الأحد ١٧ تموز (يوليو) ٢٠١١
ردّاً على أدونيس
بقلم المتوكل طه

أبعد من الفلسفة وأوسع من أزمة الذات

ليس جديداً، وليست هي المرّة الأولى التي يغلف فيها أدونيس أزمته الذاتية، أو أزمة محتواه الثقافي، بغلاف من الفلسفة والانتقائية التاريخية، لكنه هذه المرّة سقط، ليس فقط في وحل التناقضات، وإنما في دوّامة اضطرابه الجوّاني، ذلك أنه يدّعي أن كثيراً من المفكرين الذين تناولوا الثورات العربية قد أسقطوا أفكارهم ورغباتهم. لكنه، ومَنْ يقرأ مقاله المنشور في جريدة السفير اللبنانية يوم 13/7/2011، بعنوان "أبعد من النظام وأوسع من السياسة" يكتشف بوضوح أن أدونيس نفسه أسقط أفكاره ورغباته وما يشتهي على ربيع الثورات، التي جعلها خريفاً ينبئ باليباب. وهو بانتقائيته التاريخية سحب حالة على حالة مختلفة تماماً، لأنه يريد للثورات العربية أن تكون نسخة كربونية وحرفية عن صراع الغرب في القرون الوسطى مع الكنيسة الظلامية آنذاك. وإن فكرة أدونيس هذه في جوهرها تريد أن تقول إن بقاء الأنظمة الاستبدادية الحالية أفضل من تغييرها، خاصة النظام في سوريا.

فأدونيس الذي خلط الأوراق بشكل مقصود يريد أن يوسّع مهمة الثورة إلى أبعاد وأمداء تجعل مهمتها مستحيلة، والمستحيل لا يقدم عليه العاقل من الناس.

وما دام الأمر كذلك، فإن أدونيس يريدنا أن نجتثّ المنظومة الفكرية والثقافية التي شكّلت هويتنا العربية، على مدار أربعة عشر قرناً، ليحقق بذلك عملية القَطْع مع تاريخنا وجذورنا. والقَطْع هنا، أيضاً، فكرة مُسْتَجْلَبة من الغرب، وخارجة عن سياقها في مهمتها مع تاريخنا، لأنها تنتمي إلى المرحلة نفسها التي استقطعها من التاريخ الغربي، وهي مرحلة القرون الوسطى.

ومن الواضح أن إغراقه الفلسفي والاصطلاحي لم يخدمه كثيراً، ولم يشفع لأفكاره في تسويق فكرة "الماضي المستمر"، لأن أهم الحقائق المؤكدة في العلوم الاجتماعية هي أن المتغيَّر هو الثابت الوحيد، ولا يوجد ماضٍ مستمرٌّ فكرياً أو فلسفياً، هذه، من جديد، واحدة من سفسطات أدونيس الكثيرة، التي ظهرت جلياً في رسالته السابقة إلى رئيسه "المنُتخَب" وفي مقاله هذا.

وما دمنا في سياق العلوم الاجتماعية، فإن أدونيس، رغم حجمه ومنتجه، يخطئ في أبسط التعريفات المتعلّقة بالمجتمع والوطن والدولة.

فالمجتمع مجموعة من البشر تعيش على أرض لها تاريخ مشترك "ذاكرة جماعية واحدة"، ولها أهداف مشتركة، ولا ينقص المجتمع العربي أي من هذه الأركان. أما قضية التناقضات بين الفئات الاجتماعية، فهي من مظاهر التجمّع الإنساني، فهل المجتمعات الغربية في قرونها الوسطى والحديثة تخلو من التناقضات؟ إذاً، ما هو التنوّع؟

ولا يبدو أدونيس على دراية كافية بالمفاهيم الديمقراطية، لأنه بدأ مقاله بتحديد أن المواطنة أساس الانتماء، وهذه مُغالطة كبرى، فعلاقة الإنسان بالوطن علاقة انتماء، فيما المواطنة في الدولة المدنية علاقة تعاقدية تحدّد الحقوق والواجبات للفرد والدولة.

أما علاقة الإنسان بالدّين، فهي روحية فردية وجماعية، تنسحب عليها مفاهيم الأُمّة، والأُمّة فرد باللفظ، ومجموعٌ بالجوهر. ولا يجوز لأدونيس أن يصوغ على هواه مكوّنات الأمم وثقافاتها، لأنها نتاج تفاعل الفرد/ المجتمع بعوامل هائلة ومتعددة تاريخية غير منقطعة، أو مُسْتَقْطعة على طريقة أدونيس، ولا تكون المواطنة بديلاً للدّين أو متناقضة معه.

وإذا شئت فتعريف المجتمع المدني هو مجموعة المؤسسات والمنظمات التي تنشأ طوعياً بمعزل عن الدولة، والطوعية هنا أساس وشرط، فيما عند أدونيس هي قهرية وغير طوعية.
ومن التعسّف في مقالة أدونيس أن يبدأ بنفي العرب وبإخفاقهم، على مدار تاريخهم، في بناء مجتمع مدني، فالاصطلاح، أساساً، حديث يعود إلى الموجة الثانية من التغيير الديمقراطي في الغرب، فيما هو أصيل وعريق في الفكر العربي الإسلامي، من دولة المدينة المنوّرة والنقاط الإحدى والعشرين التي بدأ بها الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم- وقامت على التعاقد وليس الإِكراه، متقدمة بأربعة عشر قرناً استهزأ بها المفكر الكبير أدونيس، ومروراً بقرطبة والأندلس في أوجها، وكذلك بمرحلة هارون والمأمون ببغداد، وليس انتهاءً بأوسع مفهوم للعدالة الاجتماعية في عهد عمر بن الخطاب وحفيده عمر بن عبد العزيز، إذ إن العدالة الاجتماعية هي الجوهر العملي للدولة المدنية والمجتمع المدني.

والغريب أن أدونيس يمنح الثورات ملامح، ويقوّلها مقولات، ويضع لها دساتير من عنده، ثم يقوم بمحاكمتها على الأساس الذي ألصقه بها. والثورات بريئة من فَهْم أدونيس ومواصفاته التي أسقطها على الثورات! فأين ظهر أن الثورات تمنع أو تشترط ألاّ يكون الرئيس القادم من أقليّةٍ أو طائفةٍ ما؟ هذا لم يكن موجوداً إلاّ لدى رئيسه "المنتخَب" الذي لم يكن سُنيّاً، ولا من الأكثرية، وحكم ثلاثة عقود، وما زال وريثه يحكم، ويعتبره أدونيس مُنتخباً، رغم أن الدستور عُدّل من أجله خلال خمس دقائق! ورغم كل ذلك، يعتبره أدونيس أفضل من الثورة، وهو شرعي باعتباره مُنتخباً! أيُّ منطق هذا؟

الصراع هنا، الذي تفجرّت على خلفيته الثورات العربية، لا يمكن اجتزاؤه بمجرد صراع سياسي على الحُكم والسُلطة، فلم يَسْعَ البوعزيزي للجلوس مكان بن علي في تونس، إنما نهضت الثورات على خلفيّة ظلمٍ وغيابٍ للعدالة الاجتماعية، وتفاعلٍ اقتصاديٍّ وفكريٍّ وثقافيّ يسعى للحرية والكرامة والمساواة. إن تغيير الحاكم لم يكن أولاً، ولم يكن هدفاً إلاّ بمقدار ما يحقق غيابه حضور الحقوق واسترجاع الفضاء الحرّ والعدالة والديمقراطية وتغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولم يكن الدّين سبباً في مكوّنات القَهْر والظُّلم وبيع الثروات للغرب والانكسار أمام قوة الاستكبار، بل قامت به أنظمة استبدادية فاجرة تبنّت العلمانية، وأكبر نموذج على ذلك بورقيبة والبعث وعبد الناصر وآخرون. ولا أراني مجافياً للحقيقة عندما أقول إن العلمانية، في واقع التجربة، في تونس وسوريا والعديد من الأنظمة العربية والغربية كانت فكرة طاردة للآخر. وعندما رفعت الثورات العربية شعار الدولة المدنية أدركت بوعْيها وليس بتنظير "المفكرين المتغربنين" أن الدولة المدنية هي دولة لا تخدم الاختلاف فقط، وإنما تؤصل له، وتقبل بممارسته، وهي بالتالي تصهر التنوّع الاجتماعي في هوية وطنية واحدة تحتكم إلى علاقة تعاقدية تقوم على قانون المواطنة.

وفي ترحُّم أدونيس وبكائه على ضحايا الثورات الحالية والسابقة، إنما يريد أن يقنعنا بأنه لا جدوى إطلاقاً من هذه الثورات! وهذا لا يخدم سوى النظام الاستبدادي العربي، لأن ذلك تعميق لليأس والعبث. وكيف لا يدرك أدونيس، المفكر، الفرق بين الثورات التي قام بها العسكريون العرب، وهي انقلابات، وما يحدث الآن.

إن ثورة عبد الناصر والحركة التصحيحية للأسد الأب لم تكونا، أصلاً، إلاّ قهراً للثورة الحقيقية التي كانت تغلي في عمق الشارع العربي، إثر إقامة دولة الاحتلال وهزيمة سنة1967، وكان ما قامت به الأنظمة، آنذاك، اعتراضاً للثورات التي حبلت وتخمّرت في بطن الأرض العربية.
أما ما يجري الآن، فهو تحوّل بلغ معياره، وفاض بملايين الهاتفين في الشوارع، وليس مجرد مجموعة من العساكر الانقلابيين الذين يريدون "التغيير" بقرارٍ خارجيٍّ أو داخليّ.

إن هؤلاء الملايين لا يبحثون ولا يسعون للجلوس على مقاعد الحُكم. ويبدو أن أدونيس لم يعرف شيئاً عن عِلم الثورات، لأنه في بُرْجٍ بعيد، لم تصله الصرخات، ولم ينخرط في حمأة واجهة أو ثورة مباشرة، أو بالأحرى يريد أن يرى ما يُريد!

وبكل المقاييس التي تناولت فكر الثورات ونظريتها، فإن ما يجري في العالم العربي هو أكثر اتساعاً من الصراع على السُّلطة، بل يؤسس لتحوّلٍ هائلٍ وعميقٍ وواسعٍ في الواقع المحلي والإقليمي والدولي، ويضع الشعوب العربية في وجه غاصبيها المحليين والإقليميين والدوليين. ولا تخدم أفكار التيئييس التي يروّجها كاتبنا إلاّ هؤلاء، ولا غرابة في أنه لم يضع البديل، بقدر ما أخذ روح الثورات وأدبياتها، وأعاد صياغتها في ختام مقالته، لتكون مداخلته "ونصائحه النظرية" للثورات.

وفي دفاع أدونيس عن حقوق الأقليّات وهويتها سقط في خطأ منهجي في مسألة تتعلّق بالديمقراطية، لأن جوهر الديمقراطية يقوم على سُلطة الشعب، بغضّ النظر عن فكره وعقيدته وجنسه ولونه، وأدونيس بذلك ضيّع الأكثرية والأقليّة عندما شطب حقّ الأكثرية، ووضعه بصيغة متناقضة مشتبكة مع الأقلية، فيما هو في الحقيقة يرجع إلى العلاقة التعاقدية بين الأفراد والدولة، فالمواطنة قانون يحتوي الجميع.

إن القهرية في نموذج الديمقراطية الغربية مسألة فكرية شائكة، ما زالت ميداناً للنقاش والحوار والنقد بين المفكرين؛ ليبراليين ديمقراطيين وديمقراطيين غير ليبراليين.
وإنَّ سَحْب هذه المسألة على الثورات العربية، التي لم تؤسس نموذجها الديمقراطي بَعْد، هو استباق في غير محله.

أما اكتشاف أدونيس المتأخر لأحقيّة الفرد في التديّن واللاتديّن، فنذكّره بقول القرآن الكريم: "مَنْ شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، وقوله أيضاً: "لا إكراه في الدين". وإذا كانت الحرية قيمة عُليا، فإن الاعتقاد هو أيضاً قيمة عليا. وتسقط الحرية كقيمة عندما تُسْقِط حقّ الآخر في الاعتقاد، وإن كان الآخر فرداً أو جماعة .

وبيت العبادة (جامع أو كنيسة أو معبد) ليس مكاناً فقط، وإنما تعبير عن قيمة فكرية وثقافية متجذّرة وعميقة، وجزء من مكوّنات هوية المجتمع. والمسألة ليست فقط في حق الأفراد في التديّن أو الذهاب إلى بيت العبادة، وإنما ثمة قيمة أخرى تكمن في ذلك، وهي احترام قبول الآخر، فرداً وجماعة، بمعنى أن إقامة كنيسة في الجزائر، مثلاً، تعبير عن احترام المجتمع الجزائري للمختلف وللآخر، كما أن مَنْع بناء مئذنة في بلد غربي دليل على عدم قبول الآخر والمختلف.

إن اللاتديّن سلوك، وليس قيمة، ويقع في هامش الحريات.
إن المكفول في الأصل هو فكر المجموع، والمحمي هو فكر الفرد أو الأقليّة، وهذه قاعدة في أي نظام ديمقراطي. فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان يتحدّث عن ضمان وحماية حقوق الأقليات.

ولا شك لدينا أن المسيحية ليست كنزاً بشرياً فحسب، بل كنز فكري وثقافي وحضاري، ولا يقلّ الإسلام عن ذلك بشيء، أي لا يجوز اعتبار دين كنزاً وآخر ظلاماً وجهلاً ودمويّة! كما لا يحق لصاحبنا أن يحجر على النصّ، وأن يحول دون تحديثه بدعوى النتوءات التي ظهرت والاختلافات التي عصفت بالمجتمع العربي الإسلامي في القرون الماضية، علماً أن "النصّ" الذي لا يعتوره خطأ لم يتيسّر له من يقوم بهذه المهمة منذ حين.

إن صبغ التاريخ العربي الإسلامي بلونٍ واحدٍ هو الدم والعنف والقهر إنما يشير إلى عمى لا ضرورة له، أو انتقائية مشبوهة، فالتاريخ العربي الذي أعطى الحضارة الإنسانية حمولتها المضيئة وكنوزها لم يشهد أن تَخلَّقت في حضنه ظواهر فاشية أو نازية، ولم يقم المسلمون والعرب بإبادة الملايين وقصف القنابل الذرية ومحاكم التفتيش والمكارثية، بل إن التاريخ العربي الإسلامي يشبه تاريخ الحضارات الإيجابية التي أصابت وأخطأت، ولا يجوز اختزال نتاجها بصفة رديئة مسيئة واحدة، تطبعها بالإجرام والتخلف والسواد.

إن الصراع ظاهرة تاريخية، ويعتبره الكثيرون مُحرّكاً للتاريخ، فيما الدمويّة نزعة فردية أو نتاج أزمات اجتماعية اقتصادية، لا تطبع وجه التاريخ لأيّ شعبٍ كان.

ولعل أبشع توصيف ساقه أدونيس ادّعاؤه أنّ الإسلام يجعل المرأة تستحسن عبوديتها! ونتمنّى على أدونيس في هذا الأمر أن يعود إلى النصّ القرآني والحديث الصحيح ليتبيّن مدى إنصاف الإسلام للمرأة، بدءاً بحقّها في الاختيار والعمل والذمة المالية المستقلة، وأنها شقيقة الرجل، وأن نأخذ نصف ديننا عنها.

لقد وقع أدونيس في التنميط وفي تكرار المقولات الجاهزة الظالمة، دون أن يفحص أو يمحّص، لقد تقصّد واستسهل أن يكرّر مقولات غربية استشراقية عن المرأة في الإسلام.
إن أدونيس قد بحث عن تحالف مستحيل بين متناقضين، هما: الثورة كما يراها، والنظام، في مواجهة الدّين والمجتمع، وبالنتيجة تسقط الثورة، ويسقط الدّين، ويُعيد النظام إنتاج نفسه من جديد، ويبقى!

إن لم يكن هذا تعبيراً عن أزمة ذاتية عميقة، فهو استكمال لفكْر البعث الاستئصالي العنيف. فالعنف ليس فقط بالدبابة والراجمات والدّوْس على جثث الشهداء والتمثيل في الأطفال، وإنما بهذا النوع من الفكر الاستعلائي الاستئصالي.

ومن التناقض في مقالة صاحبنا أنه أحياناً يأخذ بالأكثرية عند حديثه عن الديمقراطية، وأحياناً ينسف مبدأ الأكثرية. لقد حيّرتَنا يا سيدي!

وليس من البراءة أن ركّز أدونيس في مقاله على الحوار الذي جرى في دمشق، واختصر المعارضة السورية في الذين اجتمعوا فقط في حضرة نائب الرئيس! وتجاهل كل الملايين في المدن والقرى، وحراك الشرفاء في الداخل السوري وخارجه، لأن هذا الحوار الشكلي هو أحد وسائل النظام، جنباً إلى جنب مع الدبابة والرصاص والسجن، لاحتواء الثورة ومحاصرتها وقمعها.
ونسأل: لماذا لم يذكر أدونيس البطش المهول والمرعب للنظام؟ ولماذا ينتقد الثورة، ويذهب بها إلى الجدار المُغلق؟! ولماذا يريدنا أن نتمسّك بالشاه بدلاً من الثورة الإسلامية حليفة رئيسه؟!

من كل ما مضى يظهر أن أدونيس يحاول الدفاع عن رئيسه غير المنتخب وعن نظامه المجرم، ويريدنا أن نأخذ بنصيحته غير الخالصة بأن الاستبداد أفضل من الثورة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى