أم جبر ترفع هاماتنا عاليا في بيروت
استوقفني برنامج "حوار مفتوح" في قناة الجزيرة وصاحبه الأستاذ الفاضل (غسان بن جدو) الذي يثبت لنا المرة تلو المرة احترامه لعقولنا بطرحه الموضوعات الجادة والهامة في الحالة الفلسطينية خاصة والعربية عامة. لقد استضاف فيمن استضاف "أم جبر" التي تشارك في مؤتمر لحركة مناهضة العولمة العالمية. أم جبر هذه أم لأربعة أسرى وهي أم لأسرى كثر ومنهم عميد الأسرى سمير القنطار.
لقد تحدثت أم جبر بكل فصاحة وبلاغة ووضوح عن معاناة الشعب الفلسطيني. لم تتحدث عن نفسها أو عن أبنائها الأسرى بل تحدثت عن معاناة وطن وعن سلب أرض وعن قهر شعب وعن عذابات أسرى في سجون نازية القرن الحادي والعشرين. لقد تحدثت فبزّت كل المثقفين والسياسيين والمتفيهقين والمتنطعين والمستجدين على أبواب النفاق العالمي. لقد تحدثت "أم جبر" شامخة شموخ السنديانة فرعها في السماء وجذورها ضاربة هناك في الوديان والهضاب والوهاد في فلسطين الحبيبة. أم جبر تحدثت باعتزاز وفخر عن نضال الأسرى في السجون وعن صمود الأهل في الأرض. لقد كانت أصدق تعبيراً من البلاغات والبيانات واللقاءات والمهرجانات ومن مؤتمرات القاع والقمة. لقد قالتها بمضاء وعزم وصمود أن لا سلام مع هذا العدو المغتصب مهما طال الزمن. لا سلام لهم وهم ينعمون "بمائي وهوائي وأرضي وبحري وشجري على مرأى مني". لا سلام معهم وهم يقتلون ويدمرون ويقتلعون وينكلون في فلسطين كل فلسطين. لا سلام معهم وسجونهم مكتظة بأسرانا.
"من المستحيل أن نركع". ولم تنس أم جبر أن تشير إلى معاناة أسرانا في فلسطين المحتلة عام 48 وأسرانا من العرب؛ فهي بفطرتها وحسها الوطني لا تميز ولا تفرق بين الأسرى؛ فكلهم أبناؤها.
لله درك يا "أم جبر"! لقد أصبت كل المنظرين في مقتل بوضوحك. بوصلتك تشير إلى الهدف مباشرة أي إلى العدو الصهيوني الذي يستهدف الجميع. الكل مستهدف الآن.
بوركت "أم جبر" وبورك نضالك وعطاؤك وبورك التراب والوطن من خلالك يا أم المناضلين! يا أم الأبطال! يا أم العطاء! وبوركت أمهات فلسطين.
إليك "أم جبر" وإلى كل الأمهات في فلسطين الحبيبة خلجات لاجئ يتحرق ألماً وشوقاً ويتطلع يوماً للعودة إلى بئر الماء.. إلى الطابون.. إلى الحاكورة.. إلى ملاعب الصبا.. إلى الصخرة التي كان يصلي عليها أبي عندما كان يصطحبني إلى الكرم .. حتماً سنعود مهما طال الفراق يا فلسطين.
إلى أمّي التي نهضت ومضت
تنهض أمي
كالعنقاء من تحت الرماد
نُكِئَتْ الجراح
تبعثرتْ صورُنا
ودمدمتْ أحلامُنا
ونمْنا على سريرٍ من دمائنا.
اليوم أنا أَكْبُرُ وأَكْبُر..
وغداً وبعد غد سوف أُنازلُ وغْداً
وفي المساءِ أتفرغ لجمع "الحنّون" والزيتون.
هي لحظةٌ... هي ثوان
ما بين البَيْنَيْن
ما بين اشتعالِ نارٍ
وبين زرعِ أغنياتٍ على موجات الأثير
لا سبيلَ للرجوعِ إلى الأمام
لا سبيلَ للتقدمِ إلى العدَمْ
لا دموعَ ترقصُ على أشلاءْ
لا ثيابَ جديدةُ أيامَ الأعياد
لا نحلة تمتص رحيق الأزهار
وتنقلُ عطراً إلى الزِناد.
ما أدفأَ جبينَكِ يا أمّي!
رغمَ خطوط الزمن في محياك
إليْك تعدو راحتي
فخُذْي بقلبي... خذْي بنبضي
وخذْي بناصيتي
افتحْي الأبوابَ الموصَدة
وأغلقْيها علَي!
وصلتْ الخفافيشُ في العتمة
إلى كرمِي
ما اسمُ الكرم؟
لا أدري!
لماذا الآنَ تُغْلَقُ ذاكرتي؟
كدمعةِ عينٍ
عندما تذكرتُ أختي الصغرى
تذكرتُ غمازتَيْها
ولثغةَ السينِ على شفتيْها
لماذا أنتِ حزينةٌ يا بسمة الحقول؟
لماذا صلبوك؟
لا... لا تجزَعي!
فأنتِ ملاكٌ في أعلى عليين!!
أصبُ الزيتَ
في قنديلِ أمي
إلى الوجهِ الذي صَلى
إلى وجهِ الغربةِ التي
انشقتْ عن أغنيتين:
"ست الحبايب يا حبيبة"
"يما يا مَويل الهوا يا مَواليا
ضرْب الخناجر ولا حكم النذِل فيَا"
أقبّلُ روحَك يا أمي
ضُميني إلى صدرِِك
شِديني إلى زِنْدَيْكِ
ارْقِيني بتعويذتِكْ
غَطيني... ضُميني إلى صلواتِكْ!
آهٍ يا ولدي!
خذ فأسَ أبيك
واحرثْ الأرضَ لأحفادِك
وازرعْها سنابلَ عشقٍ
وخذْ عمري وعمرَ أبيك
كما أُعطيك
مفتاحاً لأحلامِك.
خذْ عمري... خذْ روحي
الضحكةُ بدأتْ بك
السهر ذاب على راحتك
عشقت الوطن من أجلك
اضربْ الأرضَ بيمينك!
لعلَ الماءَ ينِزُ من موتِك
لعلَ الماءَ يُنْبتُ لنا
زيتوناً وعنباً ومشمشاً ولوزاً وزعترْ
لعلَ الماءَ يوقفُ جرحَكَ الأخضرْ
وتعودُ إليَ كالأنبياء
تُتَوِجُ شقائقُ النعمان جبينَكَ
وتَخْطُرُ كما الملاكِ في بيتك
تجيءُ كباقةِ زهرٍ
تعطرُ جبيني
تسري كدفءٍ يتسللُ إلى بَرْدِي
كنسمةٍ تحلقُ فوق النجوم
وترسو على ساعدي
تَنْثالُ قطراتِ ندى ذاتَ صيف
على عتباتي
كرائحةِ قهوة الصباح
كالأقحوانِ ارتحلُ إليك!
وصلتني أخبارُك
قال الشبابُ عنك:
إنك كنتَ كالحصانِ الجامح
أيا خنجراً في ضلوعي انكسر
عندما وصلني الخبر
أين يداك لِتوقِفَ نهرَ أحزاني؟
أين ذراعاك تلفني؟
أين وعودُكَ لي أن تعود سالماً؟
فَلِمَن سوف تشرقُ شمسي بعدَ رحيلِك؟
ومن سوف يوقظُ فيَ الأمومةَ من بعدِك؟
من سيعصيني؟
من سوف يعطي المكانَ وجودَه؟
ومن سوف يلقي عليَ التحيةَ صباحَ مساء؟
ارضي عليّ يا أمّي
ومن سَيُقَبلُ يديّ؟
أريدُك معي.. لا ترحل
أريدُك تثرثرُ، تضحكُ، تلهو، تشاكس
أريدُ جنونَك.. صمتَك.. حزنَك.. كلَ شيء
حتى صراخك!
أريدُك قبلَ هجومِ الخريف
وقبلَ انحسارِ جدائلي
أحبُ شحوبَ وجهِك
أحبُ الرصاصَ يزَيِنُ جبينَك
أحبُكَ شهيداً..
أحبُكَ حياً..
فَمَنْ يعيدُ إليّ النهار؟
برضاي عليك
أريدُكَ حياً!!