الإلياذة
لئن كان صدور ملحمة الإلياذة للشاعر الإغريقي هوميروس في صيغتها العربية الأولى في العام 1904 حدثًا نهضويًّا بارزًا، فإن صدورها في صيغة عربية جديدة، انطلاقًا من اللغة اليونانية مباشرة، هو بمثابة حَدَثٍ معاصر. وقد بدت الترجمة الجديدة أشبه بالاحتفاء بالترجمة الأولى بعد مرور مئة عام على صدورها. واللافت في هذين الحدثين أن القاهرة هي التي أطلقتْهما عربيًّا، ولو أن مترجم الصيغة الأولى لبناني: الشاعر سليمان البستاني. وقد عكف البستاني وحده على تعريب الإلياذة خلال ما يقرب من العشرين عامًا، بينما تضافرت في الترجمة الجديدة جهودُ خمسة مترجمين مصريين، على رأسهم أحمد عتمان، الذي حرَّر الترجمة وراجعها وقدَّم لها. ولكن لا يمكن لنا إنكار ترجمات أخرى أُنْجِزَتْ إبان القرن الفاصل بين هذين التاريخين، مع أنها لم تتم عن اللغة اليونانية، كما يشير أحمد عتمان في المقدمة؛ ومنها ترجمات عنبرة سلام الخالدي (المختصرة، والمناسِبة لمطالعة اليافعين)، وعبد الرحمن حسن فالح (التي اقتصرت على "مقتل باتروكلوس"، صديق أخيلِس)، ودريني خشبة، وممدوح عدوان. وقد تكون ترجمة الشاعر السوري المرحوم ممدوح عدوان متينة على المستوى اللغوي، لكن مشكلتها الرئيسة أنها نُقِلَتْ عن الإنكليزية.
دار العلم للملايين، بيروت، 1975
دار العودة، بيروت، 1999
دار رياض الريس للكتب والنشر
غلاف ترجمة ممدوح عدوان،
منشورات المجمع الثقافي، أبو ظبي، 2002
بعض الترجمات السابقة لترجمة "المجلس الأعلى للثقافة"
تصعب المقارنة فعلاً بين ترجمة البستاني الكلاسيكية والترجمة المصرية النثرية التي تبنَّاها "المجلس الأعلى للثقافة" في مصر: فالأولى صاغها البستاني شعرًا عموديًّا، فيما صيغت الثانية نثرًا، على غرار الترجمات العالمية الكثيرة. إلا أن عتمان لم يتوانَ عن مدح صيغة البستاني، معتبرًا إياها "علامة من علامات الطريق إلى النهضة"؛ وقد كانت سبَّاقة، في رأيه، إلى فتح "مرحلة جديدة من محاولات الاتصال بثقافة الآخر من طريق ترجمة عيون الأدب العالمي".
لكن الترجمة الجديدة أقرب إلى القارئ، ولاسيما القارئ المعاصر، ليس لأنها تعتمد النثر فقط، وإنما لما تضمَّنتْه من شروح وملاحظات جمَّة، عطفًا على المقدمة التي تُعَدُّ مرجعًا مهمًّا لقراءة الإلياذة ومدخلاً إلى عالمها الرهيب والشاسع. وقد ضمَّنها أحمد عتمان أحدث ما توصَّل إليه الباحثون العالميون في حقل الإلياذة والتجربة "الهوميرية" عمومًا. وليس من قبيل المصادفة أن يضع عتمان مثل هذه المقدمة المتعمِّقة والشاملة؛ فهو شاء من خلالها أن يوازي – ولو من بعيد – "المقدِّمة" التي وضعها سليمان البستاني وباتت مضرب مثل، نظرًا إلى ريادتها في حقل النقد الأدبي والأدب المقارن، علاوة على تناولها الإلياذة وهوميروس والحضارة الإغريقية عمومًا والشعرية العربية.
عندما صدرت ترجمة سليمان البستاني في العام 1904 تبنَّتْها القاهرة وكرَّمت الشاعر–المترجِم؛ والتفَّ من حوله حينذاك روَّادُ النهضة الحديثة، من أمثال الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وأحمد شوقي وخليل مطران وإبراهيم اليازجي وجرجي زيدان وسواهم. وكتب الشيخ محمد عبده إلى البستاني قائلاً: "تمَّتْ لك ترجمة الإلياذة، ونسجتْ قريحتُك ديباجة ذلك الكتاب، فإذا هو ميدان غَزَتْ فيه لغتُنا العربية ضريعتَها اليونانية، فسَبَتْ خرائدَها وغَنَمَتْ فرائدَها." ويمكن اعتبار ترجمة البستاني عملاً إبداعيًّا كلاسيكيًّا صرفًا، ينطلق من أنقاض عصر الانحطاط، ليبني، عشية النهضة أو غداتها، عمارةً شعريةً لم يكن للعربية سابقُ عهدٍ بها. فالبناء هنا، وإن انطلق من أصل إغريقي، يظل عربيًّا، أي داخل اللغة العربية وداخل النظام العَروضي العربي. وقد أصرَّ البستاني على تعريب الإلياذة شعرًا عربيًّا، عبَّر عن نزعته الشعرية التي تفجَّرتْ في هذا الصنيع الملحمي؛ فإذا به يتخيل نفسه هوميروس، ينظم أكثر مما يترجم، ويبدع أكثر مما ينقل. وفي هذا الصنيع راح يتفنَّن في الأوزان والقوافي، من غير أن يتخلَّى عن السليقة التي تهيِّئ في نظره جمال الشكل وجمال المعنى في وقت واحد.
ترجمة البستاني
لا بدَّ من العودة إذًا إلى ترجمة البستاني عند قراءة الترجمة الجديدة، على الرغم من أن قراءة الترجمة الأولى، الكلاسيكية الطابع، باتت على قدْر من الصعوبة، تبعًا لصوغها نظمًا و"صناعتها" العَروضية المتينة القائمة على "المماثلة" بين اللغتين، الإغريقية والعربية؛ ناهيك عما تعج الإلياذة أصلاً من أسماء وتواريخ وعلوم قد نَسَجَها البستاني داخل البنية السردية المركَّبة. وقد ضمَّتْ صياغتُه العربية أحد عشر ألف بيت، فيما تتكون الإلياذة من ستة عشر ألف بيت في أصلها الإغريقي.
أما الترجمة المصرية الجديدة، فهي تعتمد النثر في ما يتيح من حرية في التصرف اللغوي والبناء والسرد. ولعل العمل الجماعي الذي قام به فريق من المترجمين المصريين، المتخصِّصين في الأدب اليوناني، ساعد على مواجهة الغموض الذي يكتنف هذا العمل الملحمي الضخم الذي يعود إلى القرن التاسع ق م (أو القرن الثامن، بحسب بعض الباحثين الغربيين) وإلى الصعوبات الجمة والمشكلات المستعصية التي تعتريه، وفي مقدمها تعريب أسماء الآلهة الإغريقية والأبطال والأعلام الجغرافية والأماكن، إضافة إلى الإلمام بمعارف العصر القديم وتقاليده ومعتقداته وبالعلوم التي شملتْها الإلياذة، كالطب والهندسة والفلك وسواها. وقد نمَّتْ الترجمة الجديدة عن جهد كبير، جماعي وأكاديمي، يوازي الجهد الجبار الذي بذله البستاني بدوره، لكنْ فرديًّا. على أن الترجمة الجماعية تظل أشد حرصًا على الدقة والموضوعية، نظرًا إلى ابتعادها عن المزاج الفردي للمترجِم، وعن النظرة "الأحادية" والنزعة الذاتية التي تَسِمُ عادة فعل الترجمة. وما يمكن أخذه على الترجمة الجماعية هو اختلاف الأسلوب أو النَّفَس اللغوي بين جزء وآخر، الناجم عن اختلاف مفهوم الترجمة بين مترجِم وآخر. وبدلاً من أن يمسي العمل المترجَم نصًّا واحدًا، لغةً وشكلاً ومناخًا، يبدو كأنه مجموعة نصوص متعددة داخل النص الواحد. وهذا، بدوره، ما يمنح النصَّ حيزًا أوسع وأفقًا أرحب، ويجعل القارئ أمام نصٍّ أشد ثراءً في "لغاته" المختلفة وأساليبه، ولو فقد النص حدَّته الأسلوبية واللغوية. فالترجمة، أولاً وأخيرًا، أقرب إلى "الاقتراح" النصِّي الذي يقوم به المترجم؛ وكلما تعددت "الاقتراحات" ازداد النص المترجَم إمكانات ومقاربات لغوية وأسلوبية. أما النص (الملحمي) الذي يتصدَّى له مترجِم واحد فهو يتسم حتمًا بخصائص هذا المترجِم، لغويًّا وأسلوبيًّا.
وقد لا يكون مستغربًا اليوم رواجُ العمل الجماعي في حقل الترجمة العالمية، على الرغم من إشكالية هذا العمل. وتكفي مثلاً على هذا الرواج الترجمةُ الفرنسية الجماعية للتوراة (أو "العهد القديم")؛ وقد توزَّع الأسفار عشرون كاتبًا فرنسيًّا، راحوا يترجمونها كلٌّ على حدة، وكلٌّ بحسب لغته الخاصة. وقد صدرت في باريس أيضًا ترجمة جماعية جديدة لرواية جيمس جويس الشهيرة عوليس، شارك فيها مترجمون عدة، تقاسموا أجزاء الرواية، معتمدين خبراتهم الشخصية. إلا أن أهمية الترجمة المصرية الجماعية للإلياذة تكمن في انتماء المترجمين جميعًا إلى "قسم الدراسات اليونانية واللاتينية" في كلِّية الآداب، جامعة القاهرة (أسَّسه عميد الأدب العربي طه حسين في العام 1925). وهذا الانتماء الأكاديمي يعني أن الترجمة الجديدة للإلياذة تميل إلى الطابع العلمي المتصِف بالموضوعية والدقة؛ ويعني أيضًا أنها ثمرة أعوام من التخصص الذي توفرتْ عليه أجيالٌ عدة. أما الذين شاركوا في الترجمة فهم: لطفي عبد الوهاب يحيى، منيرة كروان، السيد عبد السلام البراوي، وعادل النحاس.
بحثًا عن "اللغز الهوميري"
خصَّ أحمد عتمان الترجمة المصرية بمقدمة مهمة، استعاد من خلالها قضية الإلياذة، بل قضاياها المتعددة وأسرارها وشعريتها، وألغاز هوميروس، معتمدًا منهجًا واضحًا، عماده العرض والتحليل والمقارنة. وكان لا بدَّ لأحمد عتمان من أن يواجه أولاً المسألة التي واجهها سليمان البستاني في مقدمته، وهي عدم إقبال العرب القدامى على ترجمة الإلياذة، مع أنهم عرفوها حقَّ المعرفة؛ وقد وَرَدَ ذكرُها مرارًا في الأعمال التي نقلوها عن الإغريقية، ولاسيما فن الشعر لأرسطو. وقد قيل إن حنين بن إسحق، المترجم العربي الرائد، كان يتغنَّى ببعض أشعار الإلياذة في لغتها الأصلية. وتناول الشهرستاني كذلك هوميروس في كتاب الملل والنحل، وعدَّه "من القدماء الكبار الذي يجريه أفلاطون وأرسطوطاليس في أعلى المراتب، ويستدل بشعره، لما كان يجمع فيه من إتقان المعرفة ومتانة الحكمة وجودة الرأي وجزالة اللفظ". ويسأل عتمان، على غرار البستاني: "لماذا لم يترجم العرب القدامى الإلياذة؟" ثم يسعى إلى الإجابة عن السؤال، معتبرًا أن العمل الملحمي هذا يتمثَّل الأسطورة الإغريقية القائمة على التعدد الإلهي الذي لم يكن من السهل تقبُّله إسلاميًّا، خصوصًا أن الإسلام دين توحيدي يرفض الدمج بين الإلهي والبشري، مثلما يحصل عادة في الملاحم والتراجيديات الإغريقية. وفي رأيه أن العرب ما كانوا قادرين على الأخذ بظاهرة التعدُّد هذه، ولم يروا فائدة تُرجَى من تعريب هذه الملاحم. أما البستاني فيضيف إلى السبب الديني سببين آخرين هما: استغلاق فهم اليونانية عربيًّا، وعجز المترجمين المعروفين قديمًا عن نَظْم الشعر العربي. ويشير البستاني إلى أن إعراض العرب عن الإلياذة يفاجئ مَن يلمُّ بآدابهم؛ إذ كانوا من أحرص الشعوب على علوم الأدب وأحفظهم للشعر وأشغفهم بالنَّظْم.
نجح أحمد عتمان في تسمية ظاهرة هوميروس بـ"اللغز الهوميري"، متماشيًا مع أحدث الأبحاث العالمية التي يعرفها هذا الحقل الإغريقي، التي لم تستطع أن تنزع الالتباس عن هذا الشاعر الكبير والمجهول والفريد. فالقراء – كالنقَّاد – لا يعرفون إلا القليل عن هوميروس، ولا يمكن، بالتالي، استخلاص أية معلومة عن سيرته من ملحمتيه الإلياذة والأوديسة. وقد توالت سِيَرٌ عدة لهوميروس منذ القديم، لكنها جميعًا من نسج المخيِّلة. إلا أن ثمة حقيقتين يمكن الأخذ بهما: الأولى أنه كان ضريرًا، والثانية أن جذوره تضرب في جزيرة خيوس، إحدى جزر ساحل آسيا الصغرى. ويقول المؤرخ الإغريقي ثوكيديدِس (455-400 ق م) إن هوميروس عاش بعد حصار طروادة، فيما يقول خطيب روما شيشرون (106-43 ق م) إنه ولد قبل إنشاء روما المتفَّق على أنه كان في العام 357 ق م. وعلى خلاف هاتين المقولتين، أصرَّ بعض الباحثين والعلماء على أن هذا الشاعر لم يوجد كشخص حقيقي وتاريخي[1] وأن اسم "هوميروس"، الذي يعني "الرهينة" أو "الأعمى" (أو الضرير)، اسم منحوت أو مشتق، ابتدعتْه المخيلة الأسطورية أو الشعبية.[2] وقال بعضهم بأن هوميروس هو أكثر من شاعر، وليس فردًا واحدًا؛ وقد التأمت أسماءُ الشعراء هؤلاء في هذا الاسم. ورأى آخرون أيضًا، قديمًا وحديثًا، أن شاعر الإلياذة ليس شاعر الأوديسة؛ ودليلهم على هذا اختلافُ الأسلوبين واللغتين في الملحمتين. وقال باحثون آخرون بأن الإلياذة هي من إبداع هوميروس الشاب، المفعم بالحماسة، فيما الأوديسة نتاج سنوات النضج والحكمة. وينقل أحمد عتمان عن الباحث بورا قوله إنه ليس من الخطأ أن نتكلَّم على هوميروس، سواء عَنَيْنا به شاعرًا واحدًا أو شعراء عدة، باعتباره مؤلِّف هاتين الملحمتين؛ فهما، على الرغم من الفروق بينهما، تخيِّم عليهما روحٌ واحدة.
هكذا اختلفت المواقفُ والآراءُ حيال هوميروس والملحمتين، وما برحت تختلف وتتعارض حتى الآن. ونجمت عن هذا الاختلاف مشكلةٌ تاريخية لا حلَّ لها، على ما يبدو. ولعل هذا ما زاد من أهمية هوميروس وحضوره "الإشكالي"، على الرغم من عظمة الملحمتين وعمق الأثر الذي تركتاه في الأدب العالمي، منذ عصر الإغريق حتى عالمنا المعاصر. فالأدباء الذين تأثروا بهاتين الملحمتين لا يُحْصَوْن؛ ويكفي ذكر فرجيل ودانتي وبتراركا وملتون وشكسبير وغوته، من الكلاسيكيين، وجيمس جويس وكفافيس وإسماعيل قدري، من العصر الحديث. أما الأعمال الشعرية والأدبية التي استوحت أحداثًا من الملحمتين أو "أبطالاً" أو رموزًا، فلا تُحصى بدورها. ولم يصرف أي باحثين ما صرف الباحثون الهوميريون من جهد ومثابرة من أجل ترسيخ الملحمتين وتأريخ "رحلتهما" إلى الأزمنة الحديثة، على الرغم من تعذُّر الوصول إلى النصَّين الأصليين اللذين نَظَمَهما هوميروس. وثمة نظرية تقول بأن الملحمتين لم تدوَّنا في عصر هوميروس الذي لم يكن قد عرف فنَّ تدوين الأدب. وكان من الصعب حتمًا أن تُحفَظا غيبًا ويتناقلهما الناس شفاهًا عبر الأجيال المتوالية، نظرًا إلى طولهما وإلى ما تضمَّان من وقائع وحوادث ومرويَّات. وهاتان الملحمتان هما من أقدم ما وصل العصور اللاحقة من الأدب الإغريقي؛ ومن المرجح أن جذور هذا الشعر الملحمي تمتد إلى تراث الأناشيد الدينية التي كانت تتغنَّى بالآلهة الإغريقية وتناجيها، وهي غالبًا ما كانت تُتْلى في الأعياد والاحتفالات الطقوسية. واللافت أن الملحمتين الهوميريتين لا تتضمنان أية إشارة إلى إلمام الإغريق حينذاك بفنِّ التدوين – هذا الفن الذي لا يجاري أصلاً الطبيعةَ الأصلية للشعر الملحمي، وهي الشفوية. وقد يكون أبرز ما يميِّز هاتين الملحمتين أنهما تندَّان عن ماضٍ طويل وتراث عريق يقبعان وراءهما. وقد أثار السجال القديم والحديث حول الملحمتين قضيةَ عدم نهائية نتاج هوميروس أو عدم إنجازه؛ كما قيل إن أبياتًا ومقاطع أضيفت إليهما على مرِّ السنوات، وإن أبياتًا حُذِفَتْ وأُجرِيَ فيها تبديلٌ أو تغيير. ويرى الشاعر الألماني غوته، في هذا الصدد، أن أتباع هوميروس هم الذين وضعوا الملحمتين في تأليف جماعي؛ لكنه ما لبث أن تراجع عن مقولته هذه بعض التراجع. وقد بلغت حماستُه لهوميروس وشغفُه به مبلغًا جعله يقول: "هوميروس هو توراتنا."
أربك هوميروس الباحثين والعلماء إذًا على كرِّ الحقبات التاريخية؛ ولا يزال لغزه مُحكَم الإغلاق. ويسأل أحمد عتمان في مقدمته: "في مثل هذا المسار المطرد للأشعار الهوميرية، أين يمكن أن يجد هوميروس نفسه؟" ولعل هذا السؤال لا ينفي وجود "هوميروس"، الذي قال عنه أفلاطون: "هذا الرجل علَّم اليونان." وهو يقصد نتاجه حتمًا، وليس شخصه – هذا النتاج الذي اعتُبِرَ في العصور الإغريقية التالية له مصدرًا دينيًّا و"طقوسيًّا" ومرجعًا تاريخيًّا وحجَّة في المنازعات والنقاشات. وقد قال الناقد الفرنسي فرانسوا هارتوغ، أحد كبار الباحثين الهوميريين: "كل شيء يبدأ مع هوميروس بالنسبة إلى الإغريق: إنه الأول والمعلِّم." ويرى عتمان، من جهة أخرى، أن الشاعر الذي جعل الأغاني الملحمية الصغيرة وقصائد الإنشاد الديني ملحمةً كبيرة هو شاعر متأخر ولاحق للفترة التي ظهرت فيها هذه الأغاني والقصائد الإنشادية. وهكذا لا بدَّ من أن يأتي هوميروس في نهاية مطاف الشعر الملحمي المتطور، وليس في بدايته. كما أن من المرجح أن هوميروس لم يعشْ قبل القرن الثامن ق م؛ لكن هذا الترجيح قد يكون مخطئًا: فالإغريق لم يتفقوا على تحديد العصر الذي عاش فيه هوميروس، وإنْ وافقوا على وجوده كمؤلِّف للملحمتين. إلا أن معظم العلماء مُجمِعون على أن حياة هوميروس تقع بين العامين 850 و750 ق م. وإنْ قال بعضهم بأن هوميروس عاصر الحرب الطروادية التي استوحاها ملحميًّا، فإن هذه الحرب، كما يُجمِع الكثير من المؤرخين، وقعت فعلاً في تاريخ يمتد بين 1280 و1183 ق م؛ ولم تكن رواية هوميروس لها أو عنها إلا رواية أسطورية من خلال رؤية شاعرية وملحمية.
الخيال والتعاطف
وسواء وُجِدَ هوميروس كشخص تاريخي أم لم يوجد، وسواء كان شاعر الإلياذة واحدًا أم أكثر، فإن الإلياذة وُجِدَتْ وتناقلتْها الأجيال عصرًا تلو آخر، وكان لها الأثرُ العظيم على آداب العالم. ومن يقرأ الإلياذة يشعر كم أن الشعر فيها قادر على الغوص في أعماق النفس البشرية وعلى ولوج عالم الحياة والموت، عبر لغة قوية وليِّنة، متماسكة وواضحة، في الحين عينه، رمزية وسردية. ولا يستطيع القارئ إلا أن يقرَّ بعظمة هذا الشاعر الذي يدعى هوميروس، وقد وفَّق بين عمق الموضوعات وبهاء الشكل وقوة الأسلوب، مبتعدًا عن التصنُّع والتكلُّف، على الرغم من الطابع البنائي أو التركيبي للملحمة. وكم أصاب الناقد ج. مورَّاي في قوله إن هوميروس نجح في أن يرسِّخ "الخيال والتعاطف" اللازمين للقارئ المعاصر الذي يُقبِل على الإلياذة. فهوميروس يتميز فعلاً بما يسميه النقاد العالميون "البساطة السامية والمباشرة الصريحة".
هذا ويمكن استخلاص أربع صفات يتسم بها أسلوب هوميروس من خلال الملحمة: الدفق والسلاسة، جلاء المضمون، البلاغة اللغوية، والسمو في الكتابة. وهذه الصفات الأربع غالبًا ما واجهت المترجمين العالميين للإلياذة، وكانت لهم بمثابة التحدِّي الذي لا بدَّ من مواجهته، وصولاً إلى صيغة راقية لهذه الملحمة في اللغات المنقولة إليها. وعلى الرغم من الغنائية الهادرة لدى هوميروس، فهو قد عمد إلى التنويع في الأساليب، معتمدًا لكلِّ موقف أسلوبًا يلائمه ويتجاوب معه. وينقل أحمد عتمان عن الناقد كيرك قوله إن لغة هوميروس هي مزيج عميق من أساليب طالعة من أماكن وأزمنة عدة: فهي، أولاً وأخيرًا، "نتاج الموروث الملحمي الشفوي". وقد اكتشف الباحثون وعلماء اللغة طبقاتٍ مختلفة في لغة هوميروس، ووجدوا أن الأبطال الملحميين في الإلياذة ينفرد كلٌّ منهم بما يُسمَّى "لغة" خاصة تختلف من بطل إلى آخر، حتى بات من الممكن الكلام، مثلاً، على لغة أخيلِس ولغة هكتور إلخ. ومن الخصال التي تميَّز بها أيضًا صنيع هوميروس على مستوى البناء: الدقة في رسم ملامح الشخصيات، الدمج بين الحدث البشري والتدبير الإلهي–الأسطوري، استخدام تقنية التشبيه. والتشبيهات لدى هوميروس (وقد بلغت نحو مئة وثمانين وفق إحصاء أحمد عتمان) هي إما قصيرة جدًّا وسريعة، وإما مطوَّلة؛ وغايتها أن تطبع في نفوس القراء أدقَّ التفاصيل. وهكذا تبدو التشبيهات الهوميرية كأنها تكمِّل الفعل الملحمي نفسه.
لا ينتهي الكلام على ملحمة الإلياذة وعن هوميروس، شاعرها "المفترض". فالملحمة هذه لا تسرد ما حصل خلال حرب طروادة وحسب، بل تحلِّل ما حصل، وتصوِّر العالم الذي نشبت فيه هذه الحرب الأسطورية. ولا غرو أن تشمل الأحداث العالم الإغريقي، بدءًا بجبل أولمبوس الشهير والسماء الثلجية، حتى أعماق البحر ورماد الغابات المحترقة، ناهيك عن أعماق النفس الإنسانية في أحوالها المتقلِّبة. وفي عالم الإلياذة تتداخل أعمال الآلهة القديمة وأفعال البشر.
غلاف ترجمة "المجلس الأعلى للثقافة" في مصر
مَن يقرأ الإلياذة في الترجمة النثرية الجديدة يشعر أنه يقرأ، على خلاف ترجمة سليمان البستاني، نصًّا سرديًّا ميثولوجيًّا هادرًا كالنهر. وقد تجذب هذه الترجمةُ القارئ المعاصر، كونها منقولة عن الإغريقية مباشرة، علاوة على تعدُّد المترجمين الذين تضافرتْ جهودُهم بغية تعريبها. إلا أن ما ينقص هذه الترجمة الفريدة هو التنبُّه إلى بعض التراكيب والجمل التي بَدَتْ على قدرٍ من الوهن اللغوي، إضافة إلى بعض الأخطاء، صَرْفًا ونَحْوًا. ففي مطلع الملحمة، على سبيل المثال، يقع خطأ واضح في فعل الأمر: إذ يقول المطلع: "غنِّ لي، يا ربة الشعر..."؛ والصحيح هو: "غنِّي لي، يا ربة الشعر..." فهنا يجب حذف النون تبعًا لفعل الأمر. وقد تكرَّر هذا الخطأ في المطلع نفسه.