أسرار انتحار خليل حاوي
ما زال انتحار الشاعر خليل حاوي غداة الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982 سراً يتوّج حياته وشعره في آن واحد. قيل الكثير عن هذا الانتحار وأعاده بعضهم الى الهزيمة العربية الجديدة بُعيد الاجتياح، لكنّه لا يزال عصياً على التفسير وغامضاً أو ملغزاً. وما يزيد من غموضه أن الشاعر حاول الانتحار مرتين أو ثلاثاً في سنواته الأخيرة وفشل. وكان في تلك السنوات وحيداً جداً، خائباً خيبات عدة، شخصية وقومية، متوتراً ومتألماً لأسباب شبه مجهولة. وكان بدأ يلمح طيف الشيخوخة يلوح في الأفق المغلق، مهدداً إياه، هو الشاعر النبيل والمترفّع.
قد يُظلم خليل حاوي إن فُسّر انتحاره تفسيراً سياسياً وقومياً فقط. الخيبة السياسية سبب ضئيل من أسباب أخرى تراكمت حتى أغلقت كلّ المنافذ في وجهه. وجاء الاجتياح ذريعة أخيرة لينهي شاعر «نهر الرماد» حياته. خرج الى الشرفة وأطلق النار على نفسه. طبعاً لم يكن خليل حاوي قادراً على أن يبصر جيش العدو «يختال» في شوارع بيروت. كانت تلك اللحظة بمثابة الشرارة التي ألهبت النار في تلك الروح المهيضة.
كتبت القاصة العراقية ديزي الأمير التي كانت حبيبة خليل حاوي خلال سنوات، إنه كان يعاني مرض «الصرع». بعض الأهل والأقارب كانوا يقولون إن ورماً في الرأس كان يوقعه في حالات من التوتر والألم، وكان من الصعب إزالته بجراحة. مثل هذه الأقاويل لم تكن إشاعات مع أن الشاعر العزيز النفس لم يكن يبوح بها لأحد مؤثراً مواجهة المرض وحيداً ومكابراً. لكنّ قصائده القصيرة التي كتبها قبيل سنة أو سنتين من رحيله المأسويّ تشهد على ما كان يلمّ به من أزمات نفسية وقلق وأرق وكآبة وخيبة... وأولى تلك الأزمات تمثلت في عجزه عن الكتابة وكأنه كان يشعر في طويته ان الشعر خانه واللغة خانته: «فاتني الإفصاح/ أدركت محاله...» يقول. أزمة الورقة «البيضاء» التي آلمت كثيراً شاعراً فرنسياً هو ستيفان مالارمي عاشها خليل حاوي في أيامه الأخيرة، هو الذي كان شديد الإعجاب بهذا الشاعر ودرّس في الجامعة نظريته «الخلق من عدم». وحلّت هذه الأزمة في مرحلة مأزومة من حياته. فالشاعر الذي أضحى سريره «من إبر» كما يقول، بات «يبلو طوال الأمسيات السود/ صمتاً يتلوّى، صرعة تطول». يا لهذه الليالي التي عاشها خليل حاوي وحيداً، مهيضاً، خائباً، صامتاً... حتى صراخه أصبح كتوماً، أخرس، لا يسمعه أحد، لا من قريب ولا من بعيد: «طال صمتي/ مَن تُرى يسمع صوتاً صارخاً/ في صمته/ يسمع صوتي؟»، يقول أيضاً في إحدى القصائد الأخيرة. وكان من الطبيعي أن يهجس الشاعر بالانتحار، في غمرة هذه المأساة المتعددة الوجوه، مأساة الجسد والروح، مأساة الشعر والوجود، مأساة الحياة والقدر... لم يبق لدى الشاعر ما يحلم به، لم يبق من أمل ولو ضئيل. خانته المبادئ العليا، خانته العروبة وخانه الشعر وخانه الوطن والجسد والروح. ولم يبق أمامه إلا ليقول: «فلأمت غير شهيد/ مفصحاً عن غصّة الإفصاح/ في قطع الوريد...». كم تعبّر هذه الأسطر الشعرية عن مأسوية الحال التي بلغها الشاعر، ذلك «السندباد» الذي خذله العبث والعدم بعد جولته الطويلة في ليل النفس والوجود. الشاعر التموزي خذلته أيضاً «شمس الحصيد» وحطمت الريح نايه الحزين. وها هو «العازر» يرفض الحياة والقيامة ويسقط في قبره يائساً وموحشاً: «عمّق الحفرة يا حفار...».
في الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل خليل حاوي لا بد من طرح سؤال ملحّ: ماذا بقي من شاعر «نهر الرماد»؟ هذا السؤال طُرح كثيراً من قبل وكانت بعض الأجوبة عليه قاسية. الشعراء العرب الشباب نادراً ما يقرأون خليل حاوي، بل إن بعضاً من هؤلاء يعتبرون أنّه دخل «متحف» الحداثة والعروبة منذ أن انطوت «صفحة» القومية العربية وغدت نتفاً من الذكريات. شعراء آخرون ينتقدون مشروعه الشعري «الحضاري» الذي طالما ناءت به قصائده، حتى أمست قصائد أفكار ومواقف لا علاقة لها بالحياة والذات الانسانية. ويأخذ شعراء «تفعيليون» على شعر خليل حاوي رتابته الايقاعية وثقله الموسيقي وخلوه من الرقة والغنائية... هذه آراء يصعب تجاهلها اليوم خصوصاً بعدما أصبح حاوي بلا مريدين ولا تلامذة وبعد أن يكاد أثره يختفي من المعترك الشعري الراهن. أضحى حاوي حاضراً في أذهان فئة من النقاد الأكاديميين، وبعضهم درسوا عليه جامعياً، أكثر من حضوره في وجدان الشعراء الشباب.
لكن انحسار ظلّ خليل حاوي شاعراً قد لا يكون مأخذاً عليه، فهو واحد من الشعراء الذين رسخوا ثورة الشعر الحديث، وقد ابتدع لغته ورموزه ومشروعه الشعري – الحضاري الخاصّ متأثراً بشعراء عالميين كبار. ويجب عدم تناسي وجهه الآخر المضيء وجه الناقد الحصيف والعميق والمثقف. وأعماله النقدية التي أفاد منها طلابه الكثر تندّ عن وجهه هذا. ودراسته الأكاديمية عن جبران هي من أهم المراجع النقدية في الحقل الجبراني.
إلا أن أجمل قصيدة كتبها خليل حاوي قد تكون انتحاره. هذه القصيدة الرهيبة التي كتبها بالدم والنار جعلت منه رمزاً بل جعلت منه ذلك «البطل» الذي كثيراً ما تغنى به في شعره وكثيراً ما حنّ اليه، «البطل» الذي لا ينتصر فقط على عاهات الحلم القومي العربي بل على عاهات الزمن نفسه. ولعل خليل حاوي انتصر في انتحاره حقاً على كل العاهات التي اعترته واعترت الوطن الذي حلم به. وقصيدة الانتحار هذه لا تقلّل من قوة قصائده الأخرى، بل تزيدها متانة ونزقاً.
يقول الشاعر الألماني نوفاليس: «الفعل الفلسفي الحقيقي هو الانتحار». وانتحار خليل حاوي لا يمكن أن يُقرأ إلا فعلاً فلسفياً حقيقياً، فعلاً شعرياً حقيقياً.
مشاركة منتدى
8 شباط (فبراير) 2014, 21:58, بقلم ayoub affane
اللهم ارحم شاعرنا العظيم خليل حاوي وأسكنه و أسكنا فاسح جناتك
22 آب (أغسطس) 2016, 22:54, بقلم م ر
إذا كان الانتحار فعلا فلسفيا حقيقيا كما تقول فأخاف عليك أن تقدم عليه، وتفعل مثلما فعل حاوي، فتكون في الآخرة من الأخسرين إن كنت مسلما أما إن لم تكن فعليك السلام، وإذا كانت الثقافة توصل إلى هذا الحد فبئس الثقافة عذرا على القساوة ولكنها الحقيقة وانتم تحبون الحقيقة
20 شباط (فبراير) 2017, 21:15, بقلم لعور كمال
هو شاعر سباق في تطوير القصيدة لكن الانتحار يبقى ضعفا و انحدار بلا فلسفة زائدة أو استناد لمقولة غربية مردودة.
22 أيلول (سبتمبر) 2017, 21:17, بقلم صالح الامة
الله غفور رحيم ...نسأل الله ان يرحمه ويغفر له ويحسن اليه...
18 تشرين الأول (أكتوبر) 2017, 12:27, بقلم Bashira
لست أفهم كيف يكون الانتحار هو القصيدة الأجمل ، إلا إذا كان أمثال كاتب هذا المقال يتلذّذون بآلام الآخرين ... اللهم اغفر لنا وارحمنا واختم لنا بخاتمة الصالحين ... فمهما بلغ الأديب حين يقدم على فعلٍ كهذا فإن كلّ أدبه وشعره يكون هباءً منثوراً