الثلاثاء ٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم زكية علال

ياسمينة صالح امرأة حافية في وطن من زجاج

" حين نستيقظ صباحا ولا نجد وطنا نتكئ عليه نكتشف حدة اليتم والفراغ المهول الذي نجره يوميا في عمرنا الجاهز للإنكسار واليتم ...واللا أمل....."

منذ اللافتة الأولى التي علقتها الروائية الجزائرية ياسمينة صالح على صدر روايتها كمدخل لها ، تكتشف أنك ستدخل وطنا لا يشبه أوطان الآخرين ... ولا يشبهنا أيضا ...وطنا تصبح فيه الفجيعة خبزا يوميا وبديلا لفطورنا الصباحي وقهوتنا المسائية التي لم تعد تحمل نكهة ماء الورد ...
موجوعة أنت حبيبتي ... وأنا ... والآخر ، وهذا الوطن الذي خبئناه في صدورنا لنهربه إلى مرافئ – اعتقدنا أنها آمنة – فانفجر فينا ليحولنا إلى رماد بعضه اندثر هنا ... وبعضه اندثر هناك ... وبعضه الآخر لا يعرف أين يندثر.

على طول المسافة التي قطعتها وأنا أقرأ رواية " وطن من زجاج " للروائية ياسمينة صالح ، كنت أسمع طقطقة زجاج يتكسر تحت قدمي ... لم أنتبه إليه لشدة انهماكي في تفاصيل الرواية وخيبتها الممتدة ...خيبة مواطن يجد نفسه عاريا من انتمائه ، مكشوفا بعيوبه ومساوئه أمام الآخرين ... وعندما أنهيت القراءة - بعد أيام – اكتشفت حجم العطب الذي أصابني ..بل، حجم الدم الذي كنت أغرق فيه دون أن أشعر ... الإحساس بالألم لا يغيبه إلا ألم آخر أشد وأوجع ... والأوجاع كالحرائق الكبيرة التي لا نستطيع أن نسيطر عليها ، فنضرم حريقا موازيا لتأكل النار بعضها البعض .

البطل في الرواية هو أنا ... أنت ... ذاك اليتيم بالوراثة .. يتيم ماتت أمه وهي تضعه ، وهرب أبوه حزنا وتملصا من وجه لا يحمل إلا النحس ، ليتركه لجد يريد أن يسدل عليه عباءته الإقطاعية .. وعمة مشلولة لا تملك إلا دفئا صامتا ...

يكبر الطفل الذي لم يكن يوما صغيرا ... كل الشخصيات التي مرت به تركت أثرا على ملامح نفسه : من إقطاعية الجد إلى هروب الأب ... إلى دفء العمة .. إلى وصية معلم غادر القرية مطرودا لأنه عارض رئيس البلدية وجده الإقطاعي ليجد نفسه بائعا في متجر ثم حمالا في ميناء ثم ينتهي إلى مرض قاتل ... وتلك الصغيرة التي غادرت مع أبيها المعلم وتركت عقدها بين يديه ، حفرت هي الأخرى ذاكرته المعطوبة ... كان منذ البداية متورطا في جلب الآخرين نحو الغرق ، والنجاة بنفسه ... إلى أن أصبح صحافيا يمارس عقده اليومية على الورق ، ووجد أنه في كل مرة يتلقى أصدقاؤه وأحباؤه الرصاصة التي كانت تقصده ...صحافي يمشي بكفن في جنازة الآخرين ، ويحضر طقوس تأبين تحضره –أيضا - وجوه رسمية رغبة في التقاط صورة بجانب شهيد الواجب ... وفي الأخير .. عندما تحرر من خوفه وخرج إلى الشارع اكتشف أن لا أحد كان ينوي قتله بدليل أنه يقطع شوارع المدينة مكشوفا دون أن تصيبه رصاصة . كان يحدث نفسه " اعتقدت أنني سأتلقى حتفي بمجرد خروجي من مخبئي ، بل راهنت بيني وبين نفسي أنني سأتعرض للقتل في أول يوم أمشي فيه على قدمي في شوارع المدينة ... فكرت أن كل خطوة أمشيها هي باتجاه نهايتي ... ولكن .. حين لم أمت ، حين كنت أرجع إلى الجريدة كنت شعرت بالخيبة والثورة ! كنت أرى في عيني الزملاء دهشة لا أحبها .. دهشة بقائي حيا في الوقت الذي كان يموت فيه الآخرون ! "

ثم يأتي السؤال " هل كنت حيا ؟ " ... سؤال عن ماهية الموت والحياة ... هل الميت هو من أصابته الرصاصة وخلصته من الجوع والخوف والإنكسار ؟!! أم الميت هو من أخطأته تلك الرصاصة وتركته يرتعش خوفا ، ويتألم جوعا ، وينحني انكسارا ؟!!
رواية " وطن من زجاج " لا يمكن أن نختصر تفاصيلها الموجعة في صفحة أو صفحتين ... بل يجب أن تقرأها سطرا سطرا وكلمة كلمة لتقف على خيبتنا داخل وطن نحبه برغم كل شيء .. ونعيش فيه برغم كل شيء .

ما كتبته ليس قراءة نقدية ... بل هي تداعيات تركتها في نفسي رواية كانت حدثا في مشرق العرب ومغربه ... ولم تكن حدثا في وطن لا يعرف كيف يحب أبناءه الطيبين ... – تماما – كالأم التي يلهيها الابن العاق فتلتفت إليه وتنشغل به، وتغفل عن ذاك الولد الطيب الذي يحبها بجنون .. وبصمت


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى