إطلالات تربويّة من شبابيك الوطن
الإطراء والحرمان منه وأثرهما المستدام – بين فدوى طوقان وإبراهيم نصر الله
سَنُطِلُّ اليوم عبر شبابيك نابلس على طفلة من مواليد سنة 1917 اسمها فدوى طوقان، وعبر شبابيك مخيّم الوحدات للّاجئين الفلسطينيّين في عَمّان على طفل من مواليد سنة 1954 اسمه إبراهيم نصر الله. منذ صغر فدوى برز لديها ميلها الفطريّ إلى الشّعر وكذلك لدى إبراهيم. كلاهما كتب عن طفولته؛ فدوى في سيرتها الذّاتيّة "رحلة جبليّة رحلة صعبة" وإبراهيم في روايته "طفولتي حتّى الآن". في كلتا الرّائعتين برزت حاجة الطّفل/ة لتلقّي الإطراء والتّشجيع، فأثر الإطراء، حتّى وإن كان بمثابة ملاحظة عابرة من شخص عزيز كما تكتب فدوى، قد يشكّل علامة فارقة في حياة الطّفل/ة تترسّخ في الذّاكرة على مرّ السنين وقد يكون تأثيرها الإيجابيّ مستدامًا.
كانت للطّفلة الطّالبة فدوى طوقان حياة في بيتها وحياة في المدرسة، أو بالأحرى حياة جبليّة صعبة في بيتها، وحياة نابضة بالحياة في مدرستها. تكتب فدوى عن معاناتها داخل الأسرة بقولها "لم تكن الظروف الحياتية التي عاشتها طفولتي مع الأسرة لتلبي حاجاتي النفسية، كما أن حاجاتي المادية لم تعرف في تلك المرحلة الرضى والارتياح[...]. لقد ظللت أتلهف للحصول على دمية تغمض عينيها وتفتحهما، وكنت أستعيض عن دمية خرجت من مصنع بدمية تصنعها لي خالتي أم عبد الله أو ابنة الجارة علياء من مزق القماش وقصاصاته الملونة". وتضيف "حتى تلك الدمى توقفت عن التعامل معها منذ زجرتني أمي بقولها: "«مسخك الله، كفاك انشغالًا بالدمى، لقد كبرت». كنت يومها في الثامنة من العمر، منذ ذلك اليوم لم أحتضن دمية[...]". لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، فتضيف: "أما بنيتي فكانت عليلة منهكة بحمى الملاريا التي رافقت سنين طفولتي. وكان شحوبي ونحولي مصدراً للتندر والفكاهة وإطلاق النعوت الجارحة علي: تعالي يا صفراء، روحي يا خضراء[...] كانت تلك التسمية تجرح إحساسي إلى درجة كبيرة[...] كنت أتلهف للحصول على حب أبويّ واهتمام خاص وتحقيق رغبات لم يحققاها لي في يوم ما". وهل من صعوبة تفوق حرمان الطّفلة من الحبّ والحنان داخل البيت؟! وهل من صعوبة تفوق استهتار الأهل بمرض ابنتهم وإطلاق النّعوت القاسية عليها؟! هذه المعاملة كانت ستكسر ظهر الكثيرات والكثيرين من الأطفال، لكن ليس ظهر فدوى. كيف استطاعت هذه الطّفلة الصّمود ومن ثَمّ الانطلاق في حياتها وفي شعرها ونثرها؟ لفدوى فضل أوّل على نفسها في ذلك، فتكتب "كيف استطعت، في حدود ظروفي وقدراتي، ان أتخطى ما كان يستحيل تخطيه لولا الإرادة والرغبة الحقيقية في السعي وراء الأفضل والأحسن، ثم اصراري على ان أعطي حياتي معنى وقيمة أفضل مما كان مخططا لها". ينطبق على فدوى مثلنا الشّعبيّ القائل "الضّربة اللي ما بتكسِر الظّهر بِتْقَوّيه"، فَروحُ هذه الفتاة، رغم لحظات الانكسار التي مرّت بها، كانت أبيّة، وتؤكّد ذلك حين تقول "بتواضع غير كاذب أقول إن هذه الحياة[...] لم تخل من عنف الكفاح[...] وقصّتي هنا هي قصة كفاح البذرة مع الأرض الصخرية الصلبة؛ انها قصة الكفاح مع العطش والصخر".
لكنّ ذلك وحده لم يكن كافيًا في صيرورة انطلاقتها كإنسانة وكأديبة. في سيرتها الذّاتيّة تؤكّد فدوى على أنّ الحنان عنصر أساسيّ في الجوّ الذي يتمّ فيه النّموّ، سواء في البيت أو في المدرسة، وتضيف أنّه لا يمكن أن تتحقّق الصّحّة النّفسيّة السّليمة من دون حنان. لكي تصمد هذه الطّفلة وهذه الرّوح كانت في أَمَسِّ الحاجة إلى الحنان والدّعم من بيئتها. رغم ظروف عيشتها اللاإنسانيّة داخل أسرتها فقد حالف الطّفلة، ثمّ الصّبيّة فدوى، الكثير من الحظّ في المدرسة وبعض الحظّ في البيت. وفي سيرتها تذكر فدوى فضل الكثيرين عليها وعلى صمودها وتطوّرها على المستوَيَين الشّخصيّ والأدبيّ. كُتِبَ الكثير عن الدّور المحوريّ الّذي لعبه أخوها الشّاعر إبراهيم طوقان في مسيرتها كإنسانة وكأديبة، وسوف نخصّص إطلالتنا القادمة لهذه المرحلة من حياة الأخوين فدوى وإبراهيم. لكن هناك مرحلة هامّة في حياة فدوى سبقت هذه المرحلة. كانت فدوى حتّى سنّ الثّالثة عشرة طالبة في المدرسة العائشيّة في بلدتها نابلس، وقد شكّلت هذه المدرسة نموذجًا معاكسًا لنموذج الأسرة، فكانت بمديرتها ومعلّماتها بمثابة دفيئة آمنة للطّفلة الطّالبة فدوى. تكتب فدوى في هذا الشأن: "وفي المدرسة تمكنت من العثور على بعض أجزاء من نفسي الضائعة. فقد أثبت هناك وجودي الذي لم أستطع أن أثبته في البيت. أحبتني معلماتي وأحببتهن[...] لا اذكر ان واحدة من معلماتي تركت في نفسي ذكرى جارحة أو أثرا لمعاملة سيئة على مدى السنوات القليلة التي أمضيتها في المدرسة. لقد أشبعت المدرسة الكثير من حاجاتي النفسية التي ظلت جائعة في البيت. أصبحت أتمتع بشخصية بارزة بين معلماتي وزميلاتي".
بيد أنّ ثمّة حدثًا واحدًا مفصليًّا تَذْكُره فدوى بشكل تفصيليّ في سيرتها الذّاتية. كانت هذه الطّالبة تصل إلى مدرستها سيرًا على الأقدام كسائر الطّالبات والطّلاب والمعلّمات والمعلّمين في نابلس في عشرينات القرن الماضي. وبذكائها، كانت تتعمّد توقيت انطلاقها في الصّباح من البيت إلى المدرسة مع توقيت أحبّ معلّماتها إلى قلبها السّتّ "فخريّة الحجّاوي"، معلّمة اللّغتين العربيّة والإنكليزيّة، والتي كانت أيضا أختًا بالرّضاعة لشقيق فدوى الشّاعر إبراهيم طوقان. كانت فدوى تسعد وتفخر في سيرها إلى جانب السّتّ فخريّة وفي الحديث معها. وخلال سيرهما معًا في أحد الصّباحات الرّبيعيّة الدّافئة حدّثَتْ فدوى معلّمتها عن قصيدة جديدة لأخيهما إبراهيم، وفي هذه اللحظات اغتنمت المعلّمة فخريّة الفرصة وأطرت فدوى وشجّعتها بقولها "لماذا لا تتعلمين منه نظم الشعر؟ انك تملكين الموهبة ولا ريب في ذلك، فالقاؤك للمحفوظات الشعرية يؤكد لي هذه الحقيقة انك تحبين الشعر". يبدو أنّ هذه الملاحظة كانت مفاجِئة وصادمة لفدوى، فكانت ردّة فعلها التّلقائيّة السّريعة تجاه السّتّ فخريّة استحالة ذلك. أمّا بينها وبين نفسها فقد اختلف الأمر كلّ الاختلاف. شكّل إطراء وتشجيع السّتّ فخريّة أحد الحبال الّتي تشبّثت بها الطّفلة فدوى المقهورة في بيتها وداخل أسرتها لكي لا تسقط على أحد صخور الجبل فقد يكون السّقوط مميتًا. بل أكثر من ذلك، فقد مكّن هذا الحبل الطّفلة فدوى من رفع رأسها عاليًا لترى نفسها واقفة على قمّة جبل الشِّعر إلى جانب أخيها الشّاعر إبراهيم طوقان وإلى جانب الشّاعرة العراقيّة رباب الكاظمي الّتي كانت لها مكانة خاصّة في قلب فدوى، فتكتب عن ذلك "وبالرغم من ردة الفعل السريعة لديّ كانت التعبير عن استحالة ذلك، فان عقلي الباطن التقط الملاحظة العابرة بسرعة البرق، واحتفظ بها في اعماقه الخفية، وهذا مما لا شك فيه، فقد ظلت الفكرة تتحرك وتعمل عملها في لاواعيتي كدينامو لا يتوقف. صرت أنام وأصحو على هذه الرؤيا. ورحت في يقظتي أرى بعين خيالي قصائدي التي لم أكتبها بعد منشورة في الصحف، تماماً كما تنشر قصائد إبراهيم ورباب الكاظمي[...] وهكذا فان ما نفكر به ونطمح اليه يصبح في النهاية جزءاً منا. والغرابة في هذه الأمور النفسية ان محركها وباعثها من قرارة الأعماق غالبا ما يكون كلمة عابرة او حادثة بسيطة لا قيمة لها".
لسنا ندري هل بقيت هذه "الملاحظة العابرة" في ذاكرة السّتّ فخريّة أم لا، لكن ما لا شكّ فيه أنّ ذلك الصّباح الدّافئ وتلك "الملاحظة العابرة" انطبعتا في ذاكرة فدوى ووجدانها، وعندما كتبت سيرتها الذّاتية في العام 1985، بعد مرور نحو خمس وخمسين سنة على تلك "الحادثة البسيطة" كان ذلك الحدث حاضرًا شامخًا في السّيرة كما معلّمتها المُطْرِيَة السّتّ فخريّة الحجّاوي.
أمّا من النّاحية الأخرى، فتقول فدوى "إن المشاعر المؤلمة التي نكابدها في طفولتنا نظل نحسّ بمذاقها الحاد مهما بلغ بنا العمر". وكأنّها بذلك لم تكتب عن نفسها فحسب، وإنّما عن كثيرات وكثيرين، ومن ضمنهم إبراهيم نصر الله. فقد كانت تجربة الطّفل إبراهيم نصر الله المدرسيّة في مخيّم الوحدات للّاجئين الفلسطينيّين في عَمّان على العكس من تجربة الطّفلة فدوى طوقان في نابلس، فبينما تمكّنت فدوى في المدرسة من العثور على بعض أجزاء من نفسها الضّائعة، وإثبات وجودها الذي لم تستطع إثباته في البيت، فقد صارحنا إبراهيم نصر الله بقوله "لطالما عانيتُ من المعلّمين الذين عاصرْتُهم وتفنّنوا في عَصْرِ روحي حينما لم يصدّقوا أنّني كاتب تلك القصائد التي كنت أحملها إليهم فَرِحًا وأعود حزينًا في كلّ مرّة. لا أتذكّر معلّمًا واحدًا وقف إلى جانب مواهبنا المحاصرة بالفقر وعذاب المخيّم ويُتْمِنا في شتاتنا". قال إبراهيم هذا الكلام وهو في السّادسة والسّتّين من عمره، وبالتّحديد في الرّابع والعشرين من أيّار سنة 2022 عبر كلمة مصوّرة بين عَمّان وحيفا في أمسية بعنوان "نتذكّر – زيتونة الجليل تكريمًا لمسيرة شاعرنا الكبير حنّا أبو حنّا (1928 – 2022)". وقد يسأل سائل عن العلاقة بين تجربة إبراهيم في طفولته وبين زيتونة الجليل حنّا أبو حنّا. سنعود إلى هذه النقطة بعد قليل. بعد هذه الأمسية بنحو شهر قرأتُ رائعة إبراهيم "طفولتي حتّى الآن" الصّادرة في شهر نيسان 2022 وفيها انكشفتُ على تلك "التّفانين" المذكورة أعلاه، وبالأخصّ من الأستاذ ربيع الذي كان يتّهم الطّالب إبراهيم بالكذّاب في كلّ مرّة كان يكتب فيها نثرًا أو شعرًا أو أغنية. ففي إحدى المرّات الّتي طلب فيها الأستاذ ربيع من طلّابه كتابة موضوع إنشاء في أيّ شيء يختارونه، اختار إبراهيم كتابة قصيدة. وكان العقاب مُدوّيًا، إذ توجّه الأستاذ إلى الطّفل إبراهيم بسؤاله الاستنكاريّ مطلقًا حكمه قائلًا "ألا تُفرِّق بين النّثر وبين الشِّعر؟ ثم إن هذه قصيدة قصيدة، فمن أين استنسختَها؟ أمِن كتاب؟ أم كتبها لكَ شخص كبير؟". وعندما قال إبراهيم للأستاذ "أنا مَن كتَبها"، أجابه الأستاذ ربيع "كذَّاب[...]"، وبعدها يقول إبراهيم إنّ الأستاذ "كتب في زاوية ورقتي بخط أحمر كبير: صِفْر".
ولكن كان هذا الطفل، شأنه شأن فدوى، إصراريًّا وكان صاحب بصيرة وتفكير ناقد، فيقول "إنّ عدم تصديق الأستاذ أنني كتبتُها يعني شيئًا واحداً، أنني كتبتُ شيئًا جيدًا، وأن آخذ صفْرًا بسببها، فهذا أجمل صفْر في حياتي". نعم، مثلُ فدوى التي صمدت أمام الظّلم في بيتها، صمد إبراهيم أمام الظّلم في مدرسته. لم يكن وحيدًا في صموده أمام الظّلم كما لم تكن فدوى. فرغم صعوبات الحياة في المخيّم ووحله ومدرسته، كان من حظّ إبراهيم أنّ له خارج المدرسة أكثر من سندٍ ومُطرٍ، وخصوصًا مجموعة الأصحاب، وفي مقدّمتهم نور، توأمُ روحه، التي قالت له بعد قراءة ما كتب "أنا متأكدة أنكَ شاعر، حتى لو لم تكن تعلم[...]"، ومن خاله محمود ومن موظّف مكتبة أمانة العاصمة وحتّى من وزيرة التربية والتعليم... وليس المقصود هنا بوزيرة التربية والتعليم الأردنيّة، وإنّما بالسّيّدة عائشة نصر الله والدته التي انتزعت هذا المنصب لنفسها بجدارة في بيتها وفي عائلتها الموسّعة. قد تكون لنا إطلالة مستقبليّة على هذه الأمّ-الوزيرة وعلى أخريات من الأمّهات العربيّات الرّائدات.
إبراهيم نصر الله، "الطّفل حتّى الآن" ابن السّادسة والسّتّين، الكبير بتواضعه، "بطل الملهاة الفلسطينيّة" كما عرّفته عريفة حفل تذكُّر حنّا أبو حنّا، الأستاذة رنا أبو حنّا، ليس أنّه لا يزال يتذكّر تجربته المدرسيّة بألم وحسرة فحسب، وإنّما شاركنا، نحن جمهور الحاضرين في ذلك المساء، بأمنية لها علاقة بالرّاحل الباقي الأستاذ حنّا، فيقول: "كنتُ أتمنّى أن أجلس بين يديّ الكبير حنّا أبو حنّا طالبًا وأنا في السّادسة من عمري أو في بداياتي، محاولاتي كتابة قصائدي الأولى ورواياتي الأولى في نهايات المرحلة الإعداديّة ومطلع المرحلة الثّانويّة، ولكنّني حُرِمتُ من هذا، وكم من أشياء حُرِمْنا منها منذ عام النّكبة". ولماذا حنّا أبو حنّا بالذّات؟ يقول إبراهيم "قرأتُ في البداية عن علاقة حنّا أبو حنّا بشباب شعر المقاومة، ثمّ سمعت فيما بعد منهم عن تلك المكانة العالية التي كان يحتلّها في نفوسهم وكنت أغبطهم على محبّته لهم ورعايته وما يكتبه عنهم بمحبّة الوطن وكَرَم الغيمة وظِلّها ومطرها أيضا". هذا الحبّ وهذه الرّعاية الّتي حرمه معلّموه في المدرسة منها. ويضيف هذا الطّفل البالغ المثقّف "كنتُ أتمنّى هذا وأقول لنفسي ربّما كان يمكن أن أكون كاتبًا أفضل لو حدث هذا". إحساس إبراهيم هذا مشابه جدًّا لإحساس رافقه في بدايات سنوات السّبعين من القرن الماضي حينما كان طالبًا في معهد المعلّمين التّابع لوكالة غوث وتشغيل اللّاجئين الفلسطينيّين، (قبل نحو 48 سنة تقريبًا)، فيكتب في "طفولتي حتّى الآن" أنّه في تلك الفترة كان يتقدّم في الكتابة وقد جمعته علاقة مع الدّكتور عبد الرّحمن ياغي، فكانا يعقدان جلسات مستمرّة في بيت الأخير، ويقول عنها إبراهيم إنّها "فتَّحتِ الكثير من النوافذ في عقلي وهو يحدّثني عن الأدب وتنوّعه، ويبدي ملاحظاته الدقيقة حول كلّ كلمة أكتبها بلطف يجعلني أفرح لوجودي معه. لم يجرِّح قصيدة لي، بحيث أحسستُ لو أنه كان أستاذي منذ الطفولة لكنت الآن شاعرًا شاعرًا".
بتواضعه اللّافت يعي هذا الكاتب الكبير أهمّيّة دور المعلّم في نفس الطّالب وفي دفعه قدمًا في تطوير مواهبه، ويعتقد لو أنّ معلّميه في طفولته كانوا من أمثال الدكتور عبد الرّحمن ياغي والأستاذ حنّا أبو حنّا لأصبح شاعرًا وكاتبًا أفضل وفي وقت مبكِّر.
بدأنا إطلالاتنا هذه في زيارة لفدوى، لأنّ لفدوى رسالة من وراء كتابة سيرتها، فقد عبّرت عنها من خلال إجابتها عن سؤال استنكاريّ مفاده "اذن، لماذا اكتب الكتاب الذي أكشف فيه بعض زوايا هذه الحياة التي لم أرض عنها أبداً؟". وتجيب:
"بتواضع غير كاذب أقول إن هذه الحياة[...] لم تخل من عنف الكفاح[...] فلعل في هذه القصة اضافة خيط من الشعاع ينعكس أمام السارين في الدروب الصعبة. وأحب أن أضيف هذه الحقيقة وهي ان الكفاح من اجل تحقيق الذات يكفي لملء قلوبنا وإعطاء حياتنا معنى وقيمة". وفي هذا السّياق كتب الشاعر سميح القاسم في تقديمه لكتاب فدوى "الكتابة عن خبايا انفسنا تساعدنا في فهم انفسنا[...] وفي الوقت نفسه فان مثل هذه الكتابة تأخذ بأيدي الآخرين على طريق النور، طريق الكشف والتخطي، على المستويين الفردي والجمعي. التنوير – التثوير – التغيير –، هذا الثالوث المتكامل في مهمة إعادة صياغة العالم والحياة".
في إطلالتنا القادمة سوف تُقلع طائراتنا من "المطار الدّوليّ لمخيّم الوحدات للاجئين الفلسطينيّين" لنطلّ عبر شبابيك نابلس وبيروت المشرّعة على بعضها والمزدانة بروح الأخوّة الحقّة وبهواء الشّعر والنّثر، على الأخوين فدوى وإبراهيم طوقان وعلى النّماذج الأصيلة التي ابتكراها في "مدرسة البيت" و"التّثقيف الذّاتيّ" و"بناء الذّات" و"التّعلّم بالمراسلة". عذرًا أيّها الأعزّاء والعزيزات فقد فاتني أن أخبركم بأنّ الطّفل إبراهيم نصر الله، شأنه شأن فدوى طوقان، كانت له رؤى وأحلام، وعليه فقد أنشأ مطاره الخاصّ أمام منزله في المخيّم وزوّده بكلّ ما يلزم. ولغرض تحليق طائرته كان يرفرف بيديه كأنّهما جناحان وينطلق حرًّا نحو بيروت وأثينا والقاهرة وبغداد وروما ومدريد وباريس والجزائر ليرى ويعرف أكثر هو ونور وبقيّة الأصدقاء.
وبحسب لوحة تحرُّك الطّائرات – "لوحة الأحلام" التي بناها إبراهيم على الحائط المقابل لبوّابة بيتهم كتب بالطباشير أنّ بيروت تبعد 300 كم عن مطار المخيّم. إذًا، فرحلتنا قصيرة... وطائرات أطفال المخيّم أصحاب الأحلام لا تكتفي بنقلنا من مكان إلى آخر، بل تطير عبر نفق الزّمن أيضًا، بماضيه وحاضره ومستقبله. في إطلالاتنا هذه لا حدود ولا حواجز عربيّة-عربيّة ولا حدود وحواجز للاحتلال. شبابيك وطننا الكبير من محيطه إلى خليجه مفتوحة على مصاريعها كلّها.
وصلنا للتّوِّ خبرٌ سارٌّ مفاده أنّ الطّيّارين والطّيّارات من أطفال المخيّم المعروفين بكرمهم سوف يعيدوننا في الإطلالة الثّالثة من بيروت إلى المخيّم لنلتقي بالفَدوَيَيْن وبالإبراهيمَيْن (نصر الله وطوقان).
يشرّفني أن نكون معًا في إطلالتينا القادمتين، فطائرات أطفال المخيّم تكفي لنقل الأمّة بأكملها.
ألقاكم/نّ بخير.
إلياس زيدان: محاضر في جامعة حيفا في مجالي القيادة التّربويّة وتنمية منظّمات المجتمع المدنيّ. مستشار تنظيميّ ومخطّط إستراتيجيّ.