الأحد ٣ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم محمد يوب

يموتون وتبقى أصواتهم

يعتمد أسلوباً مدهشاً يساهم في توريط المتلقي في طريقة التلقي والتأويل

يتساءل القاص السوري عمران عز الدين في مستهل مجموعته القصصية الموسومة بـ (يموتون وتبقى أصواتهم )على لسان القصة القصيرة جداً، التي تشعر بضيق وسط زحمة أجناس أدبية أخرى كالقصة القصيرة والرواية، متأثرة بالإهمال و الاحتقار الذي يتسبب فيه القارئ، لكن هذا التساؤل سيتوارى وراء العمق الفكري والحمولة القوية التي تحملها القصة القصيرة جداً، مقارنة مع هذه الأجناس التي أصبحت لا تواكب العصر، نظراً لاستغراقها في تفاصيل الأحداث، والاسترسال في الوصف وتتبع الشخوص والشخصيات، بطريقة تبعث على الملل.

إنّ القصة القصيرة جداً في نظر عمران عز الدين تلتقط المَشَاهِدَ الاجتماعية وتعبر عنها بدقة متناهية بأقل عدد من الكلمات،لأنه كلما ضاقت اللغة اتسع المعنى وأصبح شاملاً معبراً عن حركية الشخصيات من خلال لغة القص، المعتمد على الأفعال التي تنهض في الزمان والمكان، متتبعة حركية ونفسية الشخصيات المتوترة والتي تزيد من توتر الأحداث، بلغة تتحرك من اللفظة إلى التركيب ثمّ إلى التعبير متضمنة حمولة فكرية تعبر عن وعي جمعي جماعي، تكون فيه الرؤية إلى العالم شمولية تتداخل فيها أصوات متنوعة محدثة صراعاً جدلياً بين الشخصيات المؤثثة لفضاء القصة.

فالقاص يعمل من خيال الصور والأخيلة على ابتكار لغة خاصة تعبر بها الصوائت والصوامت، حيث يصبح للقصة لسان، تعبر به عن إهمال القراء لها واهتمامهم بالقصة القصيرة جداً التي أسالت كثيراً من مداد النقاد مبرهنين على أهميتها ومكانتها في تتبع حركية الأشخاص داخل النسيج الجمعي والجماعي، وكأننا أمام طريقة جديدة اعتمدها القاص لأنسنة الأجناس الأدبية وجعلها تتكلم كما يتكلم الإنسان، وتعبر بتلقائية عما تعانيه من مشاكل مؤلمة ومدمرة.
ويستمر القاص في الترويج لسلعة جديدة وهي القصة القصيرة جداً التي بدت في بدايتها غريبة، تعرضت لمضايقات متعددة من طرف الأجناس الأدبية الأخرى، إلى درجة أن القاص قال بأن أجناس أخرى احتفلت بمهرجانات متعددة، بينما بقيت القصة القصيرة وحدها منكمشة في البيت:

(احتفلت الرواية والقصة القصيرة والشعر بعيد ميلادها... بينما بقيت القصة القصيرة جداً في المنزل لأنها لم تتلق بطاقة دعوة ) قصة " مقتطفات ثقافية من صحف المعارضة " ص11. وهذا أسلوب آخر اعتمده القاص لأنسنة الجامد، وعقلنة اللامعقول وفي هذا رغبة في إثارة اهتمام المتلقي بطريقة أو بأخرى، إلى مكانة القصة القصيرة جداً ودورها الهام في مسايرة أحداث العصر ذات الوتيرة السريعة وخير ما يواكب هذه السرعة وهذه الوتيرة على مستوى الإبداع هو القصة القصيرة جداً.

و الحقيقة في اعتقادي أن القصة القصيرة ليست منعزلة أو مفصولة عن الأجناس الأدبية الأخرى، إنها تتقاطع مع كلّ هذه الأجناس الأدبية، فتأخذ من الرواية أسلوب الحكي، ومن القصة العقدة والصراع، ومن المسرحية الحوار، إن جمال القصة القصيرة يكمن في شغبها، في حركيتها، في انشغال الناس بها، إنها تبدو كالنملة في أذن الفيل كما قال الأستاذ عبد الله المتقي، فبالرغم من قصرها فإنها تؤدي معاني متعددة، وكثيرة هي القصص التي أدت معان عميقة وذات دلالات متعددة لا تقدر كتب التاريخ على تأديتها.

وهذا ما يظهر لنا من خلال هذه المجموعة القصصية التي تضمنت قصصاً ذات بعد فكري ورؤية إلى العالم متصفة بصفة الشدة والتعقيد المفضيان إلى خلق تصورات وحلول ممكنة للمجتمع :
(سال الطفل أمه :

ـ ماذا يعني الوطن ؟

ردت عليه أمه ساهمة :

ـ بيت اكبر من بيتنا) قصة " الوطن " ص15.

بل أكثر من هذا فإن القاص يعتمد أسلوباً مدهشاً يساهم في توريط المتلقي في المشاركة في طريقة السرد وفي كيفية اختيار القفلة الممكنة، بل أكثر من هذا يورطه في طريقة تلقي وتأويل هذه النصوص القصصية :

(ضجَّ سكان القرية من السرقة المتكرّرة لمحاصيلهم، فقصدوا المختار...... ندد وهدد واستنكر.... فجأة هبت عاصفة، طوحت بورقة المختار، ورمت بها بعيداً ) قصة " مخاتير أمام العواصف " ص18.

وفي هذه القصص يشعر القارئ بمدى تأثر القاص بالأحداث الإقليمية والوطنية فصاغها أدباً، بأن أضفى على السياسي صفة الأدبي، وذلك من خلال ما سماه جاكبسون بأدبية العمل الأدبي أي ما يميز الأدب عن أنواع الخطابات الأخرى، كالخطاب السياسي والاجتماعي... وهذه الأدبية هي التي تعطينا رونقه وجماليته، كما أنه نقل الخطاب من مستوى الجدية في تناول المواضيع إلى صياغة قالب جديد يمزج بين الضحك والبكاء، الضحك على المشهد الهزلي والبكاء على ما آل إليه الإنسان، وما وصلت إليه الإنسانية عامة، حيث أصبح الحمار أهم من الإنسان :
(لإنهاء العمل بالسرعة القصوى، قرّر أحد الأثرياء أن يستأجر مائة حمار لنقل مواد بناء عمارته الجديدة..... لكن مالك الحمير طلب منه أجراً باهظاً، وبعد تفكير عميق، عدّل الثري عن فكرته الخائبة، واستأجر خمسين عاملاً بنصف تلك الأجرة) قصة " استئجار حمير " ص19
ـ البنية الفنية و الجمالية :

عند تتبع القصص المشكلة للمجموعة القصصية (يموتون وتبقى أصواتهم). نلاحظ إنها تدخل في إطار الأسلوب السهل الممتنع، حيث إن المتلقي لا يشعر بغرابة في اللفظ ولا في المعنى، وإنما يشعر بالكلمات ترج ذهنه وتخلخل أفكاره وتدفعه إلى اليقظة وتحري تراتبية الكلمات وتسلسلها المنطقي، خوفاً من القفز على المعاني وبالتالي ينفرط معها عقد المعنى وتزول لذة القراءة، ولهذا ينبغي على القارئ عدم الاكتفاء بمظهر النصوص، بل لابد من اختراق النص وتفكيكه لمعرفة أبعاده ودلالاته، لابد من اعتماد قراءة متأنية للنصوص وتقليبها إلى أوجهها المختلفة، من أجل السير بشكل متواز مع أبعاد القاص ورؤيته إلى العالم، هذه الرؤية التي تتصف بصفة التناقض و الصراع الجدلي، الذي ينهض ويتحرك في إطار سيرورة تتقاطع مع الواقع في ديناميته التي تسير مرة في اتجاه عمودي وأخرى في اتجاه أفقي، هذا التنويع في الرؤية يساهم في تحريك الركود داخل المجتمع والحث على التفكير العميق في الأشياء، ومحاولة إيجاد الحلول الممكنة لتفادي المعيقات و المثبطات.

والملفت للانتباه أن القاص نوّع في اختيار الجمل حيث أنه يتنقل في فضاء القصة بين الأفعال الماضية لنقل الأحداث من زمن الوقائع إلى زمن القص : (كتب عبد الستار مذكراته فهاجم الجميع، إذ كتب عن فساد المسؤولين)ص49، واعتمد كذلك على أفعال المضارعة التي تعطي للمشهد القصصي حركية ودينامية في فضاء القصة :

( الضابط :

ـ نحن نندد...نشجب ...نستنكر....

المواطن الغيور :

ـ وهم يضربون...يدمرون...يحتلون

الضابط :

ـ نحن نساوم ..نهادن

المواطن الغيور :

ـ وهم يخترعون ...يخططون) قصة " نحن وهم " ص61

ويتحرك المضارع سوياً مع حركية الحوار التي تعطي للقصة صفة الواقعية الممزوجة بالتخييل المفضي إلى المستقبل، هذه العملية التي تساهم في خلق رؤية شمولية تشارك فيها كلّ العناصر المشكلة للقصة، إذ لم يعد القاص هو وحده من ينتج الفكر وينتج الإبداع، بل أصبح للمتلقي دور كبير في تحديد الرؤية واقتراح التصورات الممكنة بواسطة عملية التلقي و التأويل، لأن النص ليس بريئاً، فبمجرد خروجه إلى ساحة القراءة يصبح ملك القراء جميعاً، وكلّ واحد يؤوله بالطريقة التي تلائمه، ولكن بشرط ألا يكون التأويل تعسفياً، لأن عملية التعسف في القراءة تعمل على بتر النصوص والدخول في تأويلات تقتل العمل الأدبي.

أما من حيث البناء، فإن القصة القصيرة جداً في المجموعة القصصية (يموتون وتبقى أصواتهم) تمد رجليها شيئاً ما وتكسر قاعدة الحجم التي سطرها بعض منظري القصة القصيرة جداً، حيث نجد بأن بعض القصص في المجموعة تبدو طويلة شيئاً ما لكنها تبقى في النهاية قصصاً قصيرة جداً رغم القفز على هذا التحجيم الذي يعتبر من بين الوصايا الخاطئة التي يؤمن بها بعض كتبة القصة القصيرة جداً الذين يتقيدون بمسالة الطول والقصر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى