أسفار
القلق يسيطر عليّ هذا اليوم وأنا أتجه من ولاية تكساس في جنوب الولايات المتحدة إلى نيويورك، تركت أبنائي وبناتي وقد تزوج أغلبهم، كرر أولادي وبناتي قولهم:
– سنفتقدك يا أمي، لا تمكثي طويلاً. لا تنسي أن تبلغينا بسلامتك فور وصولك.
بكيت لحظتها، كأي أم عربية اعتدنا على الغلب والهموم والأحزان، كان يوماً حاراً لطّف حرارته مطر غزير على منطقة دالاس في تكساس، ما زالت كسف من الغيوم تزخرف السماء الزرقاء، فتحت نوافذ سيارة ابنتي الأكبر، ومعنا ابنتان أخريان وابنان، السفر همّ حتى لو كان برغبتك ولحاجتك، وكل فراق صعب، ولا أعلم أين مكان زوجي زكي ولا ظروفه، تتحدث البنات معي تارة ومع بقية افراد أسرتي المرافقين، لكن عيني سارحتان تتأملان السماء، وما يخبئ القدر لهما، تدخل الغيمة الصغيرة في رأسي، فأستنشق هواء رطباً، تمنيت أن أفتح قميصي لاستقباله، عمان يا حبيبتي، اشتقت إلى عمان اليوم، عمان الأمس وهو الأصح، لا بد من خمس ساعات في مطار نيويورك أو ست، قبل حلول موعد إقلاع الطائرة إلى عمان، كان مزدحماً أكثر من أي سفرة سبقت، اعتدت على كثرة السفر من هذا المطار وإليه، نظرت في كل اتجاه، ذرعت ممرات المطار والأسواق والناس في كوكب مطار نيويورك، عثرت على ركن هادئ أمام تلفاز، كان مقعداً وثيراً وواسعاً، أحسست براحة جسدية حين أرخيت نفسي، تعبت قبل أن أركب الطائرة إلى عمان، صحوت عند السابعة من صباح اليوم، جهزت نفسي وكنت في العاشرة في مطار دالاس، وغادرته في الثانية عشرة ظهراً بعد أن مكثت ساعتين هناك، ثم أربع ساعات في الطائرة إلى نيويورك، وها هي الساعة تقارب السابعة مساء، أتأكد من سلامة الحقيبتين الصغيرتين، أدخلهما بين ساقي تارة، أو ألصقهما بجانبي على الكنبة تارة أخرى، أو أمدّ ساقاُ فوق كل منها، خشية وقوع المحظور، إذ كثيراً ما نسمع عن سرقة حقائب في المطارات، أو يحصل تبديل لها كما اعتدنا أن نشاهد في الأفلام، والأشرار كثر، وقد يبتليك أحدهم بحقيبة تشبه حقيبتك ، تحتوي على ممنوعات جرى مراقبتها من قبل أمن المطار أو مخدرات، فيضطر للتخلي عما يحمل ولو غلا بعد أن رأى الخناق يضيق على عنقه أو عنقها.
أشقيت نفسك يا فهيمة، أو إن تزاحم الأفكارفي مكبرك تنزع من نفسك الكثير من الطمأنينة التي ظلت تجعلك تشعرين بأن السعادة هي حظ وسعي مضن، ويمكن أن نموت قبل أن نحصل عليها، هل حقاً أنت التي أشقيت نفسك؟ أم زكي؟ أو إن أغلب المسئولية تقع على غيرك، أو هي خيوط عنكبوتية متداخلة تبدأ في اليوم الذي تحسّ المرأة أنها بدأت تعرف الناس، يقترب موعد إقلاع الطائرة، قالوا لنا إننا سنطير عند العاشرة مساء، وفي الوقت الذي أتوق لوصول عمان معشوقتي، وشعوري بحماس للقائها، لكنني أحس بشيء من غمّ مكتوم، أحمال وهموم لا أستطيع تحديدها تجعل يومي أكثر ثقلاً، وبلا إجابات شافية لها عندي، يقطع تفكيري بين الحين والآخر أعلان عن أقلاع طائرة أو هبوط أخرى، ونحن في مطار نيويورك، وهل تمر دقيقة دون إقلاع أو هبوط؟ أستمع نداءات على مسافرين لأماكن مختلفة من هذا العالم الكبير الصغير، العالم كله مختزل في مدينة نيويورك، أو حتى في مطار نيويورك، كل دقيقة أو أقل أو أكثر يعلن عن وصول أمواج بشرية جديدة تهبط إلى الأرض الأمريكية، لحسن حظي أن سمعي ما يزال قوياً برغم أنني بلغت من الكبر عتياً، ولطول إقامتي في أمريكا اكتسبت القدرة على فهم الإنجليزية باللهجة الدارجة، بينما عيناي تستطلعان الآلاف من البشر كل يجري إلى أجل ومصير معلوم أو مجهول، أرى بعضهم فرحين مستبشرين، وآخرون يتذمرون وغيرهم يتململون والحيرة تغلب على ملامحهم، عيون مشرقة وأخرى مغربة، البعض يفكر وآخر يهذي، نساء يثرثرن وأخريان يتلفظن كلمات مرة من الشكوى والسباب واللعنات على الظروف والأسباب التي أتت بهن إلى مطار نيويورك، أو اضطرتهن ومن يرافقهن لمغادرة الأرض الأمريكية، أو القدوم لها، المطاعم والمتاجر تعج بالمسافرين أو ممن سيغادرون، يتزودون بما يريدون، كل حسب قدرته على الدفع، وأسعار الطعام مرتفعة في كل مطارات الدنيا، لكن النفس حين تشتهي لا يوقفها رادع أو تقنين، وأكثر المحظورات تحصل بسبب ذلك، لأن النفس أمارة بالسوء، كما يقولون، وكثيرون يقرأون لوحات الطعام في المطاعم قبل ولوجهم لملء بطونهم مما يلذّ لهم ويطيب من المآكل والمشارب، أو تجربة طعام مختلف عما ألفوه، وبألوان ونكهات الأطعمة من مختلف دول العالم، والمطاعم الدولية توطنت هي الأخرى في مطار كنيدي العملاق في نيويورك، إلا كلمة طعام عربي، فلم أجدها على أية لوحة تطريها أو تشير لها، مع أن انواعاً كثيرة من الطبائخ العربية متوفرة هي الأخرى هناك، درج الأميركان وخاصة اليهود منهم على تسمية الطعام العربي أكل يوناني أو أكل مكسيكي أو شرق أوسطي، حتى لا ترد مفردتي مأكولات عربية، أحس بدوخة وباشمئزاز من تلك الروائح المختلطة، نكهات أطعمة مختلفة تمتزج وتتسرب إلى أنوفنا، وروائح أشربة متنوعة، وعطور وصدورمتهيجة مشدودة أو مرخية تدعو الأعين للتحديق والتشريق والتغريب، وتسمع شهقات بعض الرجال وزفراتهم، متابعين تلك المغريات بنهم، تعرف النساء الغربيات ذلك، فيزددن بهاء ودلالاً وغنجاً، لا بل يعشن على مثل هذه الأحاسيس، وتزدهر تجارة الملابس والموديلات الكاشفة، حلل تتلألأ وأساور من فضة تكسو المعاصم وتزيدها خشخشة، تتماوج أبخرة الأطعمة والأدخنة وتصل إلى عينيّ وصدري فتكتم أنفاسي، حمدت الله إنني لم أطعم شيئاً إلا فنجاناً من القهوة مع قطعة من الكيك صباح هذا اليوم في منزلي، ولقد وهبني الله القدرة على الصيام، لا بل أراه ضرورياً لي ولصحتي، أحسّ أنني على وشك القيء لكنني أشغل نفسي وأتلهى بتأمل هذه التنويعات الحياتية في مطار نيويورك، انتقل العالم كله إلى المطارفلا يخطر ببالك أمر إلا وتجده في مطار جي أف كي، بشر أو لباس أو طعام أو دعاية لكل سلع الدنيا بدءأ من قرص الكمبيوتر حتى السيارات والبنوك والتأمين والتجميل والملابس وأماكن الاسترخاء، ويصعب على أي مشاهد الإحاطة بكل ما يجري حولنا في كوكب كنيدي الفريد، أبلغونا أن طائرة الملكية الأردنية ستقلع عند الساعة الحادية عشرة مساء، والدقة ليست متوقعة في المواعيد العربية.
سعدت بعدها ببدء تحليق الطائرة، وقد مضى على تحركي من البيت ما يقارب الأحد عشرة ساعة، لكن ساعة إضافية قضيناها في الطائرة مقفلة الأبواب متوقفة على أرض المطار قبل إقلاعها، في هذه الساعة أنهكت قواي أكثر من الساعات التي مرت منذ غادرت بيتي في دالاس، ابتعدت طائرتنا مئات الأمتارعن الموقع الذي كانت متوقفة فيه، وأكثر ما يثير عجبي واستغرابي أن معظم الطائرات العربية لا يسمح لها بالالتصاق ببوابات المطار مثل طيران دول العالم الأخرى، تحملنا حافلة من قاعة محدودة وشبه محصورة وتنقلنا إلى الطائرة الرابضة بعيداً عن مبنى المطار، فيشعر معظم المسافرين بحزن متميز وبمرارة، لعزلنا بهذه الطريقة عن عوالم مطار نيويورك وعوالمه المتألقة المثيرة في الساعات الثلاث الأخيرة قبل الإقلاع، مع أن كل طائرات العالم تلتصق بمبنى المطار، وتدخل للطائرة عبر نفق يربط الطائرة بصالة المسافرين، أمضت الطائرة تلك الساعة تنتظر دورها في الإقلاع ربما، هذا ما سمعناه رداً على تذمرنا من التوقف والانحباس داخلها دون نشاط، اللهم إلا دوي طائرتنا الخفيف، وأزيز الطائرات العملاقة المقلعة أو الهابطة، وكم تراخت أعصاب جبهتي حين بدأت طائرتنا تتحرك للتحليق، أي أن الزمن الباقي لوصول عمان بعد ذلك كان ثلاثة عشر ساعة أخرى، حاولت نسيان ما كان يشغل بالي أثناء إقلاع الطائرة وبعد انتظام تحليقها على الارتفاع المقرر، أغمضت عيني وأنا جالسة كغيري من الركاب، لمحت الكثيرين منهم قلقين أو فرحين، ومنهم أثارتهم مناظر الأرض وكسف الغيوم التي في السماء ونحن نجتازها أو نبحر عبرها، تعجبهم الأنهار والطرق وناطحات السحاب في مدينة نيويورك وما حولها، وبعد أكثر من نصف ساعة، تكلمني مضيفة وهي تمد يدها سائلة عمّا أريد أن أشرب، ماذا ترغبين أن تشربي مدام! مدام؟ مدام؟
أنتبه لأجد مضيفة واقفة تنتظر إجابتي، ظنت المضيفة أن خللاً عقلياً بي، فاضطرت أن تلمس كتفي حتى تلفت انتباهي، قالت معلقة إنها ترى عيني مفتوحتين، وأطالع ظهر المقعد الذي أمامي، متأكدة أنني لم أكن نائمة ولا يبدو عليّ نعاس، وهذا ما زاد من حيرتها، وبنفاذ صبر أحولت عينيها وأشاحت بوجهها قليلا حين تنبهت لها وابتسمت، بادرت بعدها تساعدني على الاختيار:
– عصير تفاح، برتقال، مشروب غازي، كحول، ماء ؟ ثم أردفت قائلة، هل تخشين ركوب الطائرات؟ أنظر لها مستغربة.
– أنا؟ أتسألينني؟ هزّت المضيفة رأسها موافقة، ولماذا أخاف؟ وعلى ماذا أخاف؟ منذ خمسة وأربعين عاماً وأنا أسافر بالطائرة مرة أو مرتين كل عام، فالموت سيان يابنتي سواء في الجو أم في البحر أم على الأرض!
– آسفة أقلقتك، سأمرعلى باقي الركاب، فهلا اخترت ما تريدين شربه؟
– سامحيني إن كنت عطلتك. لم تنتظر سماع اختياري، تركتني أفكر وانشغلت بخدمة راكب آخر بجانبي، أبتسم ثانية قبل ابتعادها، وأنظاري على الناس القريبين حولي أرقب الأفواه المتحركة، والأيدي الممدودة، والعيون المترقبة، والكؤوس التي بدأت تصعد صوب الأفواه وتنزل، أمامي وخلفي، وعلى يمينى البعيد في الجانب الآخر. أجلس في الجانب الأيسر لطائرة إيرباص الضخمة قالوا إنها أوربية الصنع، كمنافسة لطائرة البوينج الأمريكية العملاقة.
أرى شيباً وشباباً يطلبون كأساً ثانية من النبيذ أو البيرة أو الويسكي، وبعضهم لاينتظرون المضيفات حتى يحضرن لهم ما أرادوا، فيقومون للحصول على المزيد من الكحول، تقول المضيفة، (لأنه مجاناً، واللي ببلاش كثّر منه) ، عجوز يكافح محاولاً أن يكتم سعاله، لا شك أنه مدخن، ومتضايق من قرار منع التدخين أثناء الطيران في السنوات الأخيرة، تجرأ فطلب كأساً من الويسكي هو الآخر، أحسّ بجفاف في حلقي، وهذا حد من قدرتي على تبادل الحديث مع المرأة اليمنية التي تجلس بجانبي، عادت المضيفة ثم نظرت لي في لطف وتهذيب، تحثني على سرعة تحديد السائل الذي أرغب في شربه.
– أي سائل لديك، عصير برتقال من فضلك. برشاقة كانت كأس صغيرة تنتصب أمامي، وتحتها قطعة مستديرة من الورق النشاف المزخرفة
قبل خمسة وخمسين عاماً كنت في الثامنة عشرة من عمري، كانوا يسهلون كل أمر أمامي، تلك كانت طبيعة أهلي، بل لم أكن في الواقع مهيأة لاتخاذ قرار مصيري، كنت وقتها كأي فتاة عربية تقليدية في مرحلة المراهقة في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، الوالدان أو الكبار من الرجال في العائلة هم الذين يقررون ويعرفون مصلحة البنت، يقول شقيقي الأكبر، كل شيء ممكن، ونحن على استعداد لاستقبال أي إنسان ذي كفاءة يريدنا ويحب مصاهرتنا بإخلاص. واليوم تركت ورائي ثمانية من الشباب والشابات أبنائي وبناتي يعملون ويكافحون، أفتقدهم قبل أن أغادر الأراضي الأمريكية.