الأحد ٢ شباط (فبراير) ٢٠٢٠
بقلم رشيد سكري

وجعُ ضريح

ـ 1 ـ

في ذات فصل ربيعي زاهر...

كانت بداية تلك الرحلة الطويلة، عبر سمْت مترب، تتيه بين عرصات الزيتون السامقة، ذات الحبات العملاقة. بين خلجان آيت عبو الحبيبة ركنت ناقلة جند على ضفة قبيلة آيت لحسن، بعدما أدخلها السائق ذو البنية القوية تحت عريش ممتد من شجر الكليبتوس. من خلف تلك الهضاب الواجمة استفاقت ريح قوية، أوشكت أن تقتلع الأشجار من طابورها الممتد كحزام يفصل شمال آيت عبو عن جنوبها. في ذات الخلجان مساحات كبيرة من البنفسج بلونها الزاهي، وأدخنة الأفران تشق عنان السَّماء، بدخانها الأبيض النـَّاصع كالثلج. فعندما تغفو آيت عبو من سبات ليلي ظل يتربص بها، تستيقظ مذعورة من الكرى الشتوي، فتطوي أطياف الزمن على الأغصان و الأشجار الذابلة الأوراق.

من مداخلها الشمالية، سمت يقطع أحواض البتولة، التي ألفها الناس في فصل الربيع، يقتاتونها دون أن ينضب لها معين. تلك المساحات الكبيرة من مغروسات شجرة الدوم، التي تصحنت في قعر الوادي، تظهر من بعيد كشريط يفصل القرية إلى عذوتين. وفي مخرجها الجنوبي ضريح سيدي أحمد البوهالي المعلق في السَّماء كتميمة ربانية مشدودة إلى غيمات هاربة. فهو محجُّ العديد من القبائل المنتشرة غرب الضريح، آيت الخنشة، آيت أزباير، آيت أوفريز، آيت فراز... عندما تظهر فلول الرمان في هوابطِ و منحدرات شعاب آيت عبو يستقبل الناس نهاية الحول، لأن فاكهة الرمان بحبوبها الحمراء تأذن بالرحيل إلى الضريح، كموسم التزاوج و التعارف بين كل القبائل.

ينظر ذو العينين الزرقاوين إلى القافلة، وهي ذاهبة في أفول المنعرجات، يبتلعها صمت المكان المنذور لرحلة أبدية إلى هذا الضريح الملفوف في قطن الوجع و الحنين. يحمل الجمعُ كل ما يروي الظمأ طيلة أسبوع، من مأكل و مشرب و أغطية. بل يوفون بالنذر ويأتون بالشياه و الأبقار، كي تتم عملية النحر على أعتاب الضريح، فتسيل وديان الدماء في الشعاب والممرات كالطوفان القاني. لا يحدها سوى كثبان رملية موجودة شرق قبيلة آيت الخنشة الصامدة في وجه الريح، الذي لا يبرح المكان، وأزيزه استوطن الدور وأقام في فلوات واطئة.

في صعود من عين بوتمسيردين إلى البيت تحت ظلة شجرة الكليبتوس، كان ذو العينين الزرقاوين يبحث عن صندوق جلبه معه من ثكنة بلميلودي العسكرية بالقنيطرة. وضع أمامه الأوتاد و الفرش من الدوم اليابس، وسرح الخيمة من وبر الخرفان، تفوح منها رائحة عطنة ساخنة، بفعل رطوبة قليلة تسربت إليها داخل الصندوق العرعاري الصلب. هيأ الأدهم ذي القوائم الرقطاء الراحلة ووضع عليه اللوازم، و نادى على همة عيسى، فقطعا معا في سكون الليل المقمر،أحراشا مالحة وواجمة، كي يلتحقا بالركب إلى الضريح.

هذه الرحلة كانت تنتظرها حدوم الغسالي، وهي ممددة تحت العريش، التي تفوح منه رائحة الفستق الساخنة. حملت دلوا من البئر المليء بالماء، لتروي ظمأ العنزة الرابضة في فناء الدار. وأمام هذه اللوحة الفنية، كانت السماء الزرقاء تشرب غيوما و رياحا ناعسة جهة الشمال، حاملة معها تقلبات المنازل و الفصول.

أغلقت حدوم الغسالي باب الفناء المتداعي، فأحدث صريرا قويا كعادته، ومن خصاصاته المتهالكة يظهر أنها أعادت كل شيء إلى مكانه، بعد بحث خبيب عن كل ما يلزم هذه الرحلة، التي حفرت أخاديد في الذاكرة. ابتعدت عن الدار حتى ابتلعتها شعاب و ممرات ضيقة في اتجاه ضريح عَمَّر، في آيت عبو الحبيبة، ما يزيد عن قرنين من الزمن، فأصبح كقلادة تسح ما تسح من مُزنات معلقة بين السَّماء و الأرض. في جوف ضباب كثيف، يظهر الحشد الغفير ويختفي، كرنفالا ضخما من الرجال و النساء والأطفال، ملفوفين في سحابات قطنية من سديم غبار مسحوق كالطحين، يشقون طريقهم نحو الضريح.

ـ 2 ـ

أرخى ذو العينين الزرقاوين ستار خيمته الوبرية، تاركا أمامه ساحات تعج بقطعان البهائم، وما جادت به، هذه الأرض السخية من عطايا، التين و الزيتون و الرمان المشروخ والمعتـَّق كحبات الكرز الأحمر. يتقربون بها من أحفاد تسيل البركة من أناملهم الطاهرة.

ـ يقول ذو الجلباب الصوفي بفم أثرم هزمه الزمن:

بماء نمير تسيل اثنتا عشـْرة عينا من تحت خيمة أحفاد سيدي أحمد البوهالي. يزينون مجالسهم بالذكر والتعاويذ، وبعض الأبخرة المرطـّبة للمكان، قد جلبوها من مقامات زكية في الشرق الأقصى.

فعندما تلج الضريح، من بابه الخلفي، يقول ذو الإصبع الأعْجـَر

ـ تصادفك قطط تحمل ذاكرة المكان ـ الضريح، ما بين الأسود و المحجَّل و المرقط والأشهب و الأشمط والرمادي و الأعور الشرس. إلى جانب، ذلك، غرفة مظلمة كعلبة سوداء ذات طاق واطئة مقوسَّة. لها إفريز، من التوتياء، تشرب أقواس السحاب المطيرة، غمرها الصدأ البني. فكلما هبَّ نسيم عليل في الوديان، والخلجان أو لامس النجف الأشرف، تحدث التوتياءُ صوتا يشبه أنين الموتى في قبور تحلقت حول الضريح منذ الأزل، معلنة عن دورة الزمن في قبيلة آيت عبو.

يقول المعتوه، وهو رجل يسيل اللعاب على شفتيه الناشفتين، بتلكؤ:

إنني أعدو، في خفة الوشق، كلما عنَّ في سماء الضريح دخان يشق العنان، يشي ذبيحة قد كست الصحون المطيَّنة لحما و عظما. فعندما أتسلق عاليا عند قبة الضريح، تظهر القبور بدون شواهد كرؤوس اليتامى صلعاء، تطل على حفر لا تكف عن الامتلاء. إنها قبور كانت ولازالت وكرا لكلاب ضالة، تحفر أوجرتها تتبع الأجساد الفانية.

لملم ذو العينين الزرقاوين أغراضه، بعدما سحت سماء آيت عبو بأولى قطرات المطر، لتغسل كل ما تركته القبائل في الساحة الوطيئة، كي تتجدد من زمن إلى زمن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى