثي، وشكرته من كل قلبي على روايته، التي جعلتني أرى وطني وأعيش بين شوارعه. روايته التي أتمنى من كل فلسطيني أن يقرأها ولا تخلو مكتبة بيته منها....
عدتُ إلى البيت فرحة جداً بمقابلته غير المُحضَّر لها والعفوية جداً، عدت إلى البيت متأبطة كتاب "الحروب الصليبية كما رآها العرب"، عدت بالكتاب والفضول يأكلني، إذا ما يمكن أن يحتوي كتاب مريد البرغوثي يطلبه دون سائر الكتب المعروضة؟
قلتُ أنني سوف أقرأ الكتاب في حال انتهائي من الكتاب الذي كان بين يدي، لكني فعلياً لم أدخل عالم أمين معلوف الغني والزاخر والمليء بالرَّوي المعتق بالتاريخ إلا بعد نصيحة الصديق "إلياس رفيق" وبذلك، جلبت له "صخرة طانيوس"، "البدايات"، "سمرقند"، "الهَوِيّات القاتلة".
أمين معلوف
ولد أمين معلوف في لبنان عام 1949، درس الاقتصاد والعلوم الاجتماعية بالجامعة اليسوعية في بيروت، وبعد تخرجه عمل كمحرر في الملحق الاقتصادي لجريدة "النهار" البيروتية بالإضافة إلى محرر للشؤون الدولية في الجريدة ذاتها، الأمر الذي أتاح له فرصة الاطلاع على التطورات السياسية الخارجية بشكل موسع وعميق.
وعلى أثر الحرب الأهلية في لبنان، انتقل معلوف إلى فرنسا عام 1976، حيث عمل كمحرر في مجلة "إيكونوميا" الاقتصادية وغيرها من الصحف والمجلات، ليتفرغ بعدها في بداية الثمانينيات للكتابة.
ترجمت أعمال أمين معلوف إلى عدد من اللغات كما وقد نال جائزة الصداقة الفرنسية العربية لعام 1986 عن روايته "ليون الإفريقي"، وجائزة "غونكور"لعام 1993 عن رائعته "صخرة طانيوس"، وجائزة المتوسط عن روايته "بدايات"، وجائزة فييون عن بحثه "الهويّات القاتلة".
ولست أُفردُ هذا المضوع للحديث عن رائعته "صخرة طانيوس"، الرواية التي سحرتني وأنا أقرأ بها وسكنتني زمناً ليس بالقليل، بل سأتحدث عن كتابه/بحثه "الهَويّات القاتلة، قراءات في الانتماء والعولمة"، الذي جذبني عنوانه جداً لسبب شخصي جداً، والذي قام بترجمته الدكتور نبيل محسن، وصدر باللغة العربية عن "دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع، في طبعته الأولى عام 1999.
يقع "البحث/الكتاب" ضمن أربعة أبواب متراتبة: "هويتي وانتماءاتي"، "عندما تأتي الحداثة من الآخر"، "زمن القبائل الكوكبية"، "ترويض الفهد" وينتهي البحث بـ "خاتمة".
هويتي وانتماءاتي:
يؤكد الكاتب في هذا الفصل أن الهوية لا تُعطى مرة واحدة وإلى الأبد إلى الفرد، بل تتشكل من عدة انتماءات تتبدل ويختلف تراتب عناصرها طوال حياته وتالياً (الهوية) قابلة للتغير والتَّبدّل حسب تأثير الآخرين بشكل أساسي على عناصرها. وأن الفرد يميل بطبعه فيما يخص تعريف هويته وتحديد انتمائه بأكثر عناصر هويته عرضة للخطر –خطر الإهانة أو السخرية أو التهميش أوالقمع... إلخ-
يرتكز الكاتب في هذا الفصل على خطر "تأكيد الهوية" وكيف من الممكن أن تتحول إلى "أداة حرب"، وتأكيد الهوية هو اجتماع واتحاد وتعاضد فئة تتشاطر في تراتب الانتماء أو على الأقل في الانتماء الأكثر عرضة للخطر، فيشكلون مواجهة للطرف الآخر ويَرَون تأكيد هويتهم عملاً ضرورياً شجاعاً ومُحَرِّراً.
وعليه لا يجد الكاتب بأن تسمية "الهويات القاتلة" تسمية مبالغ فيها، إذ يقول في رأس الصفحة 31: "أتحدث في بداية هذا الكتاب عن هويات قاتلة. ولا يبدو لي أن هذه التسمية مبالغ فيها، ذلك لأن المفهوم الذي أفضحه، والذي يختزل الهوية إلى انتماء واحد، يضع الرجال في موقف متحيز ومذهبي ومتعصب ومتسلط، وأحياناً انتحاري، ويحولهم في أغلب الأحيان إلى قتلة أو إلى أنصار للقتلة. إن رؤيتهم للعالم مواربة ومشوهة. فالذين ينتمون إلى جماعتنا ذاتها هم أهلنا الذين نتضامن مع مصيرهم، ولكننا لا نسمح لأنفسنا في الوقت ذاته بأن نكون طغاة تجاههم، وإذا بدوا لنا فاترين نتنكر لهم ونرهبهم ونعاقبهم بوصفهم خونة ومارقين. أما بالنسبة للآخرين، الموجودين على الضفة الأخرى، فلا نسعى أبدا لأن نضع أنفسنا مكانهم، نمتنع عن التساؤل عما إذا كانوا غير مخطئين تماماً حول هذه المسألة أو تلك، ولا نسمح لأنفسنا أن تهدأ بشكاواهم وآلامهم والمظالم التي كانوا ضحيتها. ما يهم هو وجهة نظر جماعتنا فقط، التي غالبا ما تكون وجهة نظر أكثر الناس تشدداً في الجماعة وأكثرهم ديماغوجية وسخطاً.
عندما تأتي الحداثة من الآخر:
يرى أمين معلوف أن الدراسات والآراء التي تتحدث عن مدى تأثير الأديان والعقائد على الأفراد والشعوب، ما هي إلا دراسات تقود إلى نظرة أحادية للواقع، مما تؤدي إلى تشويهه وتالياً ضبابية النتائج التي قد تتأتى عن تلك الدراسات، وعليه يتناول في الباب الثاني "عندما تأتي الحداثة من الآخر" من كتابه، مدى تأثير الشعوب والتاريخ على الأديان والعقائد، إذ يرى معلوف أن جميع الأديان والعقائد قادرة على استيعاب متطلبات عصرها والتّطور، ويُورِد معلوف العديد من الأمثلة التاريخية على هذا التأثير، إذ يرى أن كل عقيدة أو ديانة في كل عصر تحمل بصمات عصرها وزمانها ومكانها، وإن تقييم التصرفات الناجمة عنها يتم وفقاً لقرنها ومدى قدرة المجتمع على تطوير الديانة.
"عندما تحمل الحداثة علامة "الآخر" لا يكون مفاجئاً أن نرى بعض الأشخاص يرفعون شعارات السلفية من أجل تأكيد اختلافهم، وهذا ما نشاهده اليوم عند بعض المسلمين من الرجال والنساء، لكن هذه الظاهرة ليست وقفاً على ثقافة أو ديانة."
ويكملُ في مَوضعٍ آخر من الفصل:
" ...تستطيعون قراءة عشرة مجلدات ضخمة من تاريخ الإسلام منذ البدايات ولن تفهموا شيئاً مما يجري في الجزائر. إقرؤوا عشر صفحات عن الاستعمار والتحرر فتفهمون ما يجري بصورة أفضل."
"... أن النظر إلى الإسلام السياسي المعادي للحداثة والغرب بوصفه تعبيراً عفوياً وطبيعياً عن الشعوب العربية هو اختصار متسرع على الأقل"
زمن القبائل الكوكبية:
يتساءل معلوف في بداية هذا الباب، عن الأسباب التي أدت بالمجتمعات على اختلاف أصولها في شتى أنحاء العالم على تنامي الانتماء الديني لديهم وتأكيده بطرق مختلفة في هذه المرحلة، في حين تراجع هذا الانتماء فيما سبق، ويُرجع ذلك إلى أسباب عدة منها: تراجع العالم الشيوعي ثم انهياره، الأزمة التي تصيب النموذج العربي، والمأزق التي آل إليها حال مجتمعات العالم الثالث. كما يُؤكِّد على تنامي وتطور مختلف مجالات الاتصالات و"ما اتفق على تسميته بالعولمة"، إذ أن المعارف تتقدم بصورة سريعة جداً يواكب هذا التقدم انتشار لهذه المعارف مما يجعل المجتمعات الإنسانية أقل تمايزاً، مما يدفع بالبعض أن يدافع عن عناصر هويته الأهم برأيه مثل اللغة والدين، كرد فعل ليؤكد على اختلافه ويدافع عن هذا الاختلاف. ومن هنا يعلِّل معلوف تسمية "زمن القبائل الكوكبية"، إذا يرى أن جمعات المؤمنين في مضمون هويتها أشبه (بالقبائل)، وفي سرعة انتشار أفكارها (بالكوكبية).
يُوضِّح معلوف في مَوضِع آخر من الفصل:
"... لا أحلم بعالم لا مكان للدين فيه، وإنما بعالم تنفصل فيه الحاجة إلى الروحانية عن الحاجة إلى الإنتماء. بعالم لا يستشعر فيه الإنسان، مع بقائه متعلقاً بمعتقداته وعبادته وقيمه الأخلاقية المستلهمة من كتاب معدس، بالحاجة إلى الإنضمام إلى اخوته في الدين. بعالم لا يستخدم فيه الدين وشيجة بين اثنيات متحاربة، لا يقل أهمية. وإذا كنا نريد حقا تجنب أن يستمر هذا الخليط بتغذية التعصب، والرعب، والحروب الإثنية، يجب التمكن من اشباع الهوية بطريقة أخرى"
ترويض الفهد:
"... أوشكت أن أعطي هذا المقال عنواناً مزدوجاً: أو كيف نروِّض الفهد. لماذا الفهد؟ لأنه يقتل إذا طاردناه ويقتل إذا تركناه طليقاً، والأسوأ أن نتركه في الطبيعة بعد أن نكون قد جرحناه. ولكنني اخترت الفهد لأننا نستطيع أن نروضه أيضاً".
بهذا، يبرر لنا معلوف تسمية الباب الأخير من بحثه بـ "ترويض الفهد"، والذي يرى أن ترويض رغبة الهوية يجب أن لا يعالج بالاضطهاد والتواطؤ، والتعامل والممارسات التمييزية تُعَد خطيرة وإن كانت تمارس لصالح جماعة عانت من الاضطهاد بسبب هويتها، لما في ذلك من من استبدال ظلم بظلم آخر، ولما للأمر من تأثيرات سلبية تحفيزية للكراهية والتطرف، ورى أن كل مواطن يجب أن يُعامل بوصفه مواطناً كامل الحقوق مهما كانت انتماءاته واختلفت.
الخاتمة:
وفي خاتمة بحثه في الهويات القاتلة، يتأمل ويتمنى معلوف، أن يُمسك صدفةً حفيده الكتاب حين يصبح رجلاً، فيقلبه قليلاً، ثم يعيده إلى مكانه، "مستغرباً أنه في زمن جده كانت هناك حاجة بعد لقول مثل هذه الأشياء"!