وظيفة المدرسة والرأسمال الثقافي للطفل.
– الجزء الثاني-
فالطفل دائما محور التربية من كلاربيد إلى جون ديوي وغيرهما...، والتربية اليوم يجب أن تهتم بالطفل أكثر مما تهتم بالمناهج التعليمية، تفاديا لخلق مقصيين من المدارس، قد يكرسون واقعا اجتماعيا أكثر إقصاءا وتهميشا لأن هؤلاء هم ضحايا وظيفة المدرسة أو لأنهم غير مؤهلين قبليا بسبب مواقعهم وانتماءاتهم الطبقية ومن الخطأ الاعتقاد اليوم بأن التربية تعيد إنتاج المجتمع، والتربية لم توجد من ذاتها ولأجل ذاتها كما يرى المثاليون ولكنها جزء من النضال الاجتماعي حيث تنعكس مميزاته، والتربية تبعا لذلك لا يمكن عزلها عن الجو العام السائد داخل المجتمع، سياسيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا.
... وهذا ما يفسره العدد المتزايد من الأطفال الذين يتركون المدرسة سنويا، وفي سن مبكرة والمنتمين في أغلب الحالات إن لم نقل جلها إلى الطبقات المهمشة والمحرومة يتحدث ماركس عن طفل إذا كان يعرف أنه إذا كان التكوين الاجتماعي لا يعيد إنتاج شروط الإنتاج في نفس الوقت الذي ينتج فيه التكوين الاجتماعي لا يمكنه متابعة مدة سنة، وكتب التوسير بأن الشروط الأخيرة للإنتاج هي إعادة إنتاج شروط الإنتاج التي هي في نفس الوقت إعادة إنتاج القوى المنتجة وإعادة إنتاج تقارير الإنتاج.
يرى جميل سالمي في كتابه أزمة التعليم وإعادة الإنتاج الاجتماعي بالمغرب أن عدم تكافئ الفرص بين الذكر والأنثى بين الحضري والريفي، وبين مختلف أبناء الفئات والشرائح الاجتماعية يعود هذا الوضع بالنسبة للمجتمع المغربي إلى عدة اعتبارات سياسية واقتصادية ترتبط بالتوجهات التنموية والاجتماعية العامة وبمواقفها وتصوراتها للحلول الملائمة لما يدعى بالمسألة الاجتماعية في مختلف أبعادها وجوانبها وهذا دليل على غياب الدمقرطة الشاملة للتربية والتعليم والتكوين . كما يلاحظ أيضا وبشكل كبير عدم التطابق والتكامل ببين النظام التعليمي وبين مختلف قطاعات المجتمع بشكل عام. بالإضافة إلى غياب سياسة تربوية واعية تأخذ بعين الاعتبار كل النواحي الاجتماعية للطفل، لتفعيل التواصل بين المدرسة والأسرة والمحيط الاجتماعي، وعملية التواصل هاته عملية معقدة تهدف إلى تحقيق التفاعل الاجتماعي بين أفراد المجتمع على اختلاف أعمارهم وفئاتهم وأدوارهم ومواقعهم والتفاعل الاجتماعي يعتمد على الاتصال حيث يحدث تأثير متبادل في السلوك ويتضمن التفاعل الاجتماعي عناصر ذات تنظيم نفسي واجتماعي لدى الأفراد والجماعات، وعملية معرفية متعددة كالإحساس والإدراك والتفكير وما يترتب على ذلك من تغيرات في سلوك الفرد والجماعة.وتشمل عملية الاتصال هاته علاقة الطفل بالأسرة وبالمدرسة وبالمحيط الذي ينتمي إليه.
إن الإشكالية التي تطرح نفسها وبإلحاح داخل حقل سوسيولوجية التربية بالمغرب اليوم، هي علاقة المؤسسة المدرسية بمحيطها السوسيو اقتصادي والثقافي للمجتمع، وكيف يمكن تحويلها من مجرد آلة لتكوين أطر الدولة وإعادة إنتاج ذاتها في الزمن، إلى مؤسسة تعليمية تعمل على إعداد أفراد فاعلين ومندمجين داخل المجتمع؟
إن علاقة المدرسة بالأسرة وبالمحيط أصبحت اليوم أكثر تعقيدا من ذي قبل، بسبب التحولات التي يشهدها المجتمع وبسبب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية فالأسرة المغربية تمر الآن بمرحلة تحول نحو النظام النووي جعلها أكثر تعرضا للانحلال والتفكك من أي وقت مضى، في ظل ظروف اقتصادية مزرية يشهدها المجتمع الحالي. وكذا الفقر والأمية حيث يعتبران سببا في الانحلالات الأسرية، وسببا في تفاقم المشاكل داخل البينية الأسرية، كما أن خروج المرأة إلى العمل وتحول موقعها داخل الأسرة، حيث تزايدت نسبة النساء العاملات الشيء الذي أدى إلى تضارب أدوارها في الأسرة، وتنافر القيم والعلاقات التي تربط أعضاءها، خصوصا وأن الكثير من النساء يعولن أسرا لانتشار البطالة بين الرجال وكذا الإقبال على تشغيل النساء لضعف أجورهن أدى إلى حالات شاذة داخل الأسرة كالطلاق وعدم الاستقرار والصراع الدائم، كما أن انشغال الآباء والأمهات ذوي الدخل المحدود بتحصيل لقمة العيش أدى إلى إهمال وتقصير في مراقبة دراسة أبنائهم، وحتى إذا ما أتيحت الفرصة لمراقبة واجبات التلميذ المدرسية، فإن أغلب الآباء والأمهات يكونون ضعيفي التكوين العلمي، ونادرا أيضا ما يحضر الآباء إلى المدرسة لمتابعة الأمور بها.
ففي غالب الأحيان يلقون على عاتق المدرسة مسؤولية التعليم والتربية، ولا يحملون أيضا أي مشروع دراسي لأبنائهم، كما أن هناك أيضا أجواء أسرية لا تسمح ولا تضمن شروط وأجواء الدراسة. كما أن ضعف الإمكانيات الاقتصادية للأسرة لتلبية حاجيات الطفولة يفضي إلى الاستغناء عن المدرسة قبل ولوجها أو تركها مبكرا، تؤدي بالأطفال إلى البحث عن مدخول إضافي لإعانة العائلة أو تدبير الأمور الشخصية، والحالة التي وصلت إليها المؤسسة التعليمية وكذا طوابير الخريجين العاطلين انعكس سلبا على تحفيز أطفال الطبقات الدنيا إلى الدراسة، بحيث أصبحت المدرسة في نظر الكثير منهم، مضيعة للوقت لوجود سواء إخوة لهم أو جيران موجزون عاطلون، إن وجود الأعداد الضخمة من الخريجين العاطلين، أعطى للمدرسة صورة فضيعة في أعين الأطفال الصغار، وخصوصا عندما تكون الظروف الاجتماعية والاقتصادية للأسرة لا تسمح بشكل كاف لمتابعة الدراسة في ظروف أفضل حيث يضطر الأطفال إلى تفضيل العمل أو الصنعة، كما يفضلون تسميتها، في سن مبكرة بدلا من ضياع الوقت في المدرسة التي لم تعد تنتج في نظرهم إلا البطالة، ووجود البطالة لدى حاملي الشهادات وبنسبة كبيرة أدى إلى تغيير نظرة الآباء إلى المدرسة، لقد أصبحت تمثل شبحا مخيفا للأسر ذات الدخل المحدود.
مما جعل الآباء يترددون الآن حين يسألون عن دور المدرسة، فهم يتحدثون عن واقع معاش مر، وعن مستقبل أسوأ، ويرون في تعلم الصنعة كمنقذ من الوقوع في شباك البطالة، إن أغلب العائلات التي ضحت من أجل تعليم أطفالها تتحدث اليوم عن كونها أضاعت الكثير مما تملك من الجهد والوقت والمال، ولا نتيجة لذلك، فلماذا تعاد الكرة من جديد، فالهدف بالنسبة للآباء من الطبقات الدنيا، اليوم هو تعليم أطفالهم إلى حدود الابتدائية فقط، إنهم يقولون هذا يكفي لكي لا يبقى الطفل أميا وبعد ذلك عليه أن يبحث لنفسه عن طريق آخر، قبل فوات الأوان، مما يضع المدرسة مرة أخرى في مأزق، لقد أكدت الأبحاث أن اهتمام الآباء من الطبقة الوسطى بصيرورة العمل داخل المدرسة يعطي حافزا للأبناء للحصول على نتائج جيدة، فبالأحرى الطبقات الغنية، وهذا دليل على حضور الوضعية الاجتماعية والثقافية داخل المدرسة وترجمتها إلى استحقاقات فردية ومواهب شخصية عكس الأطفال المنحدرين من طبقات دنيا الذين لا يجدون أي توافق بين ثقافة المدرسة والأسرة والمحيط الذي يعيشون فيه، فلا يستطيع أن يصل منهم إلى نهاية المسار إلا القليل، وهو ما جعل المدرسة في علاقة غير متكاملة مع المحيط الاجتماعي، وبدت أكثر حاجة إلى إعادة النظر في ذاتها لتجاوز التفاوتات بين التلاميذ بسبب الإرث الثقافي.
إن مجمل هاته الأوضاع والتغيرات التي مست الأسرة والمدرسة، كانت سببا وراء تأزم الفوارق الاجتماعية وتكريس سلطة الفقر والتهميش، والاستغلال البشع لأجساد فتية ضحايا الإقصاء المدرسي أو ظروف اجتماعية قاسية منعتهم من ولوج المدرسة، والمجتمع لا يستطيع إلا أن يطرح أسئلة تثقل رؤوس زهور لم تنفتح بعد، وتتطلع إلى حلول وأجوبة بعيون ذات نظرة بريئة وناقمة في نفس الوقت.