الاثنين ٣ تموز (يوليو) ٢٠١٧
بقلم فاروق مواسي

ويمكر الله

هل الله يمكر، وهو يقول:

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ

المكر هو الخداع، والمقتبس هو آية- ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين من سورة آل عمران، 54، ومثل ذلك جزء الآية- إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم- النساء، 142.

نجد هنا لونًا من البديع في البلاغة يسمى "المشاكلة"؛ فالمشَاكَلة في اللغة: المشابهة والمماثلة.

والمشاكلة في الاصطلاح البلاغي:

ذكْرُ الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته – تحقيقًا أو تقديرًا (القزويني: الإيضاح في علوم البلاغة ص 493).

ففي معنى (مكر الله) يكون مشاكلة لقوله (ومكروا)- أي جازاهم على مكرهم، فاستعير للجزاء على المكر اسم المكر، وذلك لتحقيق الدلالة على أنّ وبال المكر راجع عليهم ومختص بهم، بل هو أقوى من فعلهم.

(الرمّاني- باب "التجانس" ضمن كتاب- ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، ص 99 -سلسلة ذخائر العرب، وانظر كذلك شرحه لقوله تعالى- وهو خادعهم: أي مجازيهم على خديعتهم).

فالحيلة للمضرة أو الخداع أو الكيد لا يجوز نسبتها لله سبحانه إلا عن طريق البلاغة.

ثم هل يقوم الله بالسيئة ليجازي سيئة من البشر، وذلك في قوله عز وجل:

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا- الشورى، 40

فالسيئة الأولى حقيقة، أما السيئة الثانية فهي الجزاء على السيئة الأولى، والجزاء لا يسمى سيئة، وإنما أطلق عليه ذلك من باب المشاكلة اللفظية لوقوعه في صحبة السيئة الأولى الحقيقية، والعقاب بالسيئة الثانية يسوء المذنب، وهي بالنسبة له سيئة، وذلك نتيجة لذنبه الذي اقترفه وكان سيئًا.

استخدم لفظ (السيئة) في الجزاء عليها من قبيل "المجاز المرسل" لعلاقة السببية، وقد ساهمت المشاكلة مع المجاز المرسل في جمال الأسلوب وسمو بلاغته.

كذلك نجد في الذكر الحكيم من المشاكلة -...مستهزئون * الله يستهزئ بهم- البقرة، 15، ونحن لا نستطيع تطبيق المعنى الحرفي في مثل هذه الآيات، وسبيلنا أن ننحو إلى الأساليب البلاغية التي أجازها العرب في لغتهم، ورأوها صورًا رفيعة في معانيها.

مما جاء في المشاكلة أيضًا- قوله تعالى: تعلم مافي نفسي ولا أعلم مافي نفسك- المائدة، 116، فهل لسبحانه وتعالى نفس، وكأنها نفس الإنسان أو ذاته؟

لا، ولكن هنا مشاكلة، فالأصل فيها: تعلم مافي نفسي، ولا أعلم ماعندك.

من الشعر إليكم بعض أمثلة:

قال عمرو بن كلْثُوم:

ألاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا * فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلينَا

سَمَّى تأديبَ الجاهل على جَهْلِهِ جَهْلاً من باب المشاكلة، مع أنّ التأديب والعقاب ليسا من الْجَهْل.

ومعنى الجهل هنا هو الطيش المنافي للحِلْم، وما ينتُجُ عنه من أعمال غَيْرِ محمودة تجاوز حُدود الحقّ ، ومن المنطق أن يقابل الخروج عن الأصول خروج مماثل.

قال ابن الرَّقَعْمَق " مُتَظَرِّفًا

قَالُوا: اقْتَرْحْ شَيْئاً نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ
قُلْتُ: اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصَا

طلبَ طَبْخَ جُبَّة وقميص على سبيل المشاكلة لطلبهم أن يطبخوا له شيئًا يأكله، ودلّ بهذا على أنّه بحاجة إلى ما يَلْبَسُه .

وكقول أبي تمام:

من مبلغ أفناء يعــرب كلهم
أني بنيت الجـــار قبل المنزل

فالجار لا يبنى بل ينتقى، وإنما عبر عن انتقائه ببنائه قصدًا إلى المشاكلة بين اختيار الجار
وبناء الدار.

وكقول الصاحب بن عباد:

على لسان من رد القاضي شهادته برؤية هلال شوال:

أترى القاضــي أعمى
أم تراه يتعامــى
سرق العيد كأن العـــ
يد أموال اليتامـى

هنا عدل عن (أخفى) أو نحوها إلى (سرق) لتشاكل أمول اليتامى،
والقرينة اللفظية هي مجيء العيد مفعولا به للفظ المشاكلة سرق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى