

لماذ نكتب؟؟؟!!!
ما الذي يدفع المرء للكتابة؟
يحمل قلمه، يُغامر بأفكاره، يضعها على الورق، يتركها ليقرئها الجميع، لتصبح ملكا لهم، ثم يتحمل هو وزر ماكتب!! ما الذي يدفع المرء للكتابة ثم لمعاودة الكتابة، وهو يعلم تماما أن الكتابة فعل مُجرم ومنبوذ ومرفوض في الكثير من المجتمعات. أهى لعنة تصيبنا؟ أم هى غواية القلم؟ أم هى لذة الكتابة وصناعة الأفكار؟ أم هى كل هذه الأشياء مجتمعة؟
لا أحد يعلم، ولا أحد يستطيع أن يمنحنا سببا قاطعا ومحددا عن دوافع الكتابة والرغبة الجامحة التي تدفعنا لهذا الفعل. فطرح السؤال صعب ومرير ومحاط بالكثير من الشجون والآلام!! المهم أن شخصا ما يمتلك ملكة الكتابة وشخصا آخر لا يمتلكها!! فالكتابة في النهاية، إذا قبلنا بمصائر الله سبحانه وتعالي، رزق من أرزاقه، وفيض من فيوضاته، مثلما هى المناصب والأبناء والأموال والصحة والترقية والشيوع والانتشار والشهرة!! وهى موهبه، مثلها مثل الغناء والرقص والتمثيل والرسم ولعب كرة القدم، فمن يستطيع فليزاولها، ومن لا يستطيع فليبحث له عن شيئ آخر يزاوله!! هكذا هى الحياة!!
ما الذي يدفع الروائيين العرب مثلا لأن يكتبوا رواياتهم في عالم لايحتفي بالأدب ولايعيره أدنى انتباه؟ الروائي منهم يكتب روايته، وينشرها من ماله الخاص، وهو يعلم مسبقا أن لا أحد سوف يقرؤها إلا أصدقاؤه المقربون، ومعارفه، وفي أحسن الأحوال بعض المهتمين بشؤون الرواية والأدب العربيين. ورغم ذلك، يخرج من خسارة النشر هذه، ليبدأ في كتابة عمل جديد، وكأن شيئا لم يحدث، وكأن كل دور النشر العربية تطالبه بالمزيد من الأعمال الجديدة لكى تنشرها له.
تجد الواحد منهم يحمل مخطوطه وكأنه يحمل مولوده الجديد، برقة ووداعة وشوق، يلف به عبر المنتديات الأدبية ممهورا بتوقيعه وإهدائاته إلى أصدقائه المختلفين، سعيدا بهذا المولود، شغوفا بمعرفة آراء الآخرين فيه. وحينما تتعطف عليه وسائل الاعلام بلقاء ما، بين مئات اللقاءات الخاصة بمطربات الكليبات والراقصات والمغنيات وأنصاف الصحفيين ومدعي الصحافة الجدد، تجده يتحدث عن عمله بسعادة غامرة وحنان بالغ، يستفيض في الحديث عن شخوصه، كيف اخترعهم، ما يمثلون بالنسبة له، وكيف تلتقي هذه الشخوص وتتماس مع توجهاته وآرائه الفكرية. ولماذا ينتقد طبقة أو شريحة معينة، ولماذا يفضح فلان، أو علان!! تذكروا مثلا عمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني، رغم بساطتها الروائية، وحبكتها الخطية الساذجة!!
ما الذي يدفع الصحفيين والمفكرين والأكاديميين لكتابة المقالات وتأليف وعرض الكتب، وتنظيم الندوات والمؤتمرات، وهم يعلمون مسبقا أن لا أحد يقرأ لهم، أو يعي وجودهم، سوى نخبة محدودة جدا من العاملين في الصحف الأخرى، وبعض المهتمين بشؤون الفكر والثقافة. يعقد البعض منهم الندوات والمؤتمرات بشغف وحب، يتصل بهذا ويترك رسالة لذاك، تجده يهتم بالمؤتمر، وبموضوعه، وبالمؤتمرين. يدور هنا وهناك، ينسق الأفكار ويختار الموضوعات والمحاور، كما لو كان والد عروس في ليلة زفافها، يهتم بالمدعوين، وبالتفاصيل الصغرى من أجل عيون ابنته. في عالم الفكر والثقافة هناك العديد من الأمثلة على هؤلاء الذين ما زالوا يتشبثون بصناعة الأفكار وترويجها والعمل من أجل رفعة شأنها، بما يستدعي التساؤل مرة أخرى لماذا نكتب؟ ولماذا نعاود الكتابة المرة تلو الأخرى؟
صحيح أن هناك العديد والعديد من حملة الدكتوراة والمفكرين وأساتذة الجامعات من مدعي العلم لا يفقهون شيئا ولا يعلمون عنه شيئا، مجرد وجود بالقوة، عالة على الزمان والمكان!! لكن بالمقابل هناك من يرغب في الكتابة والفهم والتحليل والتغيير والنقد وربما الملاسنة!! هل هؤلاء لم يصلوا لسن النضج؟ ربما!! لست أدري!! المسألة رهن قبل ذلك بتساؤلات أخرى مهمة: ما هو سن النضج؟ هل يرتبط بالعمر؟ أم يرتبط بالحكمة؟ أم يرتبط بالاسترخاء والراحة ومساكنة المناصب واللقاء مع علية القوم والنخب هنا وهناك، وما يمليه ذلك من تقييد النقد والطاعة العمياء!! هو الوعي الزائف حاضرا بكل تجلياته وعناصره المكتملة، ليس أكثر ولا أقل!!
مسائل معقدة جدا لا نستطيع الإجابة عليها. مازلت مثلا أتذكر روعة جلال أمين وعلاء الأسواني ومحمد الغزالي ومحمد عمارة بل وحتى المحافظ فكريا نجيب محفوظ وحتى طه حسين أيقونة النظم السياسية المتتابعة وحدّة سكاكين كتاباتهم وروعة نقدهم!! هل افتقدوا الحكمة والنضج، أم كانوا أوفياء لما آمنوا به وعملوا من أجله!!
أغلب الظن أننا نكتب بداية من أجل أنفسنا، حتى لوقلنا أننا نكتب من أجل فكرة ما أو من أجل الدفاع عن مبدأ أو عن قضية، فإن هذا لا يتعارض مع أننا نكتب من أجل أنفسنا. فنحن مثلنا مثل الآخرين الذين يزاولون حرفا ومهنا أخرى، مع بعض الاختلاف، نمارس حرفة الكتابة، نكتب لأننا اخترنا هذه الحرفة وامتهناها، لذلك فنحن مطالبون بأن نثبت لأنفسنا، ربما قبل الآخرين، أننا أكفاء فيما اخترناه ومارسناه. كما أننا حين نكتب نستمتع بفعل الكتابة هذا، ولعل ذلك يتشابه مع معظم المهن الأخرى، فهناك دائما وأبدا جانب الامتاع الذاتي فيما نقوم به، وبدون هذا الجانب يصبح العمل بشكل عام مهمة ثقيلة إلى قلوب الفاعلين وعقولهم. وأحمد الله أنني مازلت أستمتع حتى الآن بمحبوبتى القراءة والكتابة، رغم تهكم الكثيرين على هاتين المحبوبتين الضعيفتين الواهيتين، ورغم صعوبتهما على الكثيرين من مدعي العلم!!
لايعني ذلك، أن فعل الكتابة هو فعل ذاتي محض، يقتصر فقط على الامتاع الذاتي، بعيدا عن أى شؤون مجتمعية أوإنسانية أخرى؛ فهو حين يستند بداية إلى الامتاع الذاتي، يرتبط أيضا بالتأثيرات وردود الأفعال المجتمعية، فبدون هذه الاستجابات المجتمعية يذبل الامتاع الذاتي، بل وربما يندثر، وتستحيل الكتابة إلى مجرد فعل رتيب وممل، مجرد طقس نمارسه بحكم العادة، ومتطلبات الحياة الفكرية والثقافية، أو ربما قد يعتقد البعض من التافهين أنه مقصود به التظاهر بالثقافة وإبراز الذات.
لذلك تختلف المجتمعات فيما بينها حول درجة استجاباتها نحو الأعمال الفكرية والابداعية، فكلما أصبحت الاستجابات المجتمعية أكثر نضجا وتأثيرا ومرونة وتسامحا، كلما ازدادت حدة الاحساس بالمتعة الذاتية، والعكس صحيح إلى حد بعيد. من هنا يمكن القول أننا نمتع أنفسنا أولا حين نكتب، نهديها أول حروفنا، نناقشها ونشتبك معها حول المسموح به وغير المسموح، نستأذنها في اطلاق جنوننا، وفي أحيان كثيرة نخادعها، نتحايل عليها ونستغفلها. هذه هى ذواتنا الحاضرة، الماثلة، الشاخصة، وكأنها رقيب حاد وصارم فوق رؤوسنا، بقدر ما نمتعها بما نكتبه، بقدر ما تضايقنا حينما تستدعي المجتمعي الجاثم فوق صدورنا، بما يمثله من سطوة ورقابة وتخويف، في قوالب عديدة منها ادعاء الحكمة، ومتطلبات النضج، واللف والدوران، واحترام وكياسة ومساكنة المنصب، ونسيان تاريخ الزيف والغش والخداع، والتعايش المر مع ما هو موجود!!
لكن الرغبة الحقيقة في الكتابة غالبا ماتنتصر أمام سطوة الذات، التي تذوب في النهاية تحت وطأة فعل الكتابه ذاته. فالرغبة في الكتابة تسمو فوق كل الرغبات، لأنها قفز إلى المجهول، وتجاوز للمحسوب، وخلط للأوراق، وفي كثير من الأحيان مزيج من العقل والجنون. فليس هناك كتابة عاقلة تماما، كتابة حكيمة متريثة. يخطئ من يظن ذلك!! فالكتابة مسكونة، ويجب أن تكون مسكونة، بالرغبة في التعرية والفضح والتجاوز وغير المألوف، وعكس ذلك، هو اجترار وجمود وتكريس للوجود وحفاظ على كياسة المنصب وتبعاته ومكاسبه، وحفاظ على شبكة علاقات تضمن تقييما إيجابيا من الآخرين يسعدنا لفترة، ليهوي بنا في القاع فترات!!
من هنا يمكن القول أننا نكتب لنطرح شيئا جديدا، لنجذب القارئ ورائنا، حتى وإن لم يفهمنا، فإن هذا على الأقل يرضي غرورنا ويريح أعصابنا بأننا في أحيان غير قليلة نكتب أشياء لايفهمها سوانا، ولا يعي مدلولاتها غيرنا.
ولعل ذلك هو ما يضفي على الكتابة ذلك الألق واللمعان والبهاء والجمال والرقى والأنس والتوتر والجدل والتفرد الذي يمايز بينها وبين غيرها من المهن والحرف الأخرى؛ أقصد تلك الامكانات الهائلة التي تنطوي عليها من التجديد والاختراع وتجاوز المتعارف عليه ونبذ التقليدي المحافظ المتكلس. من هنا يمكن القول أيضا أننا نكتب لكى نجدد أنفسنا، وبالتبعية نجدد العوالم التي ننتمي اليها. فنحن من خلال الكتابة نكتب ما لا نستطيعه في الواقع المعيش، نخلق أبطال وشخوص، نتخيل عوالم وأحداث، نرسم استراتيجيات، نطرح أساليب، نمارس جوانبنا الانسانية، كما نكشف عن أكثر الجوانب المظلمة والمبتذلة من شخصياتنا وشخصيات الآخرين. فنحن حين ننتقد ونلاسن ونشتبك ولا نهادن لا نقف عند الآخرين فقط بل ننتقد ذواتنا، ونعلم علم اليقين ما هى خطايانا، فنقيد ادعاءاتنا المثالية، ونترك للأنبياء عوالمهم، ونعي وعيا حقيقيا أننا في النهاية مجرد بشر!!
ورغم هذه الامكانات الهائلة التي تنطوي عليها ممارسة الكتابة فإنها، ورغم بعدها الفردي، رهن بالسياقات المجتمعية التي تنطلق في رحابها. فكلما كانت هذه السياقات منفتحة ورحبة ومتسامحة كلما أطلقت العنان لممارسة نزق الكتابة وجموحها، أما إذا كانت هذه السياقات على النقيض من ذلك منغلقة وضيقة وعدوانية ومراقبة وشكاكة ومدعية ومهترئة فإنها تدفع الكتابة لأن تناور وتداري وتتقي، حيث تهدر الكتابة الكثير من الوقت في البحث عن طرق ملتفة ملفقة وعبثية تمرر بها ما تريد من أفكار، وما تمارسه من جموح ونزق.
ربما تكون هذه بعض دوافع الكتابة كما رأيتها، والتي بالطبع قد تختلف عن دوافع الآخرين، فلكل منا دوافعه الخاصة نحو الكتابة، ألم أقل منذ البداية أنه سؤال بالغ الصعوبة!!!