الأحد ٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٥
بقلم ليلى بورصاص

أنين الصمت

قبض عليه ومجموعة من الفدائيين في منزل منزو في آخر الحارة.. بعد الانتهاء من مهمة مستعجلة قرب مركز حراسة صهيوني بمعبر رفح.. يد القضاء الظالمة قضت عليه بثلاث سنوات من السجن.. ونفذ الحكم.. اقتيد إلى الزنزانة مكبل اليدين .. حافي القدمين.. تراءت له الزنزانة من بعيد فخيل إليه انه سيدخل إلى الجحيم.. خفق قلبه بسرعة فائقة.. دفعه الحارس وأغلق خلفه الباب الحديدي الصدئ فأحس روحه تخرج مع آخر فتحة حالت بين العتبة والباب.. التفت إلى الداخل ونفسه مقبوضة، رأى أشباح بشر.. وجوه مدبوغة بالتعاسة والبؤس.. وخط الزمن فيها خطوطا بارزة من الحزن والكآبة.. بدا الزمن متوقف في هذا المكان..

من بين قضبان حديدية لنافذة صغيرة موجودة أعلى إحدى الزوايا امتد شعاع شاحب يذوب كلما اقترب من ارض الزنزانة، فلا يكاد يضيء المكان.. ولا يكاد الهواء المتسرب منها أن يبدد رطوبة كثيفة في الجو .. أحس أن رئتاه مكبلتان فلا يستطيع التنفس.. انزوى مقرفصا في إحدى الزوايا ودفن رأسه بين ركبتيه.. شعر انه يشيخ مع كل لحظة تمر به في هذا المكان.. بدأت الأفكار تنهش عقله الباطن وبدأ يعد اللحظات للخروج من هنا: ثلاث سنوات.. أكثر من ألف يوم .. كم من الساعات والدقائق تكون؟ نظر إلى ساعة بيده.. فوجد أنه لم يمر على وجوده بهذا المكان سوى ربع ساعة.. يا الهي مرت ربع ساعة من ألف يوم.. لن استطيع.. لن أتحمل .. ضرب جبهته بكفه.. أريد أن أموت : آه الموت انه الراحة الحقيقية .. فزملاؤه الذين استشهدوا في العملية ودفنهم بيديه.. انه يحسدهم الآن.. انه يتمنى لو كان معهم فتنتهي آلامه، على الأقل يكون قد أدى واجبه كاملا نحو هذا الوطن.. هذا الوطن.. انه يحب هذا الوطن حتى النخاع.. لم يحس يوما انه يوجد شيء في حياته أهم منه أو اعز منه أو أحب منه إليه.. لقد فتح عينيه على مناظر الدم والاغتصاب والقتل التي يمارسها المجرمون الصهاينة على أفراد شعبه الضعيف، فزرعت في قلبه بذرة التضحية التي كبرت فأصبحت شجرة عالية أغصانها تداعب خيوط الشمس، وجذورها ضاربة في أعماق الأرض، منذ نعومة أظافره وضع صوب عينيه هدفا وحيدا.. أن لا يترك العدو يهنأ في وجوده على هذه الأرض .. أن لا يدعه يشعر بالأمان لحظة واحدة.. أن يذكره انه غاصب وان لهذه الأرض أصحابا حقيقيين لن يتوانوا في الدفاع عنها.. سيفجر كل يوم سيارة أو مقهى أو مركز حراسة.. سيحرق آلاف العجلات المطاطية ليعطل السير.. سيرمي آلاف الأحجار.. إن من كان مثله لا يمكن له أن يظل مكبل اليدين.. لكن كيف السبيل إلى ذلك وهو حبيس هذه الزنزانة البغضاء.. أحس انه مخنوق وانه حانق وغاضب.. لكنه لا يستطيع شيئا ..

بدأت الشمس تميل نحو المغيب.. وبدا الليل يبسط سلطانه على الكون غير عابىء بآلام الفتى.. وهو يرى النور الشاحب يوشك أن يضمحل ويبدأ في الاختفاء رويدا رويدا ثم يختفي تماما.. غشي المكان ظلام دامس ثقيل.. ولف الأحياء الموجودة في الزنزانة صمت مكدود.. ولم يعد يسمع فيها إلا أنفاس الليل الغامضة.. ونامت الدنيا في تلك الليلة لا تلق بالا إلى أنين الأسرى الغارقين في عتمة دجنة صلدة.. استقبلها الفتى كما يستقبل الموت.. أحسها تنفذ إلى أعماقه.. وتسيطر على حواسه.. أحس حرقة في حلقه.. انه مرهق لكنه لا يستطيع النوم.. ما العن السجن.. بلغ يأسه ذروته.. أهكذا تنتهي حياته؟ حياة مليئة بالنضال والكفاح.. لا.. ستمر السنوات الثلاث.. وسيعود إلى الميدان.. لم يبق له سوى انتظار الفرج.. وضع رأسه على راحته.. فلم يدر أنه قد استسلم للنوم..


مشاركة منتدى

  • صمت الانين ...
    اة انين الصمت الذي راح يتسلل الى الروح كي يفعل بانينه الصامت ..
    انت رائعة وكلكل رائعة

  • تحية عميقة لـ ليلى بورصاص من خلال "أنين الصمت":.

    أحد نقاط قوة و جمال أسلوب ليلى بورصاص الأدبي عناوينها أو عنونتها الحبلى بتراجيديا شخوصها. عبثاً حاولت أن أتلاعب بعنوان هذه القصة ليكون "صمت الأنين" بدلاً عن "أنين الصمت" فوجدت أن العنوان الأصلي الذي عنونت به ليلى بو رصاص القصة أبلغ و أدعى ربطاً بالموضوع و تأثيرا في القاريء من حيث أن الصمت و الأنين كمفردتين و دلالتين.
    للمرة الثانية و القاصة ليلى بورصاص الجزائرية المسكونة باأطول مسلسل يومي درامي لمأساة إنسانية في التاريخ الحديث و التي لا يضاهيها ربما إلا مأساة الهنود الحمر. هذا المسلسل عرضته و تعرضه أغلب التلفزات و الفضائيات في العالم حتى الإخبارية، هل رأيتم تلفزة إخبارية تعرض مسلسلاً درامياً؟ نعم إنها الدراما الفلسطينية؟ أقدم و أطول دراما عرفتها التلفزات في العالم.
    إن المعاناة الفلسطينية على المستوى الإنساني و القومي و الشخصي ملهمة للكثير من الكتاب و السينمائئين و الفنانين. و في تعاطي القاصة ليلى بورصاص، مع المعاناة الفلسطينية إلتزام بهذه القضية. و ليلى بورصاص بكتابتها للمرة الثانية إليكترونيا عن الهم الفلسطيني هي تذكرني بجدل فكري دار في أحد المنتديات مؤخراً عن أن المفكر و الكاتب العربي سوف لن يجد الوقت و المساحة للتعاطي مع أي شأن قومي عربي نتيجة لغرق و إنشغال كل دولة من الدول العربية و كل شعب من الشعوب العربية و بالتالي كتاب و مفكري كل دولة من الدول العربية في همومها و شئونها المحلية. تثبت ليلى بو رصاص تمسكها بترتيب أجندة القضايا مع أم القضايا. القضية الفلسطينية

    أسلوب هذه القصة،"و إن كنت لا أحب تقييم الأسلوب على وجه العموم فالأسلوب من وجهة نظري أمر شخصي جداً و من خصوصيات أي إنسان و بالتالي من خصوصيات أي كاتب" و مع ذلك تميزت ليلى بقدرتها على إستخدام "مشرط" دقيق في إقتطاع جزء مكاني و موضوعي محددين و تعاملت معهما مثلما تعاملت مع أحد الفدائيين الفلسطينيين في معبر رفح، كمسرح مكاني، و هو المعبر الذي يرمز لعبودية العصر الحديث و عنصرية فوقية تمارسها حثالة البشر ضد أصحاب الحق و الوطن و الأرض بدعم و غطاء من جهابذة الفوقية و التعالي و الغطرسة في البيت الأبيض، الذيين يسمون رئيس حكومة الحثالة البشرية بـ"رجل السلام" بعد كل تجاوزاته الأخلاقية و السياسية و الإنسانية.
    لقد تعاملت ليلى بنت الجزائر مع الموضوع الفلسطيني في تحد لكل اللذين راهنوا و يراهنون على أن معاناة الشعوب العربية ستجعل الكتاب العرب ينكفيئون على قضاياهم المحلية و لن يجدوا الوقت أو المساحة حتى للتفكير في القضايا القومية خارج الدولة القطرية لشدة و فداحة ما تعانيه و ستعانيه الدول العربية سواء لأسباب ذاتية أو غيرها. ليلى إنشغلت بالهم الجزائري لكنها لم تنس التفكير و الكتابة و التعاطي مع الهم الفلسطيني العربي.

    صادق الود و التقدير

    عبداللطيف الضويحي ---- الرياض
    dwaihi@agfund.org

    }}

  • الأستاذة ليلى بورصاص
    تحية طيبة وبعد
    هذه قصة قصيرة تحاكي بعض واقع المعتقلين الفلسطينيين في فترة السبعينات والثمانينات. أحسنت صنعاً بتخيلك الزنزانه ومشاعر السجين.

    أ.د. سعيد إبراهيم عبد الواحد
    جامعة الأزهر - غزة - فلسطين
    abdelwahed_prof@yahoo.com

  • الانسة ليلى بورصاص اولا اسمحي لي ان اقول سبحان الذي له في خلقه شؤون جمال وحرف مبهرين. قصتك قصة الاف الشباب الفلسطينيون الذين يزج بهم يوميا في سجون الاحتلال. لقد وفقت في تصوير احساس الفتى وتصوير الزنزانة البغضاء فقد حملتنا ان نتصورها معك. انت كاتبة جزائرية تظنين بنفسك الابتداء لكن ما اراه هو كاتبة مخضرمة. والكاتب الحقيقي هو الذي لا يرتبط بحدود مجتمعه بل يتعداه وهذا ايضا وفقت فيه وانا اضيف رايي الى راي السيد عبد اللطيف الضويحي الذي هنا فيك عدم افراطك في الاهتمام بالمشاكل الجزائرية وتفريطك في القضايا العربية الراهنة. اهنا الجزائر و الامة العربية بك ودام حرفك لامعا .

  • قصتك رائعة فعلا مليئة بالاحاسيس وانت ايضا رائعة يا من سمعت للصمت انينا...

  • ليلى بو رصاص كاتبه موهوبه وانسانة رقيقة المشاعر يضهر عليها الحزن حتى في كتاباتها اشكرها اقدرها واحترم كتاباتها

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى