أمي.......لم تعد أمي
اذكرها عندما احتضنتني وأؤصتني بالاعتناء بنفسي وأخواتي، لم أدرك ساعتها المغزى من ذلك، قالت لي: اعتني بنفسك يا بنيتي، واهتمي بأخواتك؟ سألتها لماذا تقولين هذا الكلام يا أمي؟ أصابتني الدهشة وكان ردها: لا تدرين يا أمل لربما يحدث لي شيء؟ عندها انتابني شعور سيء، أمي تدرك ما لا أدركه؟! لقد كان مرضها بمثابة زلزال هز البيت، هذا البيت الذي لطالما حلمت به، عانت كثيرا حتى اشترته وجهزته، جازفت لتحصل على ميراثها من والدها المتوفي، لم تعبا بالمصاعب والمعوقات التي واجهتها، كانت أمي قوية ومصرة على أخذ حقها وشراء البيت، تقول دوما: أريد امتلاك بيت ليسترنا ويغنينا عن حاجة الآخرين، لقد تعب والدكم من دفع ايجار البيت الذي نسكنه، آن الأوان حتى نمتلك بيتا ونعيش فيه كما نشاء. وبالفعل حصلت أمي على بيت جديد، عشنا فيه أياما جميلة، لكن هل الأيام الجميلة تبقى؟!
لقد توفي والدي، عند تلك الحادثة، بدأت أمي تفكر بمصيرنا ومستقبلنا، نحن بناتها، تزوج أبناؤها الثلاث ولم تتوانى عن إعطاء كل واحد منهم حصته في البيت. وكان السؤال الذي ما زال يؤرقنا، هل والدتي فعلت الصواب؟ ربما هو الصواب بعينه، كانت خشيتها من خلاف يحدث بين الأبناء، هي ذكية بما يكفي. أخذت أقصر وأيسر الطرق، فارتاحت من التفكير المستمر والذي كان يراودها في كل لحظة: هل ستعيش بناتي من بعدي بأمان؟ وما سيحدث لهن عندما أفارقهن؟ لازمتها أيام قوتها وصلابتها وأيام مرضها، كنت أشعر دوما بخوفها الشديد على وعلى أخواتي، أذكر وقتها دخلت عليها وهي تجلس أمام التلفاز، سألتها هل تريدين شيئا يا أمي؟ ردت وقالت: كلا يا بنيتي، لا أريد سوى سلامتك؟ نظرت في عينيها وأحسست أن في فمها كلام كثير، قالت لي: اجلسي يا بنيتي، اسمعي يا أمل، لا تدري يا حبيبتي متى ستكون المنية؟ شعرت أن قلبي تسارعت نبضاته وحدقت بها وقلت: كلا يا أمي العمر المديد لك يا حبيبتي؟
صمتت وأردفت قائله: لا تقاطعيني يا أمل، هذه سنة الله في خلقه، قلت: لا لا يا أمي سيطول عمرك إن شاء الله، أشارت بيدها بما معناه أن أتوقف، قالت: يا أمل كوني قوية أنت وأخواتك واصبرن إن أصابني مكروه، واستعن بالله ولا تخشين أحدا الا الله، أوصيكن بالمثابرة والتعلم، وكن يدا واحدة، سألت نفسي: لماذا أمي تقول ذلك؟ هل سيأتي يوم أصحو فيه ولا أراها؟ كيف ذلك؟ هل هذا هو الواقع؟ وأنا أتهرب منه؟! فبعد وفاة أبي بعشر سنوات تعبت أمي كثيرا وأصابها الوهن وكانت الآم ظهرها ورجليها لا تفارقها، وبدت وكأنها لا تتمكن من سماع كلامنا جيدا، قلت لنفسي: أمي مريضة بالسكر منذ ثلاثين عاما.. لقد أكل المرض عليها وشرب.. أثر على بصرها فلم تعد ترى الا الشيء اليسير.. وأصابتها حالة نفسية صعبة.. تشعر بالوحدة ونحن معها.. يصيبها الحزن فجأة.. فلا نعلم ما سببه، أذكر أنها في يوم ما تعبت كثيرا وأصابها الأعياء، فذهبنا بها الى الطبيب، وأجرى لها فحوصات عديدة ومختلفة، واستمرت وقتا طويلا، حتى أخبرنا إنها تعاني من فجوة في رأسها، وهي مقدمة لمرض الزهايمر، لم نكن نعرف أن هذا المرض سيجرنا إلى أوقات صعبة وقاسية. لم اصدق ما قاله الطبيب: والدتكن تعاني من مرض الزهايمر، وسيأتي يوم لا تعرفكن فيه. لم نشأ ان نخبرها، فالصدمة كبيرة والألم أكبر، نظرت اليها وهي نائمة سألت نفسي: هل حقا ستنسيني يا أمي؟!! مرت سنوات بعد هذه الحادثة فنسينا كلام الطبيب أو لربما تناسينا، مرت عليها أوقات عصيبة، تتوعك بشكل مستمر: قلت لها: ما الذي اصابك يا أمي، قالت: لا أدرى يا حبيبتي، لكني أخاف عليكن كثيرا، استغربت لماذا تتحدث بهذه الطريقة، لطالما كنت ولا زلت اتضايق من لهجة الوداع ونبرة الوصية الأخيرة. ولكن ما بعد ذلك، أصبحت أمي تهيج عليها الذكريات القديمة، تنادي: يا أمل تعالي، أود أن أحدثك عن جدك وجدتك، أجلس بجانبها وتبدأ بالحديث وكلها شوق وحماس لسرد أحداث ومواقف عاشتها معهما. ويوما بعد يوم لم نشعر إلا وقد اشتد عليها المرض، وصارت ذاكرتها تخبو شيئا فشيئا، جلست انظر اليها وهي ممددة على السرير، لا تعرف أحدا منا، لم تعد تأكل كما كانت، أنظر إليها وقد خارت قواها، تصرخ دوما ليل نهار لا نعرف السبب!! أسال نفسي: هل هذه هي أمي القوية؟ أين ذهبت تلك الانسانة المثابرة والحريصة على الوصول الى ما تحلم به، أمي كانت كالمرأة المتعلمة والمثقفة، وهي لم تعرف الدراسة يِوما ما أو تتعلم حرفا واحدا، أمي لم تكن مثل غيرها، كانت بالنسبة لي ولأخواتي أما قوية ومفعمة بالحماس والنشاط، تحب العلم والمجازفة في الحياة، وهي أمية، تعشق الجمال والضحك وكل شيء جديد، أذكر عندما كنت صغيرة، كانت لديها ماكينة خياطة يدوية، تخيط لنا أجمل الثياب، تجلس من أول النهار إلى آخره وهي تقارع تلك الآلة، نجلس حولها ونرقب ـخر لمسة من لمسات يدها، ثوبا في غاية الروعة، تسألنا وهي ممسكة به...... ها ما رأيكن؟ كنت دوما أقول لها: ما ـجمله يا أمي! ترد علي: هذا لك يا صغيرتي؟ تنتابني تلك الذكريات فتعصر قلبي وأتمنى رجوعها ولو للحظة، أمي التي كانت صديقتي ورفيقتي في هذه الحياة، تشجعني دوما على الجد والاجتهاد في الدراسة، أذكر كلماتها والتي ما زالت عالقة في ذهني: أدرسي يا أمل، فالدراسة هي سلاحك الوحيد أمام مشاق ومتاعب الدنيا، لا زال صراخها يخرق أذني، تصرخ تارة وتبكي تارة وتصمت تارة أخرى....... قبل رحليها بأيام قليلة، سألتني فجأة: من أنت يا فتاة؟ أجبتها: أنا أمل يا أمي؟ وردت قائلة: أمل يا حبيبتي اين كنت؟ ضمتني الى صدرها وقبلتني كثيرا، أمسكت يدي وشدت عليهما، قلت: ما بالك يا أمي؟ هل تريدين شيئا؟ هل تحبين قول شيء؟ ردت علي: أخاف عليكن، أخشى عليكن، أنكن تكسرن قلبي! قلت لها: لماذا يا أمي؟ لماذا يا حبيبتي تقولين ذلك؟ لم افهم قصدها ولم أدرك ساعتها أنا واخواتي ان أمي اقتربت من النهاية. في صباح يوم صحونا عليها والهدوء بدأ يتسلل اليها، لم نعد نسمع صراخها، باتت تنام هادئة وصامته تتأمل السقف والجدران، نظراتها تحكي الشيء الكثير كأنها نظرت المودع، أحسست أنا واخواتي إن أمي بحاجة لطبيب، حرارتها ارتفعت بشكل ملحوظ، أصبحت تتنفس بصعوبة، خلال يوم واحد رحلت أمي ورحلت معها ذكريات عشناها معها، ذكريات سعادة وذكريات ألم وفراق، انظر لبستانها الجميل لطالما اعتنت به ولطالما أحبت زراعة ورد الياسمين والريحان، في محنة مرضها قطفت لها ورقة ريحان، ووضعتها على أنفها وبدأت تشمها وتمسك بها وتبتسم، سألتها: هل تذكرين رائحة ورق الريحان؟ تهز رأسها ويدها ترتجف وهي ممسكة بالريحان وتشمه، الآن أتذكرها أقف أنا وأخواتي أمام قبرها وعند شاهدها توفيت الحاجة عن عمر ناهز الثمانين عاما صبيحة يوم حزين أقرأ الفاتحة على روحها والألم يعتصر الفؤاد والدمع لازال في المآقي عندما أتذكرها أقول: ما أعطر ذكراك يا أمي اهنئ بحياتك الجديدة، ونحن سنبقى بانتظار موعد للقائك.