«أعشقني» لسناء شعلان
القصة أذكى من راويها
لا ينكر قارئ منصف أن سناء شعلان قد استجمعت كل قواها ومصادرها ومعارفها لتؤسس لها عالماً غريباً غير مألوف من الناحية الأدبية، ولا أقصد تلخيص حكاية روايتها المعنونة (أعشقني) أي أعشق نفسي، كيلا افعل مثل الكثير، فنحن في رواية (أعشقني) امام نص خارج عن مجرى النصوص العربية المعروفة وخاصة في الأدب العربي الأنثوي، لكنني سأحاول أن أتسلل عبر منافذ القصة ومخارجها ومتكآتها.
تبدأ الأديبة سناء شعلان بتحليل الإنسان على طريقتها وحسبما يناسب ثيمة حكاية (أعشقني)، فقسمت حياة الإنسان إلى خمسة ابعاد، هي طول الإنسان وعرضه وارتفاعه والزمن ثم البعد الخامس وهو الحب وهو الأهم والأكثر تأثيراً. وتتنقل الراوية بـأجوائها وتحورها وتحررها واندماجها بعنصري الزمن والحب، وفي جو معجز من التقدم العلمي والتقني، لتؤكد أن تلك العناصر هي التي تؤثر على كل إنسان في شخصيته وشكله وإبداعه وتقدمه وإنتاجه وتمازجه مع المجتمع المثيل والمعادي، ثم مع الطبيعة والكينونة منذ نشأتها حتى قيام الساعة، لكن البعد الخامس وتقصد به (الحب) هو الذي دارت حوله معظم الحكاية، إنه الأساس الذي يتحكم بمصير شخوص الرواية، وخاصة باسل المهري والعشيقة شمس في حاضرهما ومستقبلهما، وفي كل ما يمكن ان يحدث لهما، إنه الموقد والمحرك الذي يشغل بال الرجل والمرأة على السواء، ونحن هنا بصدد قصة عجيبة فيها كل التضاد والتناقضات والعجائب إلى جانب عنصر الحب الذي مزق كل الحواجز واخترقها، وتخطى كل التابوهات الدينية والتراثية والقانونية، لتحقق معجزات تتفوق على المعجزات العلمية الباهرة، وغير المألوفة بالنسبة لنا نحن سكان الأرض حتى تاريخه، فعنصر الحب اخترق الأجواء، والمنظومات القانونية والعلمية والسياسية والتي تحكمت في البشر سكان كواكب السموات كلها حسبما ورد في الرواية، ففي هذه الرواية نحن في زمن هارب لألف عام للأمام، اي بداية الألفية الرابعة عام 3010، فخيال الروائية وقدراتها الثقافية والعلمية والمعلوماتية خلقت لنا عالماً غرائبياً ساحراً ومحيراً، مستخدمة ما يتوقعه علماْ الفضاء والذرة والفلك، وكلنا يعلم أن معظم ما حققه الإنسان حتى الآن كان حلماً يداعب عقول العلماء والناس العاديين قبل خمسين إلى مائة عام، مثل السير على القمر، والوصول للكواكب البعيدة لمسافات تعد بالساعات في سرعة الضوء أو لأيام او حتى لسنوات. فلم تعد الكرة الأرضية قادرة على استيعاب طاقات الإنسان وقدراته وتعداد سكانه وتكاثرهم، فتفتقت العقول وانتهج العلماء وسائل السفرالأسرع من سريان الضوء، ليسهل على الإنسان الانتقال بين الكواكب والعمل على الاستيطان بها وإعمارها، ووصل التقدم العلمي حسب الرواية إلى إمكان نقل عقل بشري سليم تداعى جسده، إلى جسد إنسان آخر خرب عقله وسلم جسده.
وتفيدنا الرواية أن نجاح تجربة نقل عقل سليم بجسم معطوب لجسم سليم وبعقل معطوب، وتشاء إمكانات سكان المجرة أن تتم التجربة الأولى على نقل عقل رجل فاعل ومؤثر ومهم في إدارة ودعم السلطة الوطنية هو باسل المهري، وربما كان مكرهاً على قبول هذا القرار، لأن السلطة رأت ذلك نظراً لأهميته لهم، فتم نقل عقله إلى جسد امرأة حزبية او نقابية ذات شخصية مهمة وبرزت في جانب المعارضة للسلطة في الكوكب البعيد واسمها شمس، ناسبت خلاياها خلاياه، لكنها كانت قد سبق لها أن حملت جنيناً في بطنها قبل موت عقلها (هي لفظت انفاسها الأخيرة هذا الصباح في زنزانة قذرة، وانا تعرضت لحادث إرهابي في الوقت نفسه، هي باتت دون روح ودون دماع، وانا بت عقلاً ينبض بالحياة دون جسد) ص 16، (الأطباء أكدوا له أن هذا الجسد الأنثوي المنسرح في أحضان الموت، بابتسامة قرمزية مترعة بالسلام والرضا، وبشيء آخر لا يعرف له اسماً او لونا او صفة، هو الجسد الوحيد الملائم جينياً وانسجة وخلايا لجسده) ص 22، لقد أفعمت الكاتبة هذا الحدث العلمي بالكثير من التفاصيل، وهو بالنسبة لنا سكان الأرض حتى تاريخه يعتبر أملاً أو خيالاً بعيدا عن التحقيق في المدى المنظور لإنسان الألفية الثالثة، لكن تسلح الراوي العلمي والألكتروني والمعرفي ومتابعة الاستعداد لمواجهة تعقيد قفزة علمية كهذه، تحسب للأديبة سناء شعلان، ويمكنني القول أن هذا الألمام الأنثوي الساحر يقزم الكثيرين، ثم لا ننسى انها حاولت تحقيق ما تريد، فحلول عقل رجل عاقل مثقف وذي مركز سلطوي سابق جعله في حيرة وقلق وتعاسة ربما: (ما عاد معنياً بأي قوة محبة له في السماء او في الأرض، فكل المشاعر الجميلة والانتصارات الماجدة التي حققها عاجزة عن أن تعوضه في هذه اللحظة عن عضوه الجميل، او عن جسده المديد الغض كأطواق الياسمين) ص 36، وهاهو يصف الأطباء والعلماء والسياسيين متخذي القرار ( أين كانوا جميعاً وأنا أفقد جسدي جزءا جزءا؟ وأندس مجبراً في جسد امرأة لا أعرفها، لأصبح مهزلة كبرى اسمها السيدة باسل المهري؟) ص 44، وهنا نستدرك بأن جذوراً عميقة في الطفولة تؤثر على أي إنسان، فربما كانت الأم تتمنى لو ان ابنتها كانت ولداً، وربما تنعتها في أوقات كثيرة بأنها أفضل من الرجل، فتتكدس تلك المقولات والأفكار وتؤثر على الطفل او الطفلة لتجعلها تتقمص شخصية رجل ذي خبرة عالية في شئون الحياة، بل وفي استكشاف أسرار الحياة الزوجية واعتصار كل لحظة ممكنة للمتعة، وتفخيم اثر العلاقات الجنسية على حياة البشر وإغراقها برومانسية تصل حد الخيال والإعجاب على الأقل بالنسبة لمحدودية معارف الإنسان العربي في هذا المجال، بسبب تراكم التابوهات وقيود التراث في حياتنا، وكثير من الصبايا يقعن فريسة استنكار بروز الثديين في سني المراهقة، فتتوزع نفسها بين التباهي والإعجاب بمظاهر الأنوثة هذه، وبين التمني بإخفائها، لكن نفسية الفتاة قوية الشخصية تؤثر على عقلها وسلوكياتها فتتفنن في جذب انتباه الرجل لجمالياتها، ومع حفظ عقل باسل وإبقاءه حياً لم يقنعه بسبب حرجه من حلوله في جسد امرأة (مهمتي الآن هي استرجاع باسل المهري لا شيء غيره، ولتذهب ابتسامتها الوردية إلى الجحيم الكوني، ولتغرق كل المحيطات بلا رحمة لخضرة عينيها المائيتين) ص 57
إن قدرة الكاتبة على الصبر والاحتمال المطول لتسجيل معاناة باسل المهري بإسهاب وقراءاته لمذكرات شمس التي يقبع عقله في جسدها، وفي شهور الحمل الباقية لكي يخرج الطفل من بطن والدتها أو بطنه ، وقبلها الاندماج في الأدوار النفسية والعلمية لعملية نقل عقل رجل إلى جسد امرأة حامل، مع دقة في الوصف، يظهر مدى التصور والخيال الواسع المعجز لدى الكاتبة سناء شعلان، وهذا في حد ذاته يعتبر إعجازاً بشريا يضاف إلى عالم الأدب والفن والجمال والحياة بإبداع نسوي (واكتشف (باسل المهري) أن افضل طريقة للهروب منها هو الهروب إليها) ص 62 ، وتجمعت طروف لتحصل متاعب لحكومة ذلك الكوكب وعدم الرضا من ناسه عن الحكومة بما يشبه أوضاع كثير من الحكومات في الظروف الحاضرة في الوطن العربي، فاستغل أحداث الرواية والخلاف بين الحكومة وبين باسل المهري، وبين عقل باسل وجسد شمس (إن الحكومة واجهت حروباً شعواء من المعارضة، وعدم تسليم الحكومة جسدها لحزبها لا يزال يشكل ازمة ثقة متجددة مع الرأي العام، ومادة غنية لهجوم الإعلام على الحكومة)
وتمتد الحكاية على طول باقي الرواية بعدها في قراءات باسل المهري المركب على جسد شمس المرأة الحامل، يقرأ لطفله الذي في بطنه او بطنها ويكشف أسرار علاقة شمس بحبيبها خالد (بحبي لك وحدك، بجسدك وفتوتك ورائحتك ونظراتك وعناقاتك يا شمس، اشتهيك كما اشتهى الفلاسفة نهاياتهم اريد أن انتهي على أعتابك وانا أتوسد حدائقك واحترق بحرائقك يا نبيتي) ص 89 وأثناء كل تلك القراءات والاكتشاف يتم التركيز على أهمية الجنس وضرورة الإشباع الجسدي والروحي (لاقيمة للحياة دون الجنس، ولا جدوى للذكورة والأنوثة دون فعل التواصل الجنسي الكامل) ص 95، وتتواصل رسائل العشق بين العشيق خالد والمعشوقة شمس، فمن رسالة لخالد يقول (كيف اصبحت يا وجه الله في روحي . . . أريد أن أبلل حدائقك بمائي الذي حملته وخبأته في بئري منذ اربعين عاماً، إنه ماء الأنثى، ماء الأمل، ماؤنا، ماؤك يا نبيتي القادمة من غياهب الروح، احبك يا ملاكي. أشتهيك: خالد) ص 98 وهناك يأتي على البعد الخامس وأثره (قولي لي يا شمس من أنا؟ فأنا أعرف أنك القدر الذي طرق بابي يوم كنت جالساً أتأمل صنع الله للكون، واكتشفت ان هناك بعداً خامساً يفسر كل ألغازه، فكنت أنت وحبك هذا البعد الخامس، اشتهيك: خالد) ص 112 وحتى في العام 3010 وفي ظل قدرات الإنسان على التحكم والتوطن بكل كواكب المجرة وجدنا ان هناك محسوبية وإمكانية للوصول للمعلومة بطرق غير مسموحة وفي أدق المعلومات وأعقدها واكثرها خصوصية (وبسبب مصالح له معلقة فقد حصل على الحزمة الضوئية أخيراً) ص 65 أي حصل على ملف حياة المرأة (شمس) الكامل واسرارها اثناء حياتها، وليكتشف حبها لخالد برغم انها كانت امرأة متزوجة، وباسل المهري الذي فقد جسده كان متزوجا هو الآخر من امرأة أنانية كل همها التنعم بماله ومكتسباته ومركزه، والمرأة التي حل عقله بجسدها لم تكن سعيدة مع زوجها الأناني، ومع كونها امرأة قائدة وتمسك بمواقع متقدمة في حكومة الكوكب، إلا انها امتلكت إمكانية التمرد على المألوف، وفي تركيبة عقلها جرأة على اقتراف الممنوع وتجربة المحرم والشاذ، ومع ان الحمل الطبيعي كان محظورا بقوانين متشددة في حكومة الكوكب عالم 3010 إلا أنها حملت سفاحاً من عشيقها المتزوج اسمه خالد (فكل ما يغريها هو التمرد والعصيان وتثوير المواطنين ودفع الغرامات) ص 68 وهذا ما اكتشفه باسل المهري من مذكراتها، يقول عقل باسل المهري (كل شيء يتعلق بهذه المرأة هو محض أسئلة معلقة في عالمي الصمت والألغاز، واريد أن أجد الإجابات لعلي أجدني) ص 73، أي لعله يجد نفسه التي حلت في جسد تلك المرأة، ويعود الراوي لتذكير الناس بتحكم مخابرات الدول في الأفراد (ففي معتقل المخابرات المركزية لحكومة المجرة، تحرم من كل شيء حتى ذاكرتك) ص 78، ويكشف باسل المهري أفكاراً أخرى للعاشقة شمس الحامل سفاحاً (ليست معادلة الطاقة هي السبب الوحيد وراء ذلك، بل أفكارها التي تهدد بتقويض سلطة المتسلطين، هي الدافع الأكبر لسيرها نحو مصيرها المتوقع، فالكون لا يتسع للفساد والإصلاح في آن، على واحد منهما أن يفرض نفسه، وينفي الآخر) ص 164
ثم تجري القراءات على نمط واحد وفي تكرار المعنى والهدف لتمجيد جسد الأنثى او فحولة الرجل ومدى السعادة حين تتوافق الرغبات بين رجل وامرأة، مما يسبب بروداً لدى القارئ بعد ان اعتاد على الإثارة والديناميكية في الجزء الأول من الرواية، ومن الإلحاح على الشبق وادعوه الوصف الأدبي لممارسة الجنس، ومماجاء في الجزء الأخير من الرواية (وثورة النهد إذ يرتشف رمانه الشبق، وارتعاد الغدير إذ تداعبه النوارس فتتحشرج في شوك ضفتيه، وتترنح، فتدندن في غلمته إذ تسكنه غدواً ورواحاً، قبضاً وانفراجاً، فتتفجر فيه بحراً ملوناً برائحة النور والتراب والحياة، ملتهباً بخرافية اللذة وهي تستيقظ نشوى يمعابره وامتداداتها وانحناءاتها المعناة باللهاث المتهدج المنغم الجميل... الخ) ص 192 ونجد تذييلاً في أسفل الصفحة بأن هذا النص هو بقلم المبدعة د. فلانة من الجامعة الأردنية، ولا اعتقد بصواب اقتباس بمثل هذا الطول لصفحات، وأرى أن هذه نقطة أضعفت هذه الرواية المترعة بالخيال العلمي، فالأديب والروائي يقتبس جملة او سطراً، ولكن لا يزين ولا يحسن روايته بكلام مطول من غيره، والأنكى من ذلك أن يحاول التبرؤ من تبعات مااقتبس، بل الأجدر به او بها أن تكون الرواية كلها من تأليف راويها أومؤلفها، والقصة تكون دائماً أذكى من القاص.