الجمعة ٣٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٦
بقلم توفيق بن حنيش

يقظان يحلم


لم ينشغل "سامر يحلم" بدلالة التركيب حينما قرر أن يسمي ابنه "يقظان يحلم" بل علّق على ذلك أملا كبيرة متوسما فيه القدرة على اليقظة والحلم وسماه كذلك سيرا على سنة قديمة في العائلة فجده اسمه فاهم يحلم وعمه اسمه حذر يحلم . سمي الوليد وعقّ عنه والده وأقيمت الأفراح .


وكبر يقظان ودخل المدرسة وكان اسمه مثار التعليقات والمزاح الذي لم يكن يقبله بأريحية ودأب على طيّ الأمر وتصريفه في المنسيات .ولقد زاد الطين بلة أن كان يقظان قليل التركيز كثير السهو والتهويم ,وكان سريعا ما يغيب عن الواقع لينخرط في بحر مائج من الفكر والذّكريات ولا يخرج من ذلك إلاّ على ضحك زملائه وإحباط أساتذته .ولم يأل أبوه جهدا في البحث عن علاج لحالة يقظان فقد جمع له الرقاة ونظم له حفلات "الحضرة" ولجأ في آخر المطاف مرغما إلى المعالجين النّفسيين وقد أجمعوا كلهم بأن الخلل في الموضوع وليس في الذّات وأكدوا له أن يقظان سليم معافى وأن العلة في طبيعة المسائل الشائكة التي يهتم بها ابنه .واتفق الجميع على أن مسائل التاريخ والحضارة هي التي تحرف الحسّ وتشوه الوعي وتجنح بالفكر إلى مسارب ومتاهات ويغرق فيها الذهن فيبدو يقظان كالمسحور .
وكبر يقظان يحلم وبدأ يحبّ اسمه بل بدا فخورا بهذا التركيب الجميل حتى أنه كان يذكره لمن لا يعرفه دون ترمرم ولا غمغمة كما كان يفعل وهو طفل .بل كان يمضي باسمه كاملا كما يفعل علية القوم وكبراء الساسة .وكان ,إذا خلا بنفسه ,يكثر من مقارنة اسمه بأسماء أعلام من التاريخ ومن الأدب والتاريخ وكان يقارن بين ما تحدثه اسماء مثل غسان كنفاني وأمل دنقل وشبلي شميل وجبران حليل جبران ورشيد أيوب ولامرتين ولافيات وكينز بور أوي من موسيقى وما يحدثه اسمه من إيقاع وجاذبية وكان يُسعده أن تتضافر أجراس الموسيقى لتصنع لاسمه كل ذلك الألق .وتحول اقتناعه باسمه إلى مفخرة ومن وقتها قرر أن يكون فعلا يقظان وحالما .
لقد أعيت السيّد يقظان الحيل ليهجر الرقاد نهائيا وأوشك أن يقطع أجفانه لو لا أنه خاف من الاجحاف والعمى .وبلغه يوما من مطالعاته في الصحف أن حكيما هنديّا أو صينيا قهر النوم وتغلب عليه بمضغ أوراق شجيرة تسمى الشاي .ومن يومها ويقظان يحلم يمضغ الأوراق ويمصّ خلاصتها ويتصبر بها عن الإرهاق والغفلة .وتحول بقدرة القادر إلى تمثال تسكنه روح ويخفق قلبه مثلما هو حال البشر تماما .
ظل "يقظان يحلم " مفتح العينين حتى رأى في بداية السنوات الثمانين من القرن الماضي الجيش الاسرائيلي بقيادة شارون يشق الطريق إلى جنوب لبنان ثم إلى بيروت وكان شاهدا على هزيمة ياسر عرفات ومغادرته هو ورفاقه بيروت إلى تونس والجزائر .وكان يقول :"إن يقظتي الدّائمة لا تعني أنني لا أحلم " ولذلك استجمع طاقاته وجعل يمشي على حبلين حبل اليقظة الدّائمة وحبل الحلم وتذكّر لتوه أنه رأى مشاهد مماثلة لاعدام تشاسيسكو قبل وقوعها بلحظات وجعل يؤصل الحدث وردّه في النهاية إلى قدرته العجيبة على الحلم واستباق الأمور ومن وقتها وهو يحلم بقدرة صدّام حسين على قهر جيش اسرائيل ورغم أنه لم يكن بعثيا خالصا ولا يساريا خالصا ولا محافظا خالصا ولا تقدميا خالصا فقد انتظر تحقق هذه البشارة .ولكنه ما فتئ يحلم حتى حاصرته الهزائم والخيبات من كل جانب فانقلب يائسا .
ورغم أنه كان يلوم الاتحاد السوفياتي على تهاونه وتخاذله في نصرة العراق سنة إحدى وتسعين إلاّ أنه تألم كثيرا لقدرة صاحب الاصبع المبتور- بوريس يلتسين -على قلب الحكم في موسكو، وفي تلك السنة توفي أبوه ولشدة حرصه على اليقظة والحلم حرم نفسه من حضور جنازته ومن البكاء عليه فالدموع قد تشوش عليه الرؤية .ومنّاها بأن يحلم بذلك متى تيسر له الأمر.ولكنه زعم أنه كان يبكي الاشتراكية ومعسكر وارسو وتفكك يوغسلافيا وقوافل النازحين الغارقين في الوحل وهم يتجهون نحو الحدود ,رغم ما رآه من مأسي المجاعات والحروب فقد ظل ينظر بعين فاحصة ويحلم بقلب مفتوح وعقل متيقظ ,وكان يجمع حوله الأطفال في الأعياد وفي ساعات الخروج من المدارس ليعلمهم فنون الحلم والتجاوز .لقد استطاع "يقظان يحلم" أن يجمع الماء والنار في كفّ واحد وكان يقف دهرا لا يجلس ويمشي شهورا لا يتوقف ويسير بالخيال والحلم في الآفاق مسافات لا يدركها غيره إلا بالسيارات والبواخر والطائرات .ولكنه لم يقاتل لأنه كان منشغلا بالحلم .ورأى فيه الناس منقذا ونسبوا إليه البركات والكرامات لأنه كان ينبئهم بمصائرهم التي تخبّئها لهم الأقدار .وقد أخبرهم في بداية القرن الحادي والعشرين أن رجلا من سراه العرب سيذبح فجر عيد الأضحى فاستيقظ فيه الجعد بن درهم وجاء وعليه أسمال التاريخ والذّم يشخب من عنقه فذكّره مالك بن نويرة وذكّره سعيد بن جبير فشوش عليه ذلك صفاء الرؤية ولجّ في طلب القصة كاملة فلم يظفر بشيء وتخلخلت مكانته في نفسه.

ومضى زمن تذكّر فيها "يقظان "أن العيب في التاريخ وليس في الذات فجعل يمسح عن عينيه غبش فجر طال انتظاره ويمني النّفس بانبلاج صبح يعيد للوجود معناه .ولكنه استبطأ هذا الانبلاج ولم ير بدّا من إعلان الكارثة .قال لهم :"الآن يولد عالم جديد فخذوا حاجاتكم من هذا إلى ذاك " ثم صمت واختفى في المتاهة ولم يعد منها إلاّ سنة ثلاث وألفين .
عاد "يقظان يحلم "إلى قومه بعين مغمضة بالكامل وأخرى نصف مفتوحة وبفم أدرد وشعر أشيب .وأخبرهم أنه كف عن مضغ أوراق الشاي الذي لئن منع النوم فإنه لم يمنع الانفجار الذي نتج عن قهقهة نفسه الساخرة مما يدعيه من حلم وعادت إليه رفة الجفن وجعل يفكّر في وضع نظارات .
وأخيرا نام "يقظان يحلم" فغزته الكوابيس المفزعة التي أقضت مضجعه وحركت فرائصه وظل القوم يراقبون حركاته المتشنجة وهم يعتقدون أنه يحلم ويبحثون عن معبري الرؤى.

وقال المفسرون إنه يشير إلى فتح جديد بالشام يتمّ به المجاهدون ما تركه أبو عبيدة ابن الجراح وفسروا تحلل فكيه بنور سيخرج من مدينة يقال لها دمشق ومن حوران ومن حمص ومما جاور حلب ليقع في القدس ويستقرّ في المسجد .وقالوا سيولد فينا مهدي وتنبث فوق عرشه سبع سنابل من ذهب وتحت قدميه تولد سبع بقرات سمان من العسجد .
لا يهمّ ...لا يهم ...استيقظ "يقظان يحلم" وجعل يفرك عينيه ويسأل المجتمعين حوله :"ما الذي حدث ؟ أين أنا ؟؟"
ضحك الجميع وقال له أحدهم :" في سدرة المنتهى" ومن يومها و"يقظان يحلم" يلعن من سمّاه ويسب زمانه ويسفه الدّهر .
توفيق بن حنيش 
4 سبتمبر 2015


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى