قراءة في رواية «الأرض الحافية»
الأديب إبراهيم عوض الله فقيه استطاع أن يثبت نفسه روائيا أردنياً بإبداعاته ورواياته المتتابعة، ومنذ السبعينات وحتى تاريخه صدر له ثماني روايات وثلاث مجموعات قصصية، ولقد انتهيت اليوم من قراءة روايته المعنونة (الأرض الحافية) والتي نشرت في العام 1999،
في هذه الرواية أظهر الأديب إبراهيم قدرة عالية على السرد والصبر لتوصيل الهدف الذي أراده بأسلوب أدبي جذاب، وبصياغة لغوية فصيحة وسليمة، وبالإضافة إلى إتقان مزج الواقع بالمتخيل، حتى ليصعب الفصل بينهما، وبأسلوب اختص به الكاتب.في هذه الرواية، ومن المعلوم أنك لا تستطيع أن تحكم على روائي وكاتب عريق من عمل أدبي واحد، وسأحاول قراءة روايات لاحقة لهذه الرواية.
لكن أهم ما يميز هذه الرواية وضوح الهدف من كتابتها، ووضوح الشخوص وتحركاتهم وأهدافهم عبر جميع صفحات الرواية التي بلغت 200 صفحة من القطع المتوسط، ولكن الغموض الذي يثير التساؤل في هذه الرواية هو كيف ارتضى الإنسان المواطن الأصلي، والمستقدم بعض التصرفات الشاذة المخفية والمعلنة، وكيف تسربت عادات وطبائع الشذوذ إلى مجتمع بدائي بسيط (الأرض الحافية) كالقسوة والتحكم وتغطية للحقائق وكثرة المخفي السيء والمسكوت عنه، وكذلك النفاق وظلم للمرأة وهضم أبسط حقوقها وتشويه للإسلام واخلاقياته التي هي جوهر الدين، وكل تلك الصفات الشاذة في مواقع الأرض الحافية معروفة للجميع هناك ربما، لكنها مسكوت عنها وزيادة على ذلك إساءة استعمال السلطة والأمانة من قبل المسئولين والمتحكمين، والتوجيهات، وبرغم كل الانتقادات التي كان السارد يوجهها لسكان بيئة الأرض الحافية، إلا أن الممرض أو هو الذي كانوا يسمونه الطبيب تعايش بشكل يدعو للغرابة وعدم التصديق، وبلغ مكانا مرموقاً في ذلك المجتمع، وصادق ورافق امير المنطقة، وتمكن من الاطلاع على الكثير من الأسرار والمحظور والمسكوت عنه، بحكم هذه العلاقة التي عرفناها عبر السرد المطول، وأنها كانت علاقة حميمة ولو أنها تدخل تحت بند النفاق وتبادل المنافع، وإن الأمير تقبل هذا الممرض وأحبه، ورفض تنفيذ اوامر نقله إلى منطقة أخرى، ليدلل لنا السارد عن عمق الثقة التي وصل لها في نفسية الأمير ومرافقه الأقرع، حتى في اوقات اصطدام الممرض (الطبيب) مع شيخ الجامع (المطوع)، ومع تذمر الممرض وهو السارد عبر سرد كل تفاصيل الحكاية، إلا أنه أبان دون قصد او بلا وعي أن إقامته في تلك المنطقة كانت مقبولة بالنسبة له ومحببة، و توافقت مع الكثير مما تمناه من غربته، ووصف لنا الممرض نفسه الكثير من المناسبات التي حظي فيها باحترام الأفراد من مجتمع الأرض الحافية والمسئولين وتقديرهم له ولتواجده عندهم، انسجم مع السكان المحليين، وحتى الوافدين من البلاد العربية للعمل كممرضين أاو ممرضات معلمين أو معلمات في المدارس، ويصف السارد بيئة الأرض الحافية نيابة عن الأمير، مع ان المفروض أن يسمح للأمير أن يصف ديرته بنفسه ، ولم يكتف السارد بهذا فقط، بل زاد من تدخله وأصدر حكمه هو على الصحراء وهو ليس ابن صحراء ومما جاء في الرواية: (ولهذا السبب ترك أمير المنطقة أولاده وقصوره في المدينة، وأحب حياة البادية الصحراء، للصحراء أسرارها وبريقها وعقاربها، أفاعيها ونساؤها ورجالها، والمطوع ومستوره. . . ) ص37 من الرواية. وهناك نقاط أثرت على حكاية هذه الرواية من حيث الفن الروائي:
اولها: أن السارد العليم والذي كان يعرف حتى ما يدور في عقول الآخرين لم يسمح لأي منهم في معظم مواقع القص بأن يعبر عن نفسه او يحاور أي طرف، وحتى لو سمح بحوار ما، فلم يكن الحوار إلا مع السارد العليم نفسه وهو الممرض او كما كانوا يسمونه الدكتور.
والنقطة المهمة الثانية: ان سرد هذه الرواية جاء بأسلوب تقليدي يشابه أسلوب قصص ألف ليلة وليلة، فكل فصل هو قصة جديدة مثيرة، تتوالد من رحم القصة السابقة، وكأنه يريد أن يحاكي أسلوب شهرزاد، وربما دون قصد منه، ليبقى القارئ مشدوداً ينتظر او يستمع او يقرأ ليعرف شهريار ما حدث بعد ذلك في الليلة التالية، او ليستمتع وكأنه طفل يريد أن يتسلى بسماع الحكاية المثيرة.
والنقطة الثالثة: وهي جزء من اسلوب السرد التقليدي، أي أن سرد الحكاية يبدأ من الصفحة الأولى ثم تتسلسل الأحداث، ويتناولها السرد بالترتيب الكلاسيكي الممل، حتى تنتهي القصة في الصفحة الأخيرة، وكما يقول المثل المصري: (من طقطق لسلام عليكم)، والمقصود أن السرد الحديث تجاوز هذا الاسلوب الرتيب، وعمل على تقطيع الزمن والتعارض والتصادم في ترتيب الأحداث والأماكن ليشعر القارئ انه يعيش حياة تشبه الحياة الحقيقية، لأنه لا يجري حدث في التاريخ مجردا معزولا ومتواصلاً، مع تجمد العالم منتظراً حتى ينتهي الحدث السابق.
وتمنيت أن لاأعارض الناقد الذي قدم للرواية، فقد اكد أن الكاتب لم يتدخل في تصرفات وأقوال الشخوص، وأبقاهم يتصرفون حسب المواقف دون تدخل منه، وهذا لم يكن صحيحا، فالكاتب والسارد العليم والممرض هم نفس الشخص، وتدخل السارد العليم في كثير من المواقف بتصرفات وأقوال وأفكار الشخوص، حيث انه كان يعلم ماذا يدور في خلد الشخص دون أن يحادثه او يخلق موقفاً وحواراً يتيح للشخصية ان تتحدث عن نفسها وما يدور في خلدها. في موقف من المواقف لم يكن السارد العليم على علاقة حميمية مع الأميرة، لكنه يصف حالها، كأنه يجالسها او يراقبها، ولماذا لا تصف حالها لشخص ما بنفسها؟ (تعتز ببريق عينيها، وتفرد حاجبيها كسيفين، ((كيف عرف السارد هذا، لماذا لم يسمح لها بالتحدث عن نفسها في موقف ما؟؟ أو تصفها شخصية يخلق لها دوراً في هذا الحدث)) ويتابع السرد: (وتجلس في عتمة البيت يومض نورها الخفيف ثم ينطفئ على جسم أنثوي تحت ثياب زاهية وثقيلة موشاة بقطع من العملة الذهبية . . . . ثم يحط الجسم .... ويخيم الصمت الذي يثير الشهوات .. وتستلقي في انتظار عودة الامير ليلاً، ترتعش من الأعماق، تتأوه في الليل، ثم تترنح وتسقط وهي تدعو بأن يعود لها الأمير الذي تحبه وتتمناه) صفحة 107، والسؤال هو: كيف عرف السارد العليم بكل هذه المشاعر والآلام حسب نص الرواية الحالي؟
وقبلها جاء في السرد: (كانت تتوق إليه، وتتمنى لقاءه، وتعبر له عما يخالجها من شعور، لكنه كان يرى في التعبير عن الحب لها ضعفاً لشخصيته) صفحة 106 أي أن السارد كان يتحدث باسم الزوج والزوجة نيابة عنهم، ثم لم يكتف بذلك، بل أعطى نصيحة وحكمة من أفكاره بتدخله المطلق، فيقول متابعاً السرد: (فالرجولة صمت وأوامر عند الزوجة، وكلمات عشق دافئة عند المعشوقة) وهذا منتهى التدخل ووضع الكلام في فم الشخصية، او التعبير عنه حسب أفكار الكاتب ورأيه.
وملاحظة أخرى إن تتابع السرد عن جنون مريم، وبشكل مطول، وهي مثل الممرض ليست من سكان الأرض الحافية الأصليين، أي انها والممرض مستقدمون للعمل في خدمة سكان الأرض الحافية، ثم اهتمام الممرض بها وبمتابعة جنونها برغم أنه كان متزوجاً، أشغل السارد عن متابعة حياة الناس العاديين في المنطقة التي خصصت الرواية لهم، وأخذت من حكاية الرواية حيزاً كبيراً، وأضاع الكاتب البؤرة التي أنشأ الرواية ليبرزها، فلم نعرف الهدف الرئيس من الرواية: أهو بيان مغامرات وذكاء وتصرفات الراوي أم وصف حالة أهل الأرض الحافية وبتحامل وفي تضاد، حيث إن السارد ظهر لنا أن كل ما يتمناه كان ملبى، ولم نعرف عن سبب تماديه في كشف عيوب وسيئات وجهل وتصرفات أهل الأرض الحافية هل كان يهدف إلى تفتيح أذهانهم خدمة لهم، او لمجرد كشف معايبهم؟؟..
ثم إن هناك مبالغات غير منطقية، ويستبعد حدوثها في مجتمع بدوي صحراوي متزمت، مهما كان متخلفاً، وربما أراد الكاتب تزويق الرواية بمواقف حميمية خيالية لأنه يدرك أن السرد بالطريقة التي ادار الحكاية بها رتيبة، وحين يوجد غدير او نبع ماء جار في منطقة ما، لا تزوره امرأة وحدها عادة، وإن حصل ذلك، فليس لوقت طويل وفي أمان: (أعلنت عن مولد امرأة جميلة تستحق أن تعيش الحياة، بخطوات رشيقة تتمشى بجانب الغدير، تمايلت في مشيتها وابتعدت قليلا، ثم عادت إلى الماء فغسلت وجهها ورقبتها، تحركت الإنثى النائمة في أعماقها، وجدت نفسها تتعرى وتقذف بنفسها في الماء الرقراق) صفحة 139 وثمة مثال آخر على المبالغة صعبة التصديق، ومن المعروف أن الإنسان منذ آدم وحواء سواء كان مثقفاً او جاهلاً او إنسان غاب يعرف أن المرأة لاتحبل دون العملية الجنسية مع رجل، فكيف نقبل ادعاء السارد، ان امرأة عربية بدوية تريد أن تحبل دون أن يضاجعها زوجها؟ ومما جاء في الرواية: (وعندما قالت رحمة إنه لا يمكن للمرأة أن تحمل إلا إذا جامعها رجل، تعجبت من كلامها، وقالت: هو ينام بالخيمة عندي، بس ما يلمسني، ثم نظرت إليّ وتابعت: انت يالدكتور، أناشدك بالله ورسوله، هل ما تقوله الدكتورة صحيح وصدق؟) مثل هذه المبالغات المستحيلة تعيب الرواية، لأنها لا يمكن قبولها.
وخلاصة ما يراه كاتب هذه السطور، لو ان هذه الرواية كتبت بشيء من حيادية ودون تطرف، وخلت من التركيز الشديد على فهلوة وشخصنة قدرات الممرض لدرجة الإعجاز، حتى يكون شاهداً مقبولاً على العصر، وبدون استغلال جميع المواقف والأحداث التي مرت لإظهار مهاراته وقدراته التي تقترب من الإعاجاز أحياناً، ولو حافظ الممرض على حجمه وأبقى على بساطته كما وصف نفسه في الصفحة الأولى من الرواية، ثم لماذا لم يحدثنا عن الأدوية والعلاجات ومواقف الفحوصات التي كان يجريها للناس هناك، ولم يذكر وصفاً دقيقاً لوصف فحصه لحالة واحدة داخل المستوصف، ولا كيف كان يصرف الأدوية او كيف كان يتصرف بها، او يطلب ما يحتاجه منها، من وزارة الصحة، مع قصص نجاحاته في علاج محتاجين، وخاصة وأنه كان له منافس في الطب العربي في منطقة الأرض الحافية وهو المطوع أو شيخ المسجد الذي يعتمد في علاجه على التمائم وقراءة القرآن والغش والعبث ليوهم الناس بقدرات خفية.
ولو خلت الرواية من بعض الوقائع والخيالات غير الممكن حدوثها، لكانت هذه الرواية رواية عالمية، أرخت مالم تحتويه كتب التاريخ، ولأصبحت مرجعاً تاريخياً وتراثياً لأهل تلك المنطقة، وللمسئولين عن التراث والتأريخ، وللأدباء والمفكرين والمؤرخين، والسبب ببساطة عدم وجود ادباء أو مختصين بتسجيل التراث والأحداث المحلية والإنسانية في تلك العقود في تلك البلاد، أو لندرتهم، وبسبب ورود أحداث مثل هذه الرواية بتفاصيل مبهرة وجميلة وساحرة، وربما لا يهتم بها أهل المنطقة ايامها لأن التصرفات كانت أمراً عادياً ومألوفا، ولا تعتبر غريبة عن حياتهم اليومية ومجتمعهم، اقول لو حدث كل هذا للاقى اديبنا ابراهيم ذيب عوض الله كل الاحترام والتقدير حياً او ميتاً، ولا عتبر مساهماً فاعلاً في تسجيل تراث انمحى ولن يعود، ولأصبحت الرواية رواية خاصة لشعب الأرض الحافية،ولاعتزوا بها ولبقيت مرجعاً موثقاً، ولترحمت للغات عديدة عبر عصور لاحقة لأنها تستحق أن تكون رواية عالمية بكل المعايير التي تجعل من اي رواية أدباً عالميا.