الاثنين ٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٤
بقلم مكرم رشيد الطالباني

أربع خرزات

كنتَ قد أستيقظتَ من النوم، وكنتَ تفكر فاليوم عطلةٌ رسميةٌ بسبب إجراء الإنتخابات التمهيدية، فلم تقُمْ منذ فترة بضبط ضغطِ إطاراتِ سيارتكَ، ستذهبْ وتمرّ من أمام المصرف، حيث يوزعون الرواتب في ايام العطلِ ايضاً، إن وجدتَ زحاماً هناكَ فتعرج لتستلمَ راتبُكَ، ومن ثم ستتوجه إلى محل تبديل زيت السيارات لتضبطَ ضغطَ إطاراتِ سيارتكَ.

أرتديتَ ثيابكَ فسألتكَ زوجتكَ إلى أين تذهبَ، وبعد أن أجبتها، مددتَ يدكَ إلى مفتاح السیارة ثمّ خرجت من الدار. كانت السيارة البيضاء أمام الدار كأنها حصانٌ شُدّ سَرجُهُ، حينَ لَمَحَكَ بدأ يصهَلُ، ضغطْتَ على الريموت كونترول فأنفتح البابُ، ثمّ ضغطتَ على زرّ البونيط فتناهى إلى مسمعكَ صوتٌ، حينما رفعتَهُ وجدتَ ماء الراديتر وقد تناقصّ، أتيتَ بقارورة ماء لتسكب فيه حتى أمتلأ، لتغلقَهُ، ثم أغلَقْتَ البونيط.

أدرتَ المفتاح، فأشتغلتِ السيارة وأنتطرتً حتى تسخن المحرّك قليلاً، تحرَكْتَ للخلفِ حتى تستديرَ وتُقابلَ الشارع، ووصلتً إلى الشارع الرئيسي الذي لم يكُنْ مزدحِماً كالأيامِ السابقةِ، إزدحام الصباح الذي يحدُثَ في هذا الشارع وعند هذا المنعطف أيام الدوام الرسمي، فلمْ تمضِ أكثر من ربع ساعةٍ، حتى دلفتَ إلى مرآب السيارات قرب المصرف، لمْ تكُنْ لتركُنَ هنا قبل الآن أكثر من صفين من السيارات، كان يجبُ أن تدفعَ نقوداً عندما تركنَ سياراتكَ، لكن الآن أصبحَ مجاناً، لذا تجد المرآبَ يزدحمُ بالسيارات ولن تجد مكاناً تركنُ فيه سيارتكَ، ووصلتً إلى الجدار الخلفي لَتَجِدَ مكاناً خالياً، ورجعتَ للخلفِ لتركنَها هناك.

أسرعتَ إلى الفناء الخلفي للمصرف، لم يكُنْ هناكَ مراجعينَ كُثُر ليشكلوا زحاماً، سألتَ الحارس عن توزيع الرواتب، ردّ عليكَ بالإيجاب فأخرجتَ الهوية من جيبكَ فتسلمها منكَ وأرسلها مع هوياتٍ أخرى إلى الموظفينَ في داخل المصرف، ولم تمضِ دقائق حتى نادوا عليكَ فدخلتَ وتسلمتَ راتبك في دقائق وعددته وأطمأنتَ أنه كاملٌ لتوضعَهُ في جيبكَ وتخرج.
عندَ المرآب أدرت مفتاح السيارة لتشغلها وتنطلق، ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى وصلتَ إلى محل تبديل زيت السيارات، لتقفَ قربَ جهاز النايتروجين، عندها أقبلَ مساعدٌ أبكمٌ ليضبطَ ضغط هواء الإطارات الأربع لسيارتكَ، والتي كانت نقصتْ هواؤها بفعلِ كثرة السير، وقد طلبتَ منه أن يملأ قارورة ماء الماسحاتِ أيضاً.

وقتما وصلتَ إلى البيت، بدّلتَ ثيابَكَ وفكرتَ قبلَ أن تذهَبَ إلى الدوام المسائي في مؤسستكمُ التي لا تشملها معظم العُطَلُ الرسمية، أن تقومَ بتغيير مصباح سقف غرفة الطابق الثاني، كي تكونَ الغرفةُ أكثر إضاءةً، فأتيت بالبلايس والشريط اللاصق والسكين والمصباح مع سلمٍ متحركٍ صاعداً للطابق الثاني. كان الواير الذي قد تم تركه لذلك المصباح سارباً دون أن يُلَفّ بشريطٍ لاصقٍ، كان وايراً عريضاً یحوي ثلاثة أسلاك، السالب والموجب والأرضي، فجربته وتعرّفْتَ على السالب والموجب وتركتَ الثالثَ جانباً، فقلتَ في نفسكَ كمْ كان الأمرُ سهلاً للغاية، لماذا لمْ أقم بتركيب هذا المصباح من قبلُ.
كان رأس الواير قصيراً بعضَ الشيء، ولمْ يكُن ليتم ترهيمه بالبلايس، وكنتَ تريدُ أن يكونَ طويلاً بعضَ الشيء، لتستخدمَ السكين، ولمْ تنتبه في تلك اللحظة حتى جرحتَ أصبعكَ الوسطى بالسكين وتناهى إلى مسمعكَ صوتُ الجرح، كان الجرحُ يؤلِمُكَ جداً، وتدفقَ الدّمُ غزيراً، فصمدتَ وضغطتَ على الجرحِ لتشدّهُ بالشريط اللاصق الأبيض بقوة. حتى أكملتَ عملكَ وقمتَ بتركيب المصباح.

حين أكملتَ عملَكَ أزَلْتَ الشريط اللاصق لتتأكد من حجم الجرحِ، ولم تكدِ الدماء لتَتَوقفّ، أرادت زوجتكَ أن تعالج الجرحَ، فأحرقَتْ قطعةَ قماشٍ بالية لتقوم بوضع بقاياها على الجرح، فلم تتكون منها بقیة تكفي لتغطية الجرح، فأضطررتَ أن تأتي ببعض القطنِ لتضعهُ على الجرحِ، وبعد أن مسحتَ موضِعَ ما يحيطُ به، قمتَ تشدّهُ بالشريط اللاصق الأبيض بشدة.
تناولتَ طعام الغداء كيفما أتفق، وركبتَ سيارتكَ البيضاء لتصلَ إلى المؤسسة التي تعملُ فيها، ولمْ يكن الجهاز يتعرّفُ على وجهكَ، فتقدمتَ قليلاً إلى الأمام وعدتَ للوراء، وأخيراً قام الجهاز بإظهار صورتكَ على شاشته، ودخلتَ بناية المؤسسة لتجد مسؤولكَ موضحاً له ما حدثَ لكَ لتستأذنَ منه وتتوجهَ فوراً للمستشفى.

كان الشارعُ الرئيسي مزدحماً، وقد مضى وقتٌ طويلٌ حتى وصلتَ إلى قسم الطواريء القديم، ركنتَ سيارتكَ في المرآب ودخلتَ القسم، أخبروك بأن القسم مخصصٌ للباطنية فقط، وأرسلوكَ إلى قسم طواريء الشرق، فأنطلقتَ مرةً أخرى ووصلتَ إلى إشارة المرور وجدتَ أربعة صفوفٍ من السيارات تقفُ هناك، لم تكن لتعرف لماذا تسير كل هذه السيارات في يوم العطلةِ هذا في الشوارع، يجب على الناس في مثل هذا اليوم أن يستريحوا في المنزل، ليس أن يركبَ كلٌّ منهم سيارته ويخلقوا الزحام في الشوارع. حينَ أضاءت الإشارة الخضراء أنطلقتِ السيارات كالسيل العرمرم، بدوركَ وصلتً إلى حيث قسم طواريء الشرق، فلم يسمح لك حارس الباب في البداية بإدخال سيارتكَ إلى المرآب فعزمتَ أن ترجعَ للخلف، فأشار إليكَ بالدخول إلى المرآب الأقرب.

أسرعتَ إلى قسم الأحداث، وكانت الشمسُ قد غرِبَتْ وقتها، كان هناكَ أحدُ الموظفين، يجلسُ على كرسيٍ خلفَ مكتبِ يجتمعُ حوله عددٌ من المرضى، وكان هناكَ مرضى في الردهة القريبة، وأناس ومراجعونَ يأتون ويذهبون، أخبرتَ الموظف بأنّكَ جرحتَ أصبعكَ بالسكين، تريدُ أن تداويه وتضمدهُ وتخيطَهُ، أخبرَكَ بدوره أن ليس في قسمهم طبيبٌ خاص لخياطة الجروح، عليكَ أن تراجعَ قسمَ طواريء الغرب.

لم يبقَ أمامَكَ أي حلٍ آخر، فأسرعتَ إلى سيارتكَ، كانتِ الشمسُ قد غرِبتْ وقتها، فشغَلْتَ سيارتِكَ وأنطلقتَ، عَلِمَ الحارسُ رأساً وأردف قائلاً أحالوكَ إلى قسم طواريء الغربِ، أجبتَهُ ومن ثم أختلَطْتَ بزحام سيارات الشارع. كانت عشرات الأسئلة تدورُ في ذهنِكَ، أين يذهبُ هؤلاء الناس في هذا المساء ليخلقوا هذا الزحام، على كلٍّ لقد مضتْ فترةٌ ما حتى أجتزتَ أحد الأنفاق وإحدى إشارات المرور، كلّما مرّ الوقت كان الشارع يزدادُ ظلمةً وأكثر زحاماً، كان الباعة المتجولون يحتلون جانبي الشارع، وهم يبيعونَ الخضار والفواكه، فيما كان المشترون يوقفون سياراتهم ويسألون البائعة عن أسعارها ويبتاعون الفواكه، كان بعض الباعة قد أقاموا مظلاتٍ لإتقاء الشمسِ والحرّ، وكان البعض منهم ركنوا سياراتِ تحملُ الخضار والفواكه جنبَ الرصيف، في وقتٍ كان بائع الوقود يعرِضُ عدداً من دبات النفط جنبَ الرصيفِ، ناهيكَ عن باعة الأطعمة المتجولون على جانب الشارع ذي الإتجاهين.

هذه هي المرّة الأولى التي تحتاج فيها إلى مراجعة مستشفى طواريء الغرب، أستدرتَ من الشارع الرئيسي لِتَقٍفَ قربَ مستشفى مستفسراً عن موقع مستشفى طواريء الغرب، أرشدكَ أحد العاملين، وكان عليكَ أن تستديرَ والوصول مجدداً للشارع الرئيسي وتنعَطِفَ هناكَ نحو اليسار حتى تصِلَ إلى مستشفى طواريء الغرب، التي تطلُّ على الشارع الرئيسي.
كانت هناكَ صفوفٌ من السيارات مركونةً أمام مبنى المستشفى، حيث ركنتَ سيارتكَ في زاويةٍ ما، متجهاً نحو بوابة المستشفى، مستفسراً من الحارس حيث أخبرَكَ بالدخول فوراً. كانت هناك موظفتان خافرتان تجلسانِ خلفَ مكتبِ، أخبرتهما بأنك جرحتَ أصبعكَ بالسكین، قامتِ الموظفة الجالسة على اليمين بتدوين أسمكَ على بطاقتين وأعطتكَ بطاقةً لتأتيَ بإستمارة تدونُ فيها كافة المعلومات، أستفسر منكَ الموظف عدداً من الأسئلة المتعلقة بالإسم والعنوان والعُمُر ورقم الهاتف، مدوناً تلك المعلومات وقام بختم الإستمارة وتسليمها لك.

سلمتَ الإستمارة للموظفة الخافرة التي أخبرتكَ أن تستلمَ من الصيدلية إبرة وتسير على الخط الأزرق كي تصلَ إلى الطبيب الجرّاح. أخبروكَ في الصيدلية بعدم وجود هذا النوع من الإبر لديهم، يجبُ أن تشتريها من الصيدلية خارج المستشفى، خرجتَ من المستشفى وأبتعتَ تلك الإبرة الصغيرة بخمسة وعشرين الف دينار.

عُدْتَ، فلاحَظْت خطوطاً صفراء وحمراء وخضراء وزرقاء، فأتبعتً الخط الأزرق بعضَ الوقت، وأنعطَفْتَ يميناً، ووصلتَ إلى غرفةٍ العمليات الجراحية، فتَحْتَ الباب ودخلتَ بادراً بالسلام حيث قام الطبيبُ لتُرِيَهُ أصبِعكَ المجروح.

بعد أن بادركَ بالسؤال وأجبته، أردْتَ أن تزيل الشريط اللاصقِ الذي شددْتَ به الجرح، تدفقَتِ الدماء فمَسَحتَ بعضها وتَمدّدتَ على سريرٍ طبيٍ، حيث وضَعَ الطبيبُ قطعةَ قماشٍ طبيٍ بيضاء تحتَ كفّكَ ذو الأصبعِ المجروح.

فروجتَهُ أن يستخدمَ المخدر، ليطمئنكَ بأنه سيتستخدمه أثناء خياطة الجرحِ كي لا تشعرَ بالألم، وفي تلك الأثناء حينَ كانَ يُخيطُ الجرحَ، كُنتَ قد نسَيتَ الجرحَ وألَمَ أصبعِكَ، حيثُ فتحتما بابَ دردشة طويلة حول عطلة ذلك اليوم وإزدحام الشوارعِ بالسيارات، وحتى بعض مواضيع الساعة، حتى أنهى خياطة الجرحِ بأربعةِ خرزات.

فشكرتهُ على ما قام به وعدتَ إلى الموظفة الخافرة، التي أخبرتْكَ بوجوب زرق ساعدكَ بإبرة والعودة بعد أسبوع لإخراج خيوط الجرح. عندها حضرتِ الممرضةُ وزرقتْ ساعدكَ بالإبرة، لِتُلَملِمَ أغراضكَ وتستعد للعودة، وقد أبديتَ شكركَ للموظفة الخافرة والممرضة، وعدتَ في ذلك المساء المتأخر إلى حيث تركنُ سيارتُكَ البيضاء.

ومن ثم أخرجتَ هاتفكَ النقال لتلتقِطَ صورةً لأصبعِ يدكَ اليسار الملفوف لتنشرها على تطبيق السناب جات، وكنتَ ترددُ مع نفسكَ: وهذه هي ماجريات المصباح والسكين ويوم العطلة!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى