وللحرف مآرب أخرى
لعل الحرف حلم..، لعل الحلم حرف..، تأخذنا رسومات خالد الفقي إلى عالم سرمدي، تؤثثه إلتواءات الحروف، حركاتها ، إضاءاتها... كأن الحروف فيها كائنات تعيش في أعماق أعماقنا، تخطف أبصارنا الحالمة لتحمل العين إلى أبعد مما تبصر، إلى عالم صوفي نمضي فيه على وقع تكرار الحركات الانسيابية الصاعدة إلى ما لا نهاية ؛ انه تجاوز للحامل المادي للوحة وهو تجاوز أيضا لقواعد كتابة الخط الصارمة. انه انفتاح على اللاّزمان واللاّمكان، فمعالجة الحرف لدى خالد الفقي تنفلت من قواعد الجاذبية لتجعل من الحرف كائنا حيّا ينصهر في رقصة انسيابيّة تبعث في أنفسنا شعورا بالحريّة وبالمطلق، لعله الإحساس الذي حدثنا عنه سقراط والذي يكون فيه الشعور بالجمال متعال على ثنائية اللذة والألم حيث يقول في محاورته لبروتاخوس "ما أعنيه أن هذه الأشياء ليست جميلة نسبيا كغيرها من الأشياء وإنما هي جميلة دائما وبالطبيعة. وعلى وجه الإطلاق، هي ذات متع أصيلة لا تعتمد بحال على نزوات الرغبة".
تواصل ( ثلاثية:أكريليك على قماش)
إنّها أشكال تماما كالصلاة تهذّب الروح وتحيي فيها شعورا بالاستبطان، ليس فقط لان العمق في لوحاته ليست له حدودا بصرية ولكن أيضا لأنّ الحرف لا تتضح له بداية أو نهاية فهو يذوب في مساحة اللوحة كما يذوب الخيط في المنسوجة. الحرف في أعمال خالد لا يخطّ كلمات أو معاني، حسبه أن يسكر العين بانسجام إيقاعاته وتمام رسوماته.
وللّون حكاية أخرى ،فبين الأصفر والأحمر وجد خالد الفقيه باقة من الألوان، رصّع بها لوحاته تماما كما يرصّع الحرفي ثوب العروس أو كما يطعّم صانع الأواني آنية فضية بزخارف ذهبية، انه إتقان للصنعة إذا ما استعرنا تعبير القدامى وهو تفنن في اللعبة التشكيلية إذا ما استعرنا تعبير المحدثين.
أعماق (أكريليك على قماش)
أما الأزرق الذي تغزوا ألوانه خلفيات الرسومات فهو اللون ذاته الذي اختاره "كلين" للتعبير على اللاّمنتهي والكوني، هو أيضا لون السماء ولون البحار، فكأنّنا إزاء مشاهد بحرية تكون الطحالب فيها حروفا متجانسة تختفي تارة وتظهر تارة أخرى في لعبة مشوّقة تتداخل أحيانا وتتقاطع أو تتوازى في أحيان أخرى. وكأنها تنسج للعين سنفونيّة يتواصل إيقاعها في الذهن حتى بعد مغادرة قاعة العرض.
(أكريليك على قماش)فيروزيات
ولكن إلى أين يأخذنا هذا النسيج البصري؟ والى أيّ مدى يمكن قراءة العمق في لوحات خالد الفقي؟
يمكن اعتبار توظيف الإضاءة بكيفية توحي بالعمق من أهم الأساليب التي اتبعها الرسام في معالجة الخلفية. رغم أن هذه المعالجة لم تكن بطريقة كلاسيكية أي بإتّباع قواعد المنظور الغربي أين تكون الإضاءة موجهة من زاوية أو جهة دون أخرى. إذ تفاجئنا الرسومات بانبعاث اضاءات خاطفة من هنا وهناك و كأنها تلألؤات لأجرام سماوية. وفي أحيان أخرى كأنها هالات نورانية تضيء الأعماق الغائرة وتنير أنفسنا ببهجة عارمة. لتبان مثل الشعاعات الخافتة التي تتسلل من خلال فتحات صغيرة ،فتذكرنا بالمشربيات في العمارة الإسلامية أين يتمظهر الضّوء كعنصر أساسي سواء من خلال حضوره المادّي عبر توزيع فتحات الإضاءة أو من خلال أساليب الزخرفة فيتحوّل الفضاء إلى نسيج من المعتّم والمضيء عبر سلسلة من الظّلال المتدرّجة والّتي يندمج من خلالها النّور بالمادّة ما يسمّيه "باركهارد" (باحث في مجال الفنون الإسلاميّة) "بخيمياء النّور".
نورانيات (ثلاثية: أكريليك على قماش)
كل حرف في اللّوحة كل خط يتّخذ ألوان وإضاءات مغايرة لتبان الخطوط مثل الحبال المتعثكلة. فتظهر لنا حروف وتختفي أخرى مشبّكة الفضاء ومحدثة لإرباكات بصرية حيث تعطي انطباعا بتعدد مستويات العمق والأبعاد فتحيلنا على فضاءات افتراضية تثير المخيلة.
تشابك (أكريليك على قماشة)
وانتقال الحروف في هذه الأعمال من أشكال مقروءة ذات هندسيّة إلى عناصر تشكيليّة تأثّث فضاء اللوحة من شأنه أن يخلق رؤية جديدة وتصوّر جديد لمنطِقيّات تشاكلها وتوالدها. فالحروف في هذه الأعمال تنسج عبر تشابكها وتراكبها تأليفات شكلية ولونية تختلف في خصالها التشكيلية من لوحة لأخرى، ومحدثة لقراءات بصرية متنوّع.
فهذه الأعمال الفنية تبوّب ضمن التجارب الحروفيّة التي تستلهم أشكالها من التراث العربي الإسلامي بدرجة أولى والتي تحاول صياغته بمنهجيات فنية معاصرة وحديثة، معتمدة في ذالك على مرجعيات غربية بالأساس .
همس الحروف (أكريليك على قماش)
فعلى سبيل الذكر لا الحصر يمكن أن نستشف من خلال هذه التجارب تأثرا بأعمال " سوتو" الذي تناول من خلال تجاربه التشكيلية لإشكاليات فنية تهم "الشبكةً" ومسائل أخرى تخص الإرباكات البصرية. كما تذكرنا العفوية الانسيابية في رسم الحروف عند خالد الفقي بالحرية المفرطة التي يتعامل من خلالها "سولاج" مع خطوطه السوداء حيث تعبّر حركاته الانسيابيّة على تفاعل كامل مع أدات الرسم لتصبح عملية الرسم رياضة صوفية تنصهر فيها الحركة مع الذات الباطنة.
وفي الأخير تبقى هذه التجربة خاصة من حيث شاعريتها ومتميزة من حيث اكتمالها ونضجها ولا نقول أنها وحيدة ومتفردة فهي تستلهم أبجديّاتها من التجارب الأخرى ولكن دون الوقوع في الشكلانيّة المغلقة أو في التقليد العقيم. هي تجربة جديدة تضاف إلى تجارب سابقة وتبقى دليلا قائما على تواصل الإبداع في هذا المجال، مقرّة بأنّ مادة الخط العربي هي مادة متجدّدة ومنفتحة على التاريخ كونها متجذّرة في الذاكرة الجماعية ولكونها تعبير إنساني قبل كل شيء.