الاثنين ١٥ تموز (يوليو) ٢٠٢٤
بقلم صالح سليمان عبد العظيم

أسرار مدرسة ميت العسس!!

منذ أن عُينت في مدرسة ميت العسس. قرية المناطعة. مركز هاموش النار. التابعة لإحدى محافظات الدلتا، وأنا يسترعي انتباهي أحداث كثيرة لا أستطيع فهمها، وفك طلاسمها. تستحيل بمرور الوقت لأسرار غامضة لا يستطيع أحد الاقتراب منها، والحديث عنها وتفسيرها. كل العاملين في المدرسة يتحولون بمرور الوقت لقائمة أسرار طويلة. غامضة ومُعتمة. كل شخص يقابله حدث ما. يقابله سر ما. يقابله غُموض ملتوي غير قابل للتفسير والفهم. قابل فقط للتعتيم والإنكار والتسويد.
الحدث يتحول لأحداث. السر يتحول لأسرار. والأحداث والأسرار تقودك لمتاهات كثيرة متشعبة تفرض عليك القبول بها دون تفكير أو تحليل. دون استعلاء على ما تراه. كن جزءا من المكان. كن جزءاً من الحدث أو كن الحدث ذاته. في النهاية سوف تتحول لسرا مخفيا في مدرسة ميت العسس. لا تناقش!! وأطع!! واقترب!!

ميت العسس نداهة عصرية. تناديك. تُغويك. في النهاية لاتقتلك. تحولك حدثاً. تحولك سراً. تضعك في النهاية في صندوقها الغبي. صندوقها الأسود الغامض. كثيرون سمعوا أسماءهم. تتبعوا صوت النداهة. صوت الغواية. صوت الرغبة المكبوتة في التحقق. أي تحقق لا يهم. أي انحدار لا يهم. المهم أن يمتلأ الصندوق دوما بأسراره التي يتغذى بها على المدرسة والعاملين بها. كل شخص يحمل سره. يحمل عوالمه الخاصة جداً. يمثل جزءاً من صندوق الغواية. يرتمي في أحضان النداهة التي تختار ضحاياها بعناية. غالبا ما ينتهي بهم الحال إلى الموت، أو في بعض الحالات النادرة إلى الجنون. إلا المصطفين الأخيار وهم نادرون جداً. لا تلمسهم النداهة! تحكي لهم. ولهم فقط. عن ضحاياها وأسرارهم الغائرة في أعماق مدرسة ميت العسس، أو تصمت هي وتسمع حكاياهم.

في اليوم الذي أغوتني فيه النداهة، كنت عائداً من عملي في مدرسة ميت العسس. لم يكن عملاً بالمعنى الحرفي للعمل الرسمي الحكومي. كنت على موعد مع باقي المدرسين في المدرسة. نلعب الورق. ندخن الجوزة التي أحبها بشراهة. أيام تكون مجرد معسل فقط. وأيام أخرى مخلوطة بما تيسر وتوافر من خيرات المزاج، مما يُحضره لنا صبي القهوة باتفاق مُسبق. في طريق العودة لا يستطيع المرء أن يرى يده في الظلام الحالك. ولا يسمع أيضا سوى بالكاد صوت خطواته وصوت تنفسه الذي يتصاعد مع كل خطوة، وسط صخب نقيق الضفادع وصرير الجنادب. يصير الهدف الوصول بسرعة للبيت على هدى نور السماء والنجوم، والقمر إذا تعطف وكان موجوداً. أسير في الطريق بحكم الألفة والتعود مثل معظم حمير القرية التي تذهب للحقل وتعود والفلاح نائم تماماً لا يدل على حياته إلا صوت شخيره المرتفع الذي غالبا ما يُضجر حماره.

حكت لي النداهة بصوت أنثوي مائل للرصانة عن قريتنا، وأحوالها، لكنها وقفت بشكل دقيق عند مدرسة ميت العسس واسترسلت في حكاياتها عن العاملين فيها. قالت بعد أن تأوهت بصوت مائل للحكي المغزول بالدلال والوله والحضور الشبقي الغريب إحكي أنت!! جاء دورك!! كان الصوت نفسه هو ساحة الاحتواء، صوت يسحبك بنعومة حالمة، وذوبان قاسي!! تلعثمت في البداية، تراخت أعصابي، استسلمت، وحلمت، وقلت:

لا يعلم أحد من العاملين متى التحقت أبلة رفيعة أبوالخير بالمدرسة. كل وجودها ووقتها في المدرس حالة مخفية تماما. لا يعلم أحد ماذا تُدرس؟ ما هو تخصصها؟ ماذا تقول للتلاميذ؟ ماذا تحشي عقولهم بأسالبيها الخبيثة الملتوية؟ أبلة رفيعة أبوالخير، كانت تتسم بالصمت الذي يلازمها إلا فيما يتعلق بمصالحها القريبة والبعيدة المدى على السواء. وحتى حينما تتكلم تُشعرك بوجود شخصان أمامك، أحدهما يتكلم. والآخر يُلجمها لتحديد ما تقول. وهى نفس صفات والدها. الذي كان مدرساً في المدرسة. واستطاع بطرق مريبة وغامضة تعيينها خلفا له بين عشية وضحاها. ظاهرها غير باطنها تماما، شخصان أو أكثر في شخص واحد. لا تُظهر شخصيتها الحقيقية فقط إلا عند الحديث عن المرتبات أو المكافآت أو الشروع في عمل جمعية. وهو أمر تتسم به قبيلتها المعروفة في عموم زمام القرية.

تتسم أبلة رفيعة بالماكياج الصارخ، ليس في كل الأوقات، خصوصا ذلك اللون الأخضر المحبب لها الذي يمتلأ به فضاء جفونها والذي غالبا ما تضعه حينما يهدأ ضغطها المرتفع دائما، الذي يُحيل وجهها لكتلة من الوهج الغريب. لم يكن الماكياج فقط هو اللافت للنظر بقدر طبيعة ملابسها الضيقة جدا التي تتيح لترهلات جسدها بالظهور، وخصوصا أعلى ذراعيها، وصدمات تضاريسها الخلفية المُكورة بالحضور. وهو ما أشاع الغمز واللمز ليس فقط بين المدرسين الذكور، بل حتى بين الإناث منهم على السواء. كما تتسم أبلة رفيعة بقدراتها الرهيبة على تجنيد الآخرين سواء عبر علاقات المدرسة، أو انفتاحها على العلاقات المنزلية التي تجيد بحرفية غير مسبوقة استثمارها. ظلت أبلة رفيعة سراً غير معلن لا تستطيع الاقتراب منه، إلا فيما يُصب فقط في مصالحها الشخصية الضيقة جدا.

ولم يفق أبلة رفيعة في ماكياجها سوى أبلة ابتهال حسونة، التي يعتقد الجميع أنها كانت تغسل وجهها بالماكياج، لدرجة يستحيل معها الوجه لساحة ألوان عجيبة، ومُبهجة في الوقت نفسه. وحتى حينما قامت بإجراءات تخسيس قاسية ظلت تطالعنا بهذا الكم العجيب من الماكياج، الذي بات باهتا بعد ضياع ألفتنا بطفولة سمنتها، وبهاء وجهها الذي اعتدنا عليه.

وفي المرحلة الانتقالية للتخسيس ظل الجميع يتحدثون عن ملابسها الواسعة التي قيل أنها تمشي بداخلها!! تصمت أبلة ابتهال ولا تتحدث إطلاقا، لا يعنيها ما يحدث على الإطلاق في المدرسة. في بعض الأحيان، يشعر المرء أنها تنام مفتوحة العينين، توفر طاقتها وجهدها. لكنها أيضا عند حديث الفلوس، تجد لها حضورا غير مسبوق، ونشاطاً غير معهود. في أحاديث المال والفلوس تتحول أبلة ابتهال لشخصية بشرية حقيقية، تجدها تحسب وتدقق وتطالب.

قاطعتني نداهة المدرسة قائلة:

 أظنها من أتباع أبلة رفيعة، ومن المشتبكين معها بشكل او بآخر رغم اختلاف الهويات، والتوجهات. لكن طبيعة علاقاتهما تظل أيضا من أسرار المدرسة التي لم أستطع التعرف عليها، وملامسة حدودها.

عدت قائلا:

وتطالعنا أبلة سيدة المسماري هي الأخرى بحضورها الصوتي المخيف، واللافت للنظر، الذي مازلت أتذكر حضوره أول مرة، لدرجة انتابني الذعر بدرجة كبيرة جداً منه. تدخل معلنة عن نفسها من خلال صوتها. تميل للتدخل في كل صغيرة وكبيرة، بشكل يبدو عبثياً وسخيفاً جداً في أحيان كثيرة. وهى كما الحال لدى أبلة رفيعة لها حاشيتها السرية غير المعلنة، التي تدافع عنها باستماتة، وبأشكال بدت لي أقرب للتدخل فيما لا يعنيها على الاطلاق.

وحينما تُعلن خبراً عن شيئ ما أو حدث ما لا يهمها خصوصيات الآخرين. لدرجة أن بعض المريضات من زميلاتها كن يؤكدن عليها في بعض الأحيان عدم الإعلان عن مرضهن بسبب خصوصيته النسائية. رغم أنهن دائما ما يملن إلى إعلان تفاصيل مرضهن مخافة الخوف من الحسد الذي ينتشر بدرجة كبيرة ليس فقط في مدرسة ميت العسس، ولكن في عموم القرية ككل.

قاطعتني النداهة مضيفة:

 صحيح، أوافقك تماما، هكذا المدرسة والقرية أيضاً، الجميع يخاف تماما من الحسد والقيل والقال، فكل يعمل بتخابث بعيداً عن عيون الآخرين، وربما لا يُصدّر سوى الشكايات والأمراض، بحيث تشعر أنك في مستشفى ميت العسس وليس مدرسة ميت العسس!!

عدت قائلاً، وعموما فقد كان من المتعارف عليه بخصوص أبلة سيدة أنها متعهدة الأموات والمرضى في المدرسة. كانت تجد متعة لا تضاهيها متعة في الإعلان عن موت فلانة أو علانة مُحددة ميعاد الدفن وميعاد العزاء بدقة متناهية. أما في المرض فلا يبزها أحد. تُشعرك بثقافتها الطبية. فلانة دخلت المستشفى. العملية بدأت. الحمد لله غادرت حجرة العمليات. الآن في الإفاقة. الضغط ارتفع لكن عاد لقواعده سالماً. المريضة وصلت بيتها بالسلامة!! لا تهدأ إلا وهى تأخذ بيد المريضة افتراضياً وتوصلها لسريرها برعاية الله. لا أعلم حتى الآن، ولا يعلم أحد في المدرسة، وربما في القرية، كيف تحصل أبلة سيدة على مثل هذه المعلومات بالغة السرية. وكيف تستطيع عملية المتابعة الدقيقة هذه لحركة المريضة. لا أحد يعلم، ليظل ذلك سراً من أسرار مدرسة ميت العسس!!

ضحكت النداهة بصوت نبراته محمولة على شطآن الغُنْج، ومراسي الدلال!!

أردفت قائلاً، من بين هؤلاء المدرسات جميعا وجدتني مشدوداً لأبلة شوقية البقلواني. لا أعلم السر حتى الآن. ربما لغرابتها العقلية. ربما لقدرتها الغريبة على حمل عدة أشخاض مختلفين داخلها. ربما للتوترات الهائلة التي ترتبط بملامح وجهها. ربما لتكوينها البيولوجي اللافت للنظر... بصراحة، لا أعلم!! ولا حاولت حتى أن أفهم وأحلل وأبرهن. شدتني الشخصية كما هى. بعَبَلها!! وكثيراً ما كنت أتابعها في طرقات القرية الضيقة بمشيتها الخالية من الأنوثة، ووجهها الشمعي الذي يشبه وجوه الراهبات!!

كانت أبلة شوقية غريبة جداً في طباعها، جادة زيادة عن اللزوم. "زيادة عن اللزوم" هذه سوف تكون حاضرة تماماً في كل ما يتعلق بها. فهى ممتلئة شحيمة لحيمة زيادة عن اللزوم. متوترة ومضطربة زيادة عن اللزوم. نمكية زيادة عن اللزوم. تُربكك بملامح وجهها المتوترة زيادة عن اللزوم. تتحدث عن ادعاءاتها الجوفاء بمصادرة فكرة الزواج زيادة عن اللزوم. تتحدث عن ميعاد زواجها زيادة عن اللزوم. تلوك كلمة زوجي زيادة عن اللزوم. تتحدث عن الأخلاق والقيم والمبادئ زيادة عن اللزوم. كل شيئ يختص بها زيادة عن اللزوم.

يحكم أبلة شوقية جسد متضخم وقصر لافت للنظر، بحيث لا يمكن للمرء سوى أن يصفها بكونها بطيخة لم تنل استدارة البطيخ المعهودة. بطيخة مربعة. أو بقدر أكبر من الدقة بطيخة بها قدر من الاستطالة. فكلما نظرت لها تجد انفلاتات جسدية غريبة. كان من الصعب عليها تماماً أن ترتدي بنطالاً مثل الآخرين، فاكتفت بالجيبات الواسعة، والبلوزات الكتان المحببة لها.

وبسبب تدين انفعالي متوتر غالب عليها، كان من الصعب على المرء وضع معالم محددة لما تحت هذه الأزياء الواسعة بدرجة كبيرة. لكن لا يخفي على مُطلع خبيث، أو مراقب خارجي محايد، أننا أمام بنية جسدية تجاوزت حدود سن الشباب، ودخلت في متاهات الترهل والانفلات. وظلت حدود هذا الجسد سراً غامضاً من أسرار مدرسة ميت العسس.

منذ أن عُينت أبلة شوقية في المدرسة وهى صاحبة مرض. كثيراً ما كانت تصيبها نوبات إغماء فجائية!! فنجد هرجاً ومرجاً في أرجاء المكان. بعض التلاميذ يجرون يميناً، وآخرون يجرون شمالاً. والجميع تنتابه حالة من التوتر، خصوصا أبلة سيدة التي نجد حضورها مكتملاً في مثل هذه الأحداث المرضية.

 ماذا حدث؟ لماذا تجرون هكذا؟ كنت أسأل دائما بلهفة الفضول، ولهفة الخوف أن يكون قد أصاب التلاميذ شيئ ما.
 أبلة شوقية اُغمى عليها!
 أبلة شوقية وقعت فجأة!
 أبلة شوقية أصبح وجهها مائلا للإصفرار الشديد!!

هكذا يقول التلاميذ الجادون، بينما البعض الآخر من التلاميذ الأشقياء الخبثاء يلوك وبسرعة كلماته وهو يجري في أي اتجاه!!

 أبلة شوقية بتطلع في الروح!!
 أبلة شوقية مرمية على كنبة المدرسين!!
 أبلة شوقية عينيها طالعة لبرا!!

هكذا كانت تأتيني الإجابات متواترة سريعة مفككة. فكنت أجدني مندفعاً إلى حجرة المدرسين، عارضاً مساعدتي في أي شيئ يحتاجونه، والفضول يقتلني في أن أرى أبلة شوقية وهى في حالة إغماء!! في البداية كان الحدث يستغرقني أبحث عن أي عطر هنا أو هناك، أو أقوم بنقلها للوحدة الصحية في القرية. وهو نفس الدور الذي تقوم به المدرسات الأخريات على وجه الخصوص. وعلى رأسهم أبلة سيدة، التي تندفع، وهى تفتح حقيبتها، وتُخرج زجاجة العطر وتبدأ في إفاقة أبلة شوقية، بينما تتلو بعض الآيات القرآنية على رأسها.

لم أكلف نفسي بعد ذلك عناء البحث عن أي عناصر إفاقة أو الضغط على سيارتي لحمل هذه الكتلة اللحمية الهائلة والذهاب بها للوحدة الصحية في القرية. الجميع من حولها كانوا يتعاملون مع الموقف كل يوم، وكأنه حدث جديد فريد تماماً، يلهثون يميناً وشمالاً، ويقرأون على رأسها آيات من القرآن الكريم حتى تفيق. يعايشون الحدث كما لو أنه يحدث لأول مرة. لا أعلم أهى حالات خوف حقيقية تنتابهم!! أم قدرة النساء العاطفية الوهمية التمثيلية!! لا أستطيع حقيقة أن أحكم على مشاعرهن الداخلية، وإن كنت من داخلي أضحك بشكل مُستخف على مستوى التعامل الطازج دائماً مع حدث يُعاد بشكل شبه يومي بنفس الطريقة ونفس المشاعر ونفس السلوكيات.

والغريب أن أبلة شوقية كما كانت تقع ويُغمى عليها تفوق بسرعة وتمارس يومها بشكل عادي جداً بدون أي تعب أو إرهاق. مسألة الإغماء والإفاقة هذه كانت غريبة جداً، وسرية جداً، والاقتراب منها محفوف بالمخاطر!! ولولا قدر من الحياء مازال يلازمني كنت بادرت أبلة سيدة متخصصة الأمراض في المدرسة عما تعانيه الأبلة شوقية. لكن استمر الحال لسنوات طويلة جداً، ربما لعقود، وتعودت المدرسة على إغماءة أبلة شوقية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من أحداث المدرسة اليومية مثله تماماً مثل تحية العلم، ومن أسرارها الدفينة.

بدا لى الموقف أقرب للعبثية بسبب اعتياده، حتى هممت بالقول دعوها تقع وتقوم، لكنني بصراحة تراجعت خوفا من القيل والقال، وخوفا من أبلة شوقية التي لا تترك حقها وتردد قائلة بشكل هستيري مضطرب: "حسبي الله ونعم الوكيل فيمن أذاني اللهم بحق جاهك وجلالك وعزتك وعظمتك التي يهتز لها الكون أسألك بعزتك التي يهتز لها العرش ومن حوله اللهم أنصرني على من ظلمني". يكفي فقط أن تسمع هذا الدعاء لتتراجع خشية أن يصيبك شيئ ما أو حتى لا ترجع لأولادك. المشكلة ليست في الدعاء، لكن في طريقتها وهى تقوله، ساعاتها يطالعك وجه آخر رتيب وممل ومخيف، مع تشققات شفتيها الدائم، واللعاب الذي يلاحق طرفي فمها بشكل مقزز. تشعر مع حركة رأسها واهتزازها، وحركة رموشها السريعة جدا أنها تقول تعويذة وليس دُعاء. فإما ترتد بعيدا عنها خائفا مرتعشاً!! وإما أن تردد معها الدعاء، وتقول مع الحاضرين:

 إن شاء الله منصورة. إن شاء ربنا ينتقم لك من هذا وذاك.
 إن شاء الله مجبورة الخاطر.
 إن شاء الله تربحين، ويخسر الطرف الآخر.
 الطرف الآخر هو الخسران يا شوقية، الطرف الآخر هو الخسران، سوف ينصرك الله، سوف ينصرك الله.

"حسبي الله ونعم الوكيل" كلمة السر في المدرسة. طوال اليوم تجد البعض يحسبن على الآخرين، واليوم الذي يليه تجد البعض الآخر يحسبن على مجموعة أخرى وهكذا! تبدو حسبي الله ونعم الوكيل كلمة متوارثة في مدرسة ميت العسس. كليشيه تلوكه الألسنة سواء بمعنى أو بغير معنى، سواء بحق قائلها، أو حتى بظلمه. لكنها تخرج من شفاه أبلة شوقية بحضور متميز، طازجة، دافئة، ذات حضور خاص جدا!! ربما لأنها ترتبط بالطبيعة النمكية لأبلة شوقية، تلك الطبيعة التي تحيل كل شيئ تافه جداً لموضوع جاد جداً، وأى موضوع!!

من المعروف بين أرجاء المدرسة، أن أبلة شوقية أشطر واحدة في أعمال رصد النتائج النهائية للتلاميذ. تتعامل مع كراسات الإجابة، وهى ترصد النتيجة كما لو كانت تتعامل مع القرآن الكريم. بقداسة لا يدانيها أي قداسة. ودائما ما تقول خلال عمليات رصد النتيجة:

خلوا بالكم من الورق.
خلوا بالكم من النتيجة.
لا تسربوا النتيجة، وتخبروا بها حتى أمهاتكم!!
لازم نراجع على بعض.

من سيعمل معها، سوف يدفع ثمنا باهظاً من القلق والتوتر. يمكن أن يظل العمل في مراجعة النتيجة إلى مالا نهاية. ماكينة مراجعة. كل يراجع على كل. وهى تراجع على الجميع. في إحدى المرات سمحت لنفسي أن أسالها استخفافاً بها:

 أليس من الصواب أن نراجع عليك بعد أن تراجعين علينا!!

نظرت لي شذراً، وازدادت شفتيها تشققاً، وانبثق لعابها على حافتي شفتيها، وقالت كلمتها الخالدة:

 حسبي الله ونعم الوكيل!!

ابتسمت نداهة ميت العسس، وأومأت برأسها الذي يحمل شعراً طويلاً فاحماً ناعماً، أن أكمل.

تابعت قائلا:

أظن أنها من ذلك النوع الذي يعيد وضوءه عشرات المرات، إحساسا بأنه ربما نسي ذراع، أو شعر، أو أذن. ذلك الوسواس القهري المسيطر عليها، والذي يجعل العالم من حولها مركزاً للشكوك، ويستدعي دائما "حسبي الله ونعم الوكيل" كأداة لتوخي الحذر واستدعاء قوة علوية تدمر من يحاول فض اشتباكات ومتاهات وتوترات أبلة شوقية. والغريب أنها دائمة المرض، ومن تحسبن عليهم غالباً ما يكونون في أتم صحة وأحسن حال، وهو أمر لم نستطع تفسيره واُضيف لأسرار مدرسة ميت العسس البائسة!!

أومأت النداهة، وداعبتني قائلة بصوت حنون هامس ممزوج بخلاصة رقتها، وهي تبتسم!!

 حسبي الله ونعم الوكيل!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى