الأبعاد الاجتماعية للجريمة المعاصرة
تعتبر الجريمة ظاهرة اجتماعية خطيرة،والجريمة في حقيقة أمرها لا تعدو إلا أن تكون شكل من أشكال الانحراف عن السلوك السوي للفرد، وقد أصبحت ظاهرة الانحراف والجريمة في الفترة المعاصرة التي تحول فيها المجتمع الدولي إلى قرية صغيرة، ظاهرة خطيرة جديرة بالرصد والدراسة والتحليل خاصة إذا ما تعلق الانحراف بالأطفال الذين يشكلون عماد المستقبل لأي مجتمع، كما أن الانحراف في مرحلة الصغر يشكل خطورة على المجتمعات ذلك أن الطفل المنحرف قد يكون هو مجرم الغد حيث إن احتراف الجريمة لا يأتي فجأة أو من فراغ،وإنما قد يكون الانحراف منذ الصغر مؤشرا لبوادر إجرامية تستمر مع الشخص طوال حياته إذا لم يجد التوجيه السليم من الراشدين حوله.
وهذا يقودنا حتما على طرح إشكاليات كثيرة أهمها: - ما المقصود بالجريمة أو الانحراف؟
ما هي الأبعاد الاجتماعية للجريمة المعاصرة؟
كيف السبيل لمعرفة السلوك الإنحرافي عند الأطفال؟وكيف يتحول هذا الطفل المنحرف إلى مجرم محترف في المستقبل؟
مفهوم الجريمة:
تعرف الجريمة بأنها فعل أو امتناع يخالف قاعدة جنائية يحدد لها القانون جزاءً جنائياً والمشرعون للقوانين هم الذين يضعون قواعد السلوك آمرين بالامتناع عن فعل بعض الأشياء وإتيان بعضها الآخر والأحكام المشرعة من قبل المشرعين ترتبط عادة بأنظمة الدولة المختلفة وسياستها (1)
مفهوم الانحراف:
أ- التعريف اللغوي للانحراف:
الانحراف هو الميل والعدول يقال انحرف عنه وتحرف واحرورف أي مال وعدل. وحرف الشيء عن وجهه أي صرفه وإذا مال الإنسان عن شيء يقال انحرف. وانحرف بمعنى مال (2)
ب- التعريف الاجتماعي للانحراف:
هو كل سلوك يخالف المعايير الاجتماعية وفي حالة تكراره بإصرار يتطلب تدخل أجهزة الضبط الاجتماعي (3)
ج- التعريف القانوني للانحراف:
الانحراف هو كل ما من شأنه إلحاق الضرر بفرد أو جماعة من الأفراد في المجتمع (4)
د- التعريف الإجرائي للانحراف:
يعرف الباحث الانحراف بأنه أي سلوك يرتكبه الشخص مخالفاً للأعراف والتقاليد والقيم في داخل السياق الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد، ويتسبب في تدخل السلطات الرسمية لإيقافه والحد منه.
ومن خلال هذه التعريفات نرى أنّ الجريمة في حقيقة أمرها لا تعدو إلا أن تكون شكل من أشكال الانحراف عن السلوك السوي إلا أن القانون الجنائي وضع لها طابع الجريمة أو السلوك الانحرافي أو السلوك غير المشروع وذلك لمخالفتها لنص معين في القانون الجنائي السائد في المجتمع.
ونظراً لأهمية ظاهرة الانحراف عن السلوك السوي كمؤشر للجريمة فقد احتلت دراسة هذه الظاهرة جزءاً لا يستهان به من تخصصات مختلفة مثل الاجتماع والنفس والتربية والجغرافيا والبيولوجيا والقانون حيث زخمت هذه التخصصات بما يستعصي حصره من المؤلفات والبحوث التي تناولت هذه الظاهرة محاولة تفسيرها والكشف عن العوامل التي تقف وراء نشأتها.
الاسباب الاجتماعية للجريمة المعاصرة في الجزائر:
إن الجريمة ظاهرة اجتماعية لا يخلو منها مجتمع، فهي تحصل في كل المجتمعات، وليست محصورة في فئة أو وسط اجتماعي محدد، وهي أيضا ليست مرتبطة بوقت أو فترة معينة، فهي نشأت منذ بداية التاريخ البشري إلا أنها تختلف كماً ونوعاً من مجتمع لآخر، ومن زمن إلى زمن، حيث إن الجريمة ظاهرة اجتماعية تمس أفراد المجتمع، وأخطارها تقع عليهم، والمجتمع يتأثر.بذلك كله وفي هذا السياق تكشف لنا معظم الدراسات التي أجريت في المجتمعات العربية بما فيها الجزائر عن ميل واضح نحو المعالجة الجنائية / القانونية لهذا الموضوع سواء من حيث مجالها أو أسلوبها أو الهدف منها، فكانت تنصب على جنوح الأحداث، تعاطي الحشيش والمخدرات، تجارة الخمر، تجارة الجنس السرقة،...الخ.
فواقع المجتمعات اليوم ومنها الجزائر يؤكد على أن مختلف الجرائم مردها إلى متغيرات اجتماعية متعددة، ولعل أبرزها وأهمها هو ظاهرة الفقر، الذي أصبح من سمات العصر الحديث، وهو يطبع كل المجتمعات الحديثة منها يؤدي انتشار الجريمة في المجتمعات الإنسانية إلى فرض تحديات على صانعي القرار ومنفذيه. وكنتيجة للتحولات الاجتماعية العامة والتي شهدها المجتمع الجزائري في العقدين الأخيرين فقد زاد اهتمام العامة بالخوف من الجريمة بكل أبعادها، ومن الاهتمام به كمشكلة اجتماعية تهدد الأمن العام للمجتمع وتتطلب رصد المصادر المناسبة لمعالجته وتحديد الفئات الاجتماعية المتضررة منها.
وعلى الرغم من التراكم الكبير في البحوث الميدانية التي أجريت في هذا المجال، إلا أن الاهتمام بهذه المشكلة لازال متجدداً علماً بأن غالبية هذه البحوث تتناول الانحراف الاجتماعي من البعد القانوني فقط.
من خلال هذا الطرح نجد أن العديد من الدراسات التي عالجت موضوع الفقر وموضوع الجريمة لم تهمل التحولات الاجتماعية التي تحدث على المستوى المحلي أو العالمي، على اعتبار أن هذه العمليات تشكل المحددات الأساسية لكلا الظاهرتين في البلدان المتقدة و النامية، والجزائر تعتبر ضمن قائمة هذه البلدان التي تتفشى فيها كل من ظاهرة الفقر والجريمة، فاعتمدت سياسات تنموية للحد من ظاهرة الفقر والجريمة.
علاقة الفقر بالجريمة:
لقد شغلت الظروف الاقتصادية والاجتماعية للأفراد والجماعات وعدم المساواة الاجتماعية اهتمام آخر من العلماء والمفكرين والمصلحين الاجتماعيين ونسبوا إليها كثيراً من الأمراض والعلل الاجتماعية وفي مقدمتها ممارسة الجريمة وقد اعتقد بعضهم أن الأمراض الاقتصادية والاجتماعية في بعض البلدان المتطورة كأمريكا مثلاً هي المسؤولة إلى حد كبير عن الجريمة وعن تزايد معدلاتها،وقد أسهم عدد كبير من علماء الاقتصاد وآخرون غيرهم بمن فيهم علماء الاجتماع بدراسات متعددة لتوضيح اثر العوامل الاقتصادية وعدم المساواة الاجتماعية في تشكيل العوامل الأساسية للانحراف والجريمة.
وفي إطار هذا الاتجاه فقد أكد "روبرت ودسن R. wodson" أنه حيث تكون معدلات الجريمة مرتفعة تكون البنية الاقتصادية ضعيفة ويتمثل هذا الضعف في إهمال المشاريع الاقتصادية الحيوية ونمو البطالة وتزايد معدلات الخراب وتدمير الأشياء والممتلكات بسبب الافتقار إلى الخدمات العامة والدعم المالي.(5) ويوضح "جيفري Ray Jefferey" أهمية العوامل الاقتصادية في الدافع إلى ارتكاب الجريمة بقوله (أن المدخل الأساسي للسيطرة على الجريمة ومحاولة منعها أو ضبطها له صلة قوية بما أصبح يعرف اليوم بالتحليل الاقتصادي للجريمة). (6)
مما سبق يتضح أنّ الفقر مسبب رئيسي للجريمة المعاصرة في العالم بصفة عامة والجزائر بصفة خاصة، فإرتفاع مستويات الفقر والبطالة في العصر الحالي عمل على تحريك دواليب الجريمة وتطوير أشكالها.
علاقة الإنحراف عند الطفل بالجريمة: إن الجريمة في العصر الحالي إصبحت متفشية بشكل فظيع يبعث على القلق، فلم تعد الجرائم قليلة كما في الماضي، بل إزدادت توسعا وإنتشارا وتنوعا كذلك،إنّ هذا الإرتفاع الرهيب في مستوى الجريمة يترتب عن عوامل كثيرة وأهمها بطبيعة الحال العوامل الإجتماعية.
إنّ الإنسان بوصفه كائنا إجتماعيا فإنّه يتأثر بهذا المجتمع، ويحاول في المقابل التأثير فيه،ولكن يكون أحيانا هذا التاثير ذا طابع سلبي أو إجرامي،وإذا ما تتبعنا السبب فإنّه ينطلق من الفرد فالأسرة فالمجتمع،والفرد في بداية نشأته يكون ضمن إطار الأسرة، ومن هنا تبدأ مرحلة تكوين شخصيته.
والإجرام لا يتأتى بين ليلة وضحاها، وإنّما هو نتيجة تراكمات بعيدة المدى، أي أنّها تنطلق من النواة الأولى أي مرحلة الطفولة حتى الشباب، فعادة ما يكون المجرم في طفولته طفلا منحرفا، أي سلوكه غير سوي، وواجب الاسرة في مثل هذه الحالات هو الإنتباه إلى الطفل وملاحظة سلوكه وتصرفاته،فإن كانت غير طبيعية بمعنى عنيفة،متأزمة،وجب الإهتمام بالطفل ومحاولة علاجه من مشاكله النفسية.
لأنّ إهمال هذا الطفل المنحرف في أفعاله ( العنف،السرقة، الكذب...)، سوف يتطور الأمر عنده تدريجيا حتى يصبح بمثابة عادة أو حرفة مستقبلية، فمن تعود مثلا على العنف والشجار و الإعتداء على الآخرين، والإستيلاء على حاجياتهم سوف يتعود تدريجيا إلى مجرم محترف، فمن الطفل صاحب السلوك الإنحرافي إلى المجرم المحترف وهنا يكمن الإشكال.
وأسباب هذا السلوك عند الطفل المنحرف/ المجرم المستقبلي يرجع إلى:
-1 التفكك الأسري:
لقد أثبتت دراسات عديدة أن كل خلل أو إضطراب يعرقل الأسرة عن أداء رسالتها في تربية الأطفال على الوجه الأكمل، يؤدي غالبا في المستقبل إلى حالات الإنحراف و الإجرام.
"فالأسرة هي الجماعة الأولية و البيئة الصالحة التي يشبع الطفل حاجاته البيولوجية و الإجتماعية و النفسية، لذلك فالعامل الأسري له دور كبير في توجيه سلوك الحدث سواءا نحو الاستقامة أو نحو الانحراف، و استواء الأسرة من عدمه يتوقف على بنيانها، و مجموعة القيم السائدة فيها، و كثافتها و علاقة أفرادها، و المستوى الاجتماعي و الإقتصادي للوالدين".(7)
2-التسرب المدرسي:
لقد تفاقمت ظاهرة التسرب المدرسي في المجتمع الجزائري، حيث بلغت نسبة المتسربين سنويا من منظومة التعيلم على كل المستويات 532 ألف.
هذا ما يجعل الأحداث عرضة لجميع مظاهر الانحراف و الإجرام، خاصة في ظروف إقتصادية و إجتماعية متردية.
3-الإنهيار الخلقي:
إن الإنهيار الخلقي للأسرة له آثاره السلبية على الأطفال خصوصا، مما يدفعهم في غالب الأحيان إلى الإنحراف و الجريمة، و السبب في ذلك يعود إلى غياب مشروع تربوي على مستوى الأسرة و تفكك الروابط الأسرية، و ضعف الوازع الديني لدى العديد من الأسر في المجتمع الجزائري.
4- المحيط الاجتماعي:
و "نقصد به الحالة الاقتصادية للأسرة، و حالة المجتمع المحيط فإذا كانت الأسرة تعيش تحت عتبة الفقر، هذا يعني عدم توفير الحاجيات الضرورية لأفرادها، مما يدفعهم في كثير من الأحيان إلى اتباع سلوكات إجرامية كالسرقة و التسول و غيرها"(8)
لقد أثبتت بعض الدراسات في الجزائر بأن ضيق المسكن يجبر الحدث على أن يقضي أغلب أوقاته خارج البيت، مما يجعله معرضا للإحتكاك بأفراد يعيشون نفس الظروف، و قد يؤدي ذلك في كثير من الأحيان إلى اتخاذ الجريمة كأسلوب للحصول على إحتياجاته، عادة ما تكون مصحوبة بجرائم أخرى مثل: تناول و بيع الخمور و المخدرات و ارتكاب الفواحش، و غيرها من الجرائم.
فالوسط الاجتماعي له تأثير كبير على الفرد من حيث تحديد سلوكاته، إما بالايجاب أو بالسلب، و غالبا ما تؤدي الظروف الاجتماعية السيئة إلى ظاهرة الانتحار، و إن كانت هذه الظاهرة ناتجة أيضا عن عوامل نفسية و إقتصادية في بعض الأحيان.
5- وسائل الإعلام:
تعد البرامج والمسلسلات التي تعرضها وسائل الإعلام المختلفة ذات تأثير مباشر على السلوك الاجتماعي للأحداث حيث تستثير خيالهم وتدفعهم في بعض الأحيان إلى تقمص الشخصيات التي يشاهدونها خاصة ما اتصل منها بالمغامرات والحركة والعنف وقد تتحول حالات التقليد والمحاكاة إلى ممارسة فعلية لأعمال العنف التي يترتب عليها انسياق الحدث في مسار الجنوح وارتكاب الجرائم.
التصور الإسلامي للانحراف: لقد أولت الشريعة الإسلامية عناية خاصة بالاطفال وكفلت لهم عدداً من الحقوق الخاصة التي تتيح لهم النمو بشكل سليم من جميع النواحي الجسمية والاجتماعية والنفسية بشكل يتوافق مع الفطرة والطبيعة التي فطر الله الإنسان عليها وقد تجلت هذه العناية في مباديء وقائية وتشمل:
1- حسن اختيار الزوجة: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" وهنا يلاحظ عناية الإسلام بالمولود قبل مجيئه من خلال حسن اختيار الأم حيث تعتبر الموجه الأول له وصلاحها يعتبر مؤشر مهم لصلاح الأبناء فيما بعد.
2- اختيار الاسم الحسن له: بعد مجيء الطفل يقرر الإسلام أنه لابد أن يختار الأب اسم حسن يشعره بالفخر والاعتزاز بين أقرانه ويشعره بأنه له قيمة داخل المجتمع يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "من حق الولد على الوالد أن يحسن أدبه ويحسن اسمه".
3- حقه في الرعاية والإنفاق: ويشمل ذلك توفير ما يحتاج إليه الطفل من غذاء وكساء ومأوى وخدمات طبية ونفقة تعليمه إلى غير ذلك مما يحتاجه الطفل إلى أن يبلغ سناً يقدر فيها على الكسب. وتكون هذه الرعاية واجبة على الأب فإذا كان ليس له أباً أجبر وراثه على نفقته على قدر ميراثهم منه ويهدف الإسلام من توفير هذه الحاجات الأساسية إلى إبعاد الطفل عن الضياع والحاجة لكي ينمو في جو نفسي واجتماعي متوافق ويتمتع بنمو عقلي وجسمي سليم وهذه من العوامل الأساسية التي تبعده عن الانحراف.
وتشمل رعاية الطفل في الإسلام اليتيم واللقيط حيث أولت الشريعة الإسلامية عناية فائقة لليتيم قالت تعالى "ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح" (البقرة، آية 220).
4- حقه في التربية والتعليم: نظراً لأهمية التربية في تنشئة الطفل فقد أوجبها الإسلام على والديه أو من يقوم مقامهما، قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً" (التحريم، آية 6).
ووقاية الابن من النار تعني صيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق ويحفظه من قرناء السوء.
5- حق العدل بينه وبين أخوته: أوجبت الشريعة الإسلامية على الوالدين أو من يقوم مقامهما العدل بين الأبناء في الأمور المادية وفي الحب والتودد إليهم فلا يحل لهما تفضيل بعض الأولاد على بعض لما يترتب على ذلك من زرع العداوة والحقد والحسد ومن هنا وجب العدل بين الأبناء في كل المعاملات، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم". والإسلام بهذا العدل في المعاملة يحمي الطفل من كل صور الاضطراب في نموه الشخص والانفعالي والاجتماعي.
المراجع:
1-مراد بن علي زريقات: العوامل الاجتماعية للإنحراف، الرياض –السعودية،2007،ص3
2-سليمان العيد: وقاية الأولاد من الإنحراف من منظور إسلامي، المجلة العربية للدراسات
الأمنية والتدريب، المجلد 14،ص ص298-343
3- مراد بن علي زريقات: العوامل الاجتماعية للإنحراف، ص3
4-نفس المرجع:ص4
5- مفهوم الجريمة والمجرم والضحية:http://www.alhnof.com
6- مفهوم الجريمة والمجرم والضحية:http://www.alhnof.com
7-عوامل الظاهرة الإجتماعية في الجزائر: http://www.startimes.com
8- عوامل الظاهرة الإجتماعية في الجزائر: http://www.startimes.com