إلا جدتي
«لم تكن جدتي ككل الجدات ..»
كانت الصورة العالقة بمخيلتي عن الجدة أنها أم رؤوم تغدق بسخاء من ينبوع حنانها الفياض على كل من حولها من الأبناء والأحفاد فتشملهم بعطفها وحنانها.. إلا جدتي لأبي، فهي جدة من نوع خاص.. بالرغم من أنها أشرفت على الثمانين فمازالت تعتني بنفسها بشكل زائد، وتتمسك بأهداب الدنيا بكل قوة وكأنها تأبى ألا تتركها وفي كأسها قطرة واحدة..
ومنذ وعينا على الدنيا عرفنا من خلالها تلك الأشياء التي كانت تنهرنا عليها جدتي لإحضارها في التو واللحظة .. قلم الحواجب الذي كانت ترسم به حاجبيها، والملقاط الذي كانت تزججهما به، و الكحل الذي تكحل به عينيها فيزيدهما قسوة على قسوتها، والحناء التي حولت رأسها الأشيب إلي هالة متوهجة من النار، وأم إسماعيل صديقتها العجوز التي كانت تأتيها من وقت لآخر لعمل المساج لها ومدها بالوصفات الشعبية التي لا تخيب رجاء، والتي تجدد بها شبابها الذي انصرم وولى قبل الأوان " علي حد قولها " وكثيرا ما تلقي بتبعة الزمن علينا نحن الذين جئنا إلي الدنيا فكنا والزمن عليها ..
هكذا كانت جدتي "بدر" قاسيه القلب كالحجر الصوان، تعيش لنفسها فقط مع الأيام الخوالي التي ولت وتجتر أفراح الزمن البعيد.. تقوم الدنيا ولا تقعد إذا لمحت في وجهها الأبيض المستدير انحرافا أو تغضنا، وتصب جام غضبها علي الزمن وعلينا و تنعي أمها وأبيها اللذين رحلا منذ نصف قرن أو يزيد وتركاها فريسة للزمن الغادر..
ولا أنسى ذلك اليوم الذي جاءها فيه نبأ وفاة أحد أبناءها ولفرط دهشتي وجدتها تلملم حاجياتها وتنهرنا للبحث معها عن الطرحة السوداء والعباءة المطرزة والمنديل الذي تخرج به في مثل هذه المناسبات والجورب الأسود والحذاء ولا تنسى بالطبع حق النشوق الذي لم يكن يفارقها ليل نهار..
سامحيني يا جدتي كنت أتمني أن تكون الصورة التي في مخيلتي عنك غير تلك .. مازالت أصابعك الخشنة المخضبة بالحناء مغروزة في جسدي، فلا أنسى قرصتك التي تخرج بالدم وتترك مكانها علامات زرقاء مستديرة في أجسامنا .. حتى حكاياتك التي كنت ترويها لنا عنوة لكي تنعسينا لم تكن تخلو من قسوة ورعب، فكنت أسمع من صديقاتي عن الحكايات التي ترويها لهن جداتهن عن الشاطر حسن وسندريللا .. والأقزام السبعة ..
أما في سرير جدتي الحديدي ذي الأعمدة الأربعة بالناموسية البيضاء عرفت فيه العفاريت والأشباح والقطة المخاوية التي كان يأتي إليها صاحبها كل يوم وهو معمم بأمعائها.. ويداه مخضبتان بالدماء ..
تزوجت جدتي ست مرات آخرها شاب يصغرها بأربعين عاما استولي علي كل ما حصدته في سني حياتها وهرب بعد أن باع بيتها.. وتنصل جميع أبنائها لها، فمن ذا الذي يستطيع أن يتحمل تلك المرأة المتصابية المتسلطة التي لم ترضعهم غير القسوة والجفاء.. إلا أبي.. فقد أبى إلا أن تبقى عنده معززة مكرمة فأفرد لها غرفة في بيته المتواضع وبدلا من أن تشمله بحنانها وعطفها زادت قسوتها نحو أبي وتحركت مشاعرها نحو أبنائها وأحفادها الآخرين الذين تنصلوا لها.. فزادت شكوتها نحونا وتبرمها منا وقسوتها علينا وخاصة علي أمي، لكن أبي كان دائما يمتص غضبنا ويذكرنا بأنها أمه وجدتنا .. فاعتدنا علي قسوتها مع شدتها من أجل أبي..
وفي أحد الأعياد أرادت أن تمثل جدتي دور الجدة فنادت علينا جميعا في الصباح وفوجئنا بها تدس في يد كل منا عيديه.. بضعة قروش قليلة.. وكم كانت دهشتنا كبيرة لأنها لم تكن عادتها.. بعد قليل نادت أخي ليشتري لها حق نشوق.. فتلكأ الصغير بحجة أنه يلعب مع أقرانه.. ولدهشتنا وجدناها تطالبه بالعيديه..
كانت صدمة لنا جميعا قبل أن تكون للصغير، وعقدنا نحن الصغار اجتماعا مغلقا.. اجتمعنا علي شيء واحد ربما لا نستطيع الآن أن نتفق عليه ونحن كبار .. فقد رد كل منا عيديته إليها وتركنا لها الحجرة وانصرفنا.. لقد ثرنا جميعا على شئ بداخلنا لم نكن نعرف معناه حينئذ. عرفناه عندما كبرنا. انه الكرامة .. حتى مع جدتي..