أشكال المعاناة وآليات الصمود.
قراءة في ديوان «بوح المرايا» لفاطمة بوهراكة
«بوح المرايا» ديوان جديد للشاعرة المغربية فاطمة بوهراكة، يضم 11 قصيدة ترجمت إلى لغتين: الفرنسية بواسطة الشاعرة حبيبة زوكي، والإسبانية بواسطة كارسيا ماغريدا.
وخلال كل المحطات التي التقيت فيها الشاعرة فإني لم ألقاها إلا باسمة مرحة، لكن عندما تقرأ أشعارها تجد نفسك أمام شاعرة مسكونة بقلق السؤال والوجود والعلاقات مما يطبع شعرها بمسحة من الحزن حقيقي. هذا ما أحسسته عندما التقينا مؤخرا بمدينة مكناس وتفضلت وأهدتني ديوانها الذي انخرطت في قراءته فورا، وحتى أشرك القارئ في جانب من متعة قراءتي له وأقربه من مضامينه فقد ارتأيت أن أقاربه من خلال تتبع تيمتين أساسيتين حضرتا بشكل ملفت للانتباه في مجمل قصائد الأضمومة: المعاناة والصمود.
العتبة الأولى: قراءة في العنوان
إذا كان العنوان بوابة نلج من خلاله إلى فضاءات نصوص الديوان، وبالتالي عوالم الشاعرة فإن كلمة "بوح" توحي لنا مبدئيا بأننا في عالم شفاف ومفتوح على الصدق والاعتراف، وكأن الشاعرة تقول لقارئها بأن ليس لديها شيئا تخفيه وبأن لها الشجاعة الأدبية الكاملة لتعبر عما يتلجلج في صدرها من مشاعر وفي مخيلتها من معاني ورؤى دون مواربة أو مداراة. أما كلمة "مرايا" التي جاءت بصيغة الجمع فإنها توحي بأننا أمام ذات متعددة ومتشظية، وقد تكون المرآة أنَانَا التي نحاول أن نتعرف عليها، لكن للأسف لا تأتي صورتنا فيها إلا منعكسة في أعيننا وبالتالي فلن نراها متطابقة مع الصورة التي نحملها في الواقع. وقد تكون المرآة هو الآخر الذي يحبنا ويشكل جزء من كينونتنا وبعينيه يمكن أن نرى إلى أنفسنا. وقد تكون هي الآخر الذي يكرهنا ويعمل جاهدا لإيذائنا وتحطيمنا، أليست تقول:
:مرايا تعكس الرعد
الرعد..
تعكسني
أصرخ في صمت
أفتق شهوة البقاء
سابحة في أصوات
الغير"
(ص: 45).
العتبة الثانية: قراءة في العناوين.
الديوان يصم 10 عناوين جاءت كلها في صيغة جملة اسمية. وإذا نظرنا إلى الحقل المعجمي المهيمن فيها نجد أن العناوين تتحكم في بنائها العام ثنائيتين هما: حقل الحزن والمعاناة وحقل الصمود والتحدي.
حقل الحزن والمعاناة
حقل الصمود والتحدي
1. أنين الشوق والحجر.
2. عتبات الجرح.
3. نشيد الروح والألم.
4. حرقة الذات يا وطني.
5.انشطار الزمن الآتي.
6. مسافات الزمن العابر.
7. خطوات البوح.
1. جراحات ثائرة.
2. سمفونية كهف.
3. مرايا لكائن ناري.
4. عبور إلى المشتهى.
والملاحظ أن القصائد التي تعكس المعاناة تمثل ضعفي قصائد الصمود والتحدي، وهذا يعكس مدى انشغال الشاعرة بهموم الذات وأوجاعها دون أن تفقد عزيمة الإصرار، وأسلحة المواجهة سعيا لتحقيق ذلك التوازن المنشود بين طموحات الذات وإحباطات الواقع..وسأتخذ من هذا التصنيف منطلقا لقراءة الديوان سعيا للكشف عن أشكال المعاناة التي انعكست في نصوص الشاعرة، ومتتبعا آليات الصمود بغية الاقتراب أكثر من عالم الشاعرة.
قراءة في الديوان: أشكال المعاناة وآليات الصمود.
1. أشكال المعاناة.
تعددت أشكال المعاناة لدى الشاعرة فاطمة بوهراكة واتخذت أبعادا اجتماعية ونفسية ووجودية، وتوزعت على جل نصوص الديوان، وتركت بصماتها على لغة وصور الشاعرة:
1/1. الإغتراب:
تعددت أشكال الاغتراب في الديوان:
1/1/أ: الإغتراب في المدينة:
ما بين الشاعرة ومدينة فاس حب كبير، تحس بمدينتها ويرتديها الفرح، وتشارك بالتصفيق تعبيرا عن حجم الود، لكن هناك شيء ما يعاكس هذا الفرح، فالمدينة الجميلة التي تعشقها لم تعد المدينة التي في خيالها، فبدت ملامحها موحشة وغير مألوفة:
"يدي تداعبيدي
ترسم خريطة الفرح
المنسل مني
المنبعث من فاس
المغتربة"
(الديوان. ص 8).
1/1/ب: الإغتراب في الحياة:
صحيح أننا نستطيع أن نتأمل ماضينا، ونتعرف على بعض ملامح حياتنا في هذا الماضي، لكن العمر هو صيرورة دائمة نحو المستقبل لا تتوقف ‘لا عند مهاوي الموت، لكن ماذا عندما تتقاطع مسارات كثيرة مع المسار الذي نعتقد أنه يقودنا إلى حيث الهدف، لاشك أننا سنتوقف ونحاول أن نتبين معالم الطريق السالك، وإذ نتوغل في أبعاده نشعر أننا فقدنا البوصلة، وسنكون مضطرين لطلب النجدة، نستصرخ من نعتقد أنهم سيكونون عند العهد لأنهم يحبوننا، وهذا ما فعلته الشاعرة عندما تقطعت بها السبل ولم تجد غير الأم منجاة:
"متاهات العمر تقذف بي
يا أمي
وحدك تحمليني فوق الضوء"
(الديوان. ص 13).
1/1/ج: الإغتراب في الحب:
الطريق إلى قلوب الآخرين ليس دائما معبدا، ويبدو أن الشاعرة تمضي إليه فيما يشبه الإنخطاف حاملة في القلب إشراقة المستقبل الباسم، مزهوة بأحلامها الطفولية، لكن سرعان ما ينطفئ النور، وتتحول الأحلام الوردية ‘إلى كوابيس، وتتكسر كل الأماني في صرخة الشاعرة:
"وردة كنت
حالمة كالصبايا
بالحب/بالغد
تكسرت سهوا مجاديفي يا أمي"
(الديوان. ص 13).
1/1/ح: الإغتراب في الزمن:
الغياب في الحضور، إنه الشعور الذي يسيطر على من يفقد التواصل مع الذات، ويتضاعف هذا الغياب بفقدان التواصل مع الآخر، فتكون الحياة حلقة مفرعة بالهباء بعد أن يتم إحكام إغلاقها علينا:
"زمن التيه إلى
التيه يرحل بي"
(الديوان. ص 41).
وعندما نستنجد بالماضي أملا في بقعة ضوء نستمد منها النور في مسار الزمن الصعب لا تطفو في الذاكرة غير الأحداث المرة والقاسية، مقيمة تعمق النزيف، وتغيب الوعي بالكينونة والوجود، وترسخ الإيمان بأن كل تجربة صعبة نعيشها تخلق منا شخصا آخر أكثر قوة وصلابة لنولد ولادة جديدة، نبعث بعثا جديدا مهما كان مخاض الولادة مؤلما:
(أشهد أني لم أولد بعد
فرائحة الجرح معلقة
على جدار الأمس
ضاع أمسي يا
أمي"
(الديوان. ص 14).
1/1/د: الإغتراب في الذات:
ما بين الشاعرة وذاتها هو يصعب ردمها أو تخطيها، إنها القطيعة الأبدية بينهما رغم محاولات الشاعرة استعادة ولو جزء من هذه الأنا التي ذابت واختفت، لكنها في كل مرة تعود الشاعرة مهزومة ومستسلمة:
"أنا التائهة عني
أفتش بقاياي
أبحث عن ذاكرتي
المنسية تحت الأقدام"
(الديوان. ص 13).
ولكن أين اختفت هذه الذات؟ وكيف يمكن استعادتها بعد أن علمت أنها تسكن وطنا آخر، إنسانا آخر؟ إن الشاعرة عاجزة عن الفعل، وتكتفي بمراقبة ما يفعله نصفها الثاني بها وهو يعبث بحياتها:
"أنا في غيري
وغيري امرأة تسكنني
تشاكس أيقونة كينونتي
المعلقة على سحاب
الغيب"
(الديوان. ض 25).
1/1/ذ: الاغتراب في الوطن:
ما بين الشاعرة والوطن أكثر من عشق، إحساس بالإنتماء قوي، إن الوطن في جوهر رؤيتها امرأة ولود، امرأو نقية عفيفة وطاهرة..لكن هناك شيء ما يلوث هذه النقاوة، إنه الكذب، فالوطن، عندما يضعنا في موضع انتظار الذي يأتي أو لا يأتي يدفعنا لاتخاذ موقف ما منه، موقف من الخونة والأنذال الذين لا يملكون حسا وطنيا:
"طاهر هو رحمك يا وطني
إلا من الوعود
والضجر
خيانة أبدا..أبدا
لن تغتفر"
(الديوان. ص 33).
1/2 الخيانة:
وليس هناك أقسى لمن يملك قلبا طافحا بالحب والعطاء، قلبا بلون البرتقال، من خيانة ثقته وحبه. وإذ يتعمق الإحساس بالجرح لدى الشاعرة إلا أنها لا تجد في هذا السلوك إلا حقارة ونذالة، ولن ينال أو يؤثر في عواطف النبل التي تستوطن القلب، ويبقى فعل الخيانة غير ذي معنى لأنه سمة هذا الزمن الرديء:
"تافهة هي حوادث
الزمن المر
الخيانة
وجوه معلقة
على الورد الأحمر لقلبي"
(الديوان ص 7).
2. أشكال المقاومة:
في جل قصائد الأضمومة نلمس إيقاعا حزينا يتردد صداه بين الكلمات والجمل والصور، إيقاع نستشف منه رؤية للذات والآخر والعالم طابعها الأساسي الإحساس بالفقدان: فقدان الصداقة، فقدان الحب، فقدان الصدق، فقدان الكلمة الطيبة التي تشعرك بالأمان، وتمنحنا الآمال والثقة في الحياة.
ويبدو أن معاناة الشاعرة هي نتاج للإحباطات التي تراكمت في مسار حياتها التي لم تكن دائما معبدة، والمتمثلة في الغدر والخيانة والعزلة والإنكسارات، ومع ذلك فشاعرتنا لم تعدم وسائل وآليات دفاعية تلجأ إليها لتجاوز الأوضاع الصعبة التي تجد نفسها في لجتها، نذكر منها:
2/1/أ: الإحتفال بالفرح والإخلاص للحياة:
هما قيمتان تجد فيهما الشاعرة ملاذا وخلاصا ويمنحانها القدرة على الاستمرار والبقاء وتجاوز الواقع الصعب:
"عوالم الفرح تعانقني
وقيت التمرد الطويل
المنبعثين مني/منك
الساطع في عينيك
أيتها السجية المضمخة
بالإخلاص"
(الديوان. ص 19).
إنهما يمنحانها دفء الحياة وطراوة الأيام معانقة قوافل الفرح:
"يا سلالم العمر المضيئة
اعبرينا
اتركينا نحيا كما نشاء
فهذا الشباب زهو
وأنت اخضرار مصفر
وقيت الخلاص"
(الديوان. ص 20).
2/1/ب: الصدق:
قديما قيل: "الكلام الذي يخرج من القلب يصل إلى القلب"، وهذا يصدق على شاعرتنا التي اتخذت من لغة القلب شعارا لها، فهي لا تحسن إلا أن تفكر بصوت مرتفع بدون مواربة:
"لغتي فكر
وفكري أنشودة ناي
راقصت ألحان القلب"
(الديوان. ص 25).
2/1/ج: التسامح:
رغم كل أشكال الخداع والنفاق التي تعرضت له الشاعرة من قبل الأحبة فإنها لا تحقد ولا تعامل بالمثل، بل لها من شساعة القلب ما يجعلها تترفع على أن ترد على الإساءة بالإساءة، إنها لا توزع سوى المحبة جريا على المثل السائر:"كل ‘ناء بما فيه ينضح":
يدي مرفوعة نحو
السحاب
لا العقاب"
(الديوان. ص 26).
2/1/ح: التحدي:
الإصرار على المضي قدما إلى الأمام رغم المآسي، رغم الأحزان، ورغم كل ما تتعرض له من أذى، وحده الكسيح المقعد من يتسمر في مكانه في انتظار من يمد اليد، وحده الغارق والعجز عن السباحة من يترقب انتشاله من قبل الآخرين، وشاعرتنا ليست من هذه الطينة:
"أحتفل بزغاريد الشجن
أمضي
أمضي
فأمضي"
(الديوان. ض 56).
إذا هي مصرة على التقدم حاملة معها شهوة المغامرة في اتجاه الحلم، ولا أحد يستطيع أن يوقف تدفقها نحو المستقبل:
"شهوة البدء تلاحقني
لا الصخر
لا القتل يوقفني"
(الديوان. ص 56).
وتبقى شاعرتنا فاطمة بوهراكة الشاعرة المحاربة والمناضلة على جبهات عدة مؤمنة ـ مهما تكالبت الظروف ـ أنها المنتصرة في آخر الجولة، ومن حقها أن تعتز وتفتخر بإنجازاتها:
"أيها الراحل عبر المسافات
كسرت صوتي
حطمت وجهي
ونسيت أني المزهوة
بالإنتصارات"
(الديوان. ص 42).
آمل أن أكون ـ من خلال هذه القراءة ـ أن أكون قد قربت القارئ الذي لم تتح له فرصة قراءة الديوان ـ من بعض عوالم الشاعرة، وانشغالاتها، وآمل أن تتاح لي الفرصة لأقارب الديوان من الناحية الشكلية، متوقفا عند اللغة والأسلوب والتصوير الشعري والإيقاع وغيرها من العناصر الشكلية التي استعملتها الشاعرة ولعبت دورا كبيرا في إثراء المضمون.