الروح المأساوية في شعر «خليل حاوي»
1. المسيرة الثقافية للشاعر خليل حاوي
تمهيد:
خليل حاوي (1919-1982) هذا الشاعر الفذ الذي جمع بين الفلسفة والنقد والأدب، حيث جاءت أعماله الشعرية كترجمان لرؤاه الفكرية، فلطالما كان حريصا على الجمع بين الدراسات الفكرية المتأصلة ذات المعاني الإنسانية الغنية بمختلف المعارف فهذه "التجارب الشعرية أيا كانت، تستمد قليلا أو كثيرا من التيار الإنساني، ومن النبع الغزير الذي تفيض به النفس الإنسانية ولكن تبقى هناك التجربة الإنسانية الخالصة التي تستقطب كل المشاعر الإنسانية من حولها، فهي تقتبس من القومية أصولها،ومن الوطنية روحها، ومن التاريخية صيرورتها، ومن الاجتماعية طموحها، ومن الخيالية فلسفتها، ومن الأسطورية حذاءها الأنيق"1.
ويطرح خليل حاوي هذا الأديب المتمكن أفكارا واعية بحقيقة واقعه، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على الرصيد الثقافي والمعرفي الغزير والمتنوع الذّي حظي به شاعرنا ونحن في هذا العنصر بصدد الكشف عن المنابع الثقافية لخليل حاوي والتي نوجزها في النقاط التالية:
*مسيرته الدراسية:
تبدأ النشأة الثقافية لخليل الحاوي في المدرسة اليسوعية التي قضى فيها أجمل أيام عمره، لأن والديه كانا يغمرانه بكل العطف وكان زاهيا بتفوقه المتميز، إلا أنّه في الأخير تمرد على الرهبان اليسوعيين.2
وقد نقل في سن العاشرة إلى المدرسة "الوطنية العالية "في "عين القسيس" وفيها مكث حتى مغادرته المدرسة نهائيا تحت تأثير الظروف العائلية، فرغم حرص والده على تعليمه إلا أنّ الحرب العالمية كانت حائلا دون ذلك، فإظطر خليل للعمل في صفوف الجيش البريطاني في ضواحي بيروت، ولم يمنعه ذلك من الابتعاد عن المطالعة " ولم أكد أشاهده مرة، وأنا فتى إلا والكتاب في يده، حين لا يعمل عمله المكره والكريه ذاك، كان يحمل كتابا مما تيسر له في ذلك الزمن ويطالعه مرارا"3
واستطاع أن يكمل تعليمه بالالتحاق بمدرسة "الشويفات" في العام الدراسي (1946-1947) واجتهد وتميز في دراسته ليلتحق بعد ذلك بالجامعة الأمريكية ببيروت قسم اللغة العربية وآدابها، وقد لوحظ عليه براعته في التحصيل والبحث والمناقشة، مما ساعده على نيل شهادته بامتياز سنة 1951، وبعدها نال شهادة الماجستير عام 1955 وعلى إثرها منحة للدراسة في جامعة "كمبردج" إحدى الجامعات الكبرى الانجليزية مكث فيها ثلاث سنوات، عاد بعدها إلى لبنان سنة1959، حاملا معه شهادة الدكتوراه "وكان أكثر دور العلم اغتباطا بنجاحه الجامعة الأمريكية التي عرفته طالبا مجدا ومتعلما مثقفا حاد الذكاء، فاستقبلته بعزة وافتخار وأدخلته في سلك أساتذتها معلما للنقد الأدبي في دائرة الأدب العربي حتى آخر أيامه، وكانت سيرته العلمية حافلة بنجاح إثر نجاح، دونما تهاون أو كسل "4
*إطلاعا ته الثقافية:
إذا تتبعنا مسير خليل حاوي الثقافية نجده قد بدأها بالإطلاع على غوامض الدين وأسراره، حيث تعلق بما هو شائع مثبت وأهمل ما هو سطحي بعيد عن حقيقة الواقع، وكان الكتاب المقدس العتبة الأولى للتمييز بين الخير والشر فاتبع ما هو جدير بثبات العقيدة التي يحصن بها نفسه، فمال إلى العهد الجديد بسموه الروحي، ونفر من العهد القديم بعصبيته و كيده.5
كما دفعته ملكته الشعرية إلى ارتياد عالم الأدب بدل الفلسفة، وقد مكنته دراسته للأدب من الإطلاع على أفضل ما أنتج جبران خليل جبران في الشعر المهجري، وأدب النهضة، ومن القراءات الأولى له الأدب الرومانطيقي وأعلامه: شيلي و كيتس و روزوورث و كولريدج ولامارتين وألفريد دي فيني وهوجو وفلوبير، ومن قراءاته اللاحقة: الأدب الأوروبي وبصورة خاصة الأدب الألماني والشعر الغربي الحديث بأكمله أوربيا وأمريكيا، وقد كان لإطلاع خليل حاوي على أفضل نتاج الحضارة العربية والعالمية من فكر وأدب وفن فضل كبير في اكتساب ذوق شعري متميز.
*نشاطه الفكري:
اتخذ خليل الحاوي من الفكر دليلا معرفيا لمعالجة مختلف القضايا الحياتية ومعرفة كنه العالم، فكان واعيا بمختلف القضايا العالمية الحاسمة التي قلبت المفاهيم الثابتة للكون وجعلتها متغيرة، فكان شاعرنا متفهما بذكاء ووعي لكل ما يدور حوله من مستجدات علمية حيث اطلع على أفكار أنشطاين في معالجة فكرة النسبية، وأعمال فرويد المتعلقة بالعقل اللاواعي الذي يتشارك مع الوعي في تشكيل الشخصية، كما نجد له إطلاع على أعمال "برجسون" التي بينت حدود العقل، كما اطلع بكل فضول على الهندسة والفيزياء، وخير دليل على بحث خليل الدؤوب في تحصيل المعرفة وعلى إطلاعا ته الثقافية المتميزة هو الرجوع إلى أطروحته التي نال بها الدكتوراه، ومنها يتراءى لنا أنّ هذا الشاعر قد تجاوز الريادة الشعرية إلى الرؤى الفلسفية التي حاكى بها وبكثير من الوعي قصائده التي حصنها بالنضال السياسي حيث يقول د. صلاح فضل:"...ومع أنّ الفلسفة الوجودية التي أبحر فيها خليل حاوي كانت تعفي الشعر من مسؤولية الالتزام برسالة محددة احتراما لخصوصية الخلق الرمزي للغة إلا أنّ التجربة الشخصية والوطنية التي انصهر بها الشاعر بقوة عارمة جعلت نجم هذه الرسالة الحيوية المنبثقة من الذات والحضارة والمنداحة إلى المحيط الكوني، القطب الهادي لإبداعه، والبوصلة الموجهة لحركته والملمح الأول العريض لإستراتيجية خطابه مهما كانت تحولاته"6.
*الروح القومية:
إنّ الروح القومية التي تبناها خليل الحاوي في كتاباته الأدبية واتخذها رمزا لفلسفته العقائدية منبثقة من شعوره الوطني واعتزازه القومي بانتمائه العربي "وقد كان من الطبيعي أن نجد في الأدب العربي فكرتين تتصارعان: فكرة الوحدة وفكرة الإقليم، ولكن من بعد مأساة 1968 أخذت التجربة القومية تتضح وتقوى "7
وقد عرف خليل خلال مسيرته الثقافية بأنّه رجل منطق جريء وكلمة صريحة حيث تصدى لكثير من المفكرين، وكانت له نقاشات وحوارات مع محاضرين عدة أظهر من خلالها عناده الشديد في الدفاع عن قوميته، وقد شهد له بذلك معاصروه من الأدباء،ليقول عنه نزار قباني "يهدر بحنجرة نسر"،أما يوسف الخال فيصرح بأنّه "مفترق في الشعر العربي"،وعبر عنه صلاح عبد الصبور بأنّه "رائد الشعر العربي"،بينما نجد عفاف بيضون تشير إليه في كتاباتها بأنّه "حقق لنا الكثير مما كنا بحاجة إليه "، وقد أشار هؤلاء جميعا في مواضع متعددة على أنّ عقيدته المؤمنة بالقومية كانت تتسم بسمات العبقرية الطبيعية التي ولدت معه ولم يكتسبها بالتعلم.8
إنّ تفكير شاعرنا المتطور والمنفتح على المستجدات الأيديولوجية البناءة مكنّه من الاندماج صفوف الحزب المعارض للرجعية، فعارض بالمناقشة الواعية الجريئة محتضني القوميات السورية والعربية والأممية، متخذا من القومية العربية غاية وهدفا ومعتقدا، آملا بأن تكون منفتحة "بعيدة عن التقوقع والانزواء والغنى المالي والترف الارستقراطي، قريبة من الاشتراكية ووحدة الأقطار في الوطن العربي الكبير، منسجمة مع اليسار المحارب للمستعمرين والغزاة والطامعين بالسيطرة واحتلال دول العالم الثالث، رغبة في نشر التخلف والجوع والمرض بين ربوعه" 9
وقد أحدثت التجربة الحزبية منعرجا هاما في حياة خليل حاوي منذ صغره بانخراطه في الحزب القومي السوري الذّي كان يدعو إلى وحدة تضم الهلال الخصيب (*)، باسم سوريا والحضارة السورية إلاّ أنّه وقع في خلاف تصادمي مع رئيس الحزب آنذاك جورج عبد المسيح حول قضايا فلسفية حيث كان هذا الأخير يجهل المبادئ الفلسفية في الحركة وفي التراث الإنساني،وانتهى الصراع بانفصال خليل عن الحزب في منتصف الخمسينات، وقد أثر ذلك في نفسيته كثيرا حيث وجد نفسه وحيدا في معترك الحياة،وسرعان ما أدى شعوره بالفراغ إلى اكتشاف قيم الحضارة العربية من جديد، وأدرك أنّ الدعوة إلى الوحدة يجب أن تكون باسم العروبة وهذا ما أدى ارتباط الوحدة العربية بالنزعة الإنبعاثية التي صنعت شعره. 10
وقد التزامه بالقضية العربية على مستوى مطلق، ولعل جو الجامعة الأمريكية التي التحق بها الشاعر،وفي هذا يقول شقيقه إيليا الحاوي:"وفي كمبردج جمعته إلى الطلاب العرب وحدة الهدف في التحرر، ونشوة الغبطة ببطولة عبد الناصر، فأصبحت القومية بالنسبة إليه أداة صمود وتضافر وقوة في الحياة، بها يزهو المرء ويسمو ويحس أنّه ذائب كفرد في مجموع حي يدافع عنه ويحميه ويسعفه على تحقيق ذاته وأحلام البطولة....ثم إن خليلا جعل يصر بعد ذلك أن قضية القومية العربية كانت بالنسبة إليه قضاء وقدرا، وليس له حرية أو اختيار إزاءها، يحيا ويموت بها ومن أجلها، وفي النهاية تصوف لها وذاب فيها، ولم يعد له أي وجود خاص به من دونها"11
وبقيت عقيدته بوحدة الوطن العربي الكبير تلازمه فكان "خليل ينظم الشعر وكأنّه يصلي عبر صلاته للحياة والغيب ويمارس فعل الحرية وفعل الخلق والتغيير، وصنع الإنسان، والحضارة، لم يدع رمزا من رموز الانحطاط لم يكشفه، ولم يدع رمزا من رموز البعث لم يتغنى به، وكان يحلم بالإنسان الكبير القادر، فأبتلي بقوم من الكائنات الصغيرة المتكيفة، والتي تجد الحكمة في التنازل، وتقبيل الأيادي والتسيير والتدبير، وكانت الكلمة لديه حياة والحياة كلمة، ثم إنّها آلت إلى شهادة "12
*آثاره:
ترك خليل نتاجا حافلا بالفلسفة والنقد و الأدب (أكثره شعرا، وأقله نثرا)، ومن أهم مؤلفاته النثرية نجد:
1- العقل والإيمان بين الغزالي وابن رشد وهي أطروحة غير منشورة.
2-جبران خليل جبران،إطاره الحضاري وشخصيته وآثاره وهو باللغة الانجليزية نشر في بيروت سنة 1962، ونشرت ترجمته سنة 1982.
3- دراسات نقدية في المجلات منها: الحكمة –الآداب- شعر-دراسات عربية –الفكر العربي المعاصر.
4- كان مشرفا على موسوعة الشعر العربي التي صدر منها أربعة أجزاء في بيروت سنة1984.
أمّا بالنسبة لنتاجه الشعري فقد بدأ نشره باكرا في الصحف والمجلات اللبنانية وله عدة دواوين شعرية تسلسلت حسب تواريخ صدورها كالآتي:
1. نهر الرماد: هو باكورة نتاج خليل حاوي الشعري، صدر عام 1958، ونظمت قصائده بين الفترة1953 -1958، ويتكون من ثلاثة عشر نشيدا تتكامل في قصيدة واحدة يجمع عنوانها النقيضين:النهر رمز الحياة المتجددة والخصب، والرماد رمز العقم والجمود والموت.
2. الناي والريح: ويتكون من أربعة قصائد متجانسة في جوها وغايتها ومعظم إيقاعها، عناوينها عند البصارةوالناي والريح في صومعة كمبريدج ووجوه السندباد والسندباد في رحلته الثامنة، وقد نظمها بين عامي 1956 و 1958، وأعاد النظر في بعضها سنة 1960 وصدرت عن دار الطليعة.
3. بيادر الجوع: ويتكون من ثلاث قصائد هي الكهف وجنية الشاطئ ولعازر1962، نظمت بين 1960 و1964، وقد صدر الديوان عن دار الآداب سنة 1965.
4. الرعد الجريح: ويتكون من خمسة قصائد هي الأم الحزينة وضباب وبروق ورسالة الغفران ومن صالح إلى ثمود، ويتميز بنزعتين الأولى نزعة عار الهزيمة العربية 1968، والثانية نزعة رجاء بالخلاص.
5. جحيم الكوميديا: وهو الديوان الأخير، ويتكون من مطولة شجرة الدر، ومجموعة أناشيد من عناوينها قطار المحطة وصلاة وفي الجنوب وفي سدوم للمرة الثالثة وقطع اللسان ومناخ وأرض والوطن وأنت.
كانت هذه آثار خليل حاوي التي حاولنا أن نوجزها، وهي تعتبر ذخيرة حية تعبر تعبيرا واضحا عن حياة هذا الشاعر المليئة بالتمرد على الهزيمة، والسعي الحثيث للوصول إلى الشرف والمجد.
*الروح المأساوية في شعر خليل حاوي
بلغت قصائد خليل حاوي درجة عالية من النضج والوعي فكانت الشغل الشاغل لكثير من النقاد الذين تناولوها بالتحليل والدراسة، وقد كانت السمة البارزة فيها هي انشغاله المستمر بالعالم العربي وقضاياه الشائكة، فلوحظ جليا تلك النظرة القاتمة والمأساوية التي غلبت على معظم أعماله، هذه النظرة السوداوية كانت نتيجة الواقع العربي الموات، هذا الواقع الذي انتقده شاعرنا، إنّه واقع الأمة العربية المتخبطة في شبكة العنكبوت الغربي والصهيوني بالأخص، لقد أحس الحاوي بغربته القاتلة عن هذا العالم، الذي تعددت فيه الوجوه واختلفت فيه الأقنعة، فأي وجه وأي قناع سيظهر به الشاعر؟إنّه عالم الأرقام ولكن الشاعر بلا رقم واضح.
فكان من البديهي أن يأخذ الشاعر على عاتقه مهمة إصلاح العالم العربي، إنه يتنبأ بالمستقبل فيتوسم فيه الخصب والبعث، ولكن هذا الاستشراف المستقبلي ولد لديه الإحساس بالفجيعة،ففي الواقع لم يكن سوى الخراب والضياع والتشتت والتبعية الدائمة للغرب، وبالتالي لم تكن حياة خليل سوى سلسلة من الخيبات المتواصلة والنكسات المتوالية، فخيم الحزن والأسى على كيانه حتى بات شعره تعبيرا حيا للمأساة العربية، ولذا لا بد لنا من التنقيب عن جذور المأساة التي خيمت على روح الشاعر وصبغت شعره بصبغة اليأس والسأم والتخاذل، وحياته تعتبر مأساة حقيقية وسنتابع أهم التأثيرات السلبية في حياته:
1. حياته العائلية:
كان"خليل وحيد أبويه، ثم رزقا ابنة وثلاثة صبيان بين الواحد والآخر سنة أو سنتين، وابنة ثانية، الصبيان الثلاثة توفوا جميعا في عمر الشهرين والشهرين، اثنين توفيا بالتهاب الحمراء (أي التهاب السرة إثر الولادة) نتيجة الإهمال الصحي، والثالث وشقيقته ماتا بحمى الأمعاء...وهذا الموت المبكر لأشقاء خليل لم يغادر جرحا في نفسه لأنّه لم يتعلق بهم، على خلاف ذلك فقد غادرت ’أوليفيا’ بنت العامين الأثر العميق في نفس الحاوي وذاكرته إذ شغف بها غاية الشغف فقد كانت بمنتهى الرقة والجمال وخفة الظل، مرضت ’أوليفيا’ مرضا خطيرا وعجز الأطباء عن إنقاذ حياتها، ولعلم الوالدين بحب خليل الكبير لها، أرسلاه بعيدا إلى منطقة الشوير، وخلال ذلك توفيت الصغيرة، ودفنت في المديرج عند قوم من أهل الحاوي".13
وقد كان خليل يتحرى عن شقيقته أين ذهبت؟ ويبكي لغيابها فيقال له "أنّها تعود بعد أسبوع " ثم بعد أسبوع وهكذا كانوا يماطلونه عنها حتى توارت عن ذاكرته، وكان يقول عنها"إنني قضيت العمر كله انتظر عودتها وإلى الآن لازلت أنتظر"14، وفي ذلك يقول عبر قصيدته الرعد الجريح:
فرحة الأم التي تحتضن الطفل الطريوتباهي بالفتى المنحوت من زهو الصفاء المرمريما ترى لو تتحدى مبردا أعمى خفيا يشتهي التشويهيجتاح صحاح الجوهريذلك الطفل الطريلو تراه في الكوابيس التي تعمى نهارهأخطبوطا في محارهوترى الدرب تمشيه إلى هوة ليل يتقيهولماذا يتقي ما ضم في عتمته وجه أبيهوجباها غصة مستعرهوصغارا في قبور نضره
يستحضر خليل في نفسه أحوالا من ذاكرته القديمة عبر طارئ تذكاري، وحين سئل لما تراه يفسح مجالا لهذه الذكريات الموات التي عفا عنها الزمن منذ أكثر من خمسين سنة كان يجيب: "لست أدري إنّها أمور تنزل في نفسي رغما مني ولا سبيل لي عليها إلى دفعها"15
2-نشأته:
كانت النشأة الأولى لخليل في لبنان، لكن الظروف القاسية التي طرأت على حياته وغيرت مجراها أجبرته على الرحيل إلى سوريا، وقد أكسبته الطبيعة الجبلية القاسية التي نشأ فيها (بلدة الشوير) طاقة على تحمل الصعاب وتحدي الظروف الصعبة التي واجهها في بدايات حياته، وعلى كل فخير عرض لنشأة خليل يكون على لسانه إذ يقول: "مرض والدي و لي من العمر اثنتا عشرة سنة...ضاقت بنا سبل العيش فتحتم علي وأنا أكبر إخوتي أن أترك المدرسة و أبدأ العمل كما يبدو الكثير من الشويريين فاعلا، ومن أوجع الذكريات، أنه كان علي أن أحمل الحجارة في رصيف الطريق، مع أنني كنت أنعم قبل بحياة مترفة، كنت أيام العطل ألزم البيت لأني كنت أفتقر إلى ثوب جديد، يصلح أن يلبس في هذه المناسبات وكنت أحس بكآبة وسأم، فاسأل لماذا تزوج أبي وأنجبني...وفي الرابعة عشرة عملت متدربا في الطين والتبليط، وكان يبدأ العمل قبل طلوع الفجر ولا ينتهي إلا عند الغروب...في الخامسة عشرة انجرفت في الحزب القومي السوري...وفي السابعة عشرة أصبحت معلما(معلم عمار)، وارتحلت إلى الجولان في أوائل الربيع، وعملت كملتزم صغير وكان العمل ناجحا، وفي نهاية الموسم زارني والدي وارتاح الى ما أنجزته في مجال هذه الصناعة، ولكن ثرت عليها وألقيت أدواتها بالأرض وقلت له: لن أعمل بعد اليوم عملا يدويا مهما يكن المردود المادي، خلال هذه الفترة، كنت أقرأ دائما إلى ساعة متأخرة من الليل بالفرنسية والانجليزية والعربية، ونظمت قصائد في اللغة العامية اللبنانية ظهرت في المجلات، كما نظمت القليل من الشعر في اللغة الفصحى"16
وهذا السرد الذي جاء وانبعث من ذاكرة متألمة إنما هو دليل بحق عن نشأة مأساوية مليئة بالمعاناة والشقاء كان لها بالغ الأثر على نفسية الشاعر وفكره وعواطفه.
3-صدمته العاطفية:
يتسلل داخل كل إنسان وهم كبير يسيطر على أعماقه و يكون هاجسا أبديا يرافقه طوال عمره، ويصحو في نفسه من حين لآخر عبر ذكريات جامحة، إنّه حبه الأول.
تعلق قلب خليل بفتاة وحيدة أبويها وتيم بها إلى حد الجنون، كانت جميلة هيفاء، عالية الجبين، وجنتاها موردتان، عيناها سوداوان، وشعرها على كتفها وقد تغنى بها في معظم شعره الريفي حيث أحبها حبه الأول الذي عاش في خلجاته وثنايا روحه وكان كل حب آخر انعكاسا لهذا الحب وكان قد اتفق معها على الزواج إثر عودته من الأردن حين يتمكن من جمع المال، إلا أنها وقبل رجوعه أرغمت على الزواج من غيره فضاع حبه الأول وهاجسه الأبدي، وعاد خليل لينظم فيها هذه المرة شعر الحسرة واللوعة والفراق 17.
4-الوضع العام للبنان والوطن العربي:
تحتم الطبيعة البشرية لأي إنسان التأقلم بوسط اجتماعي معين، يتأثر به ويؤثر فيه، إنّه الوطن الذي يحتل رقعة من روحه وجزءا من كيانه، فيصبح مصيره متعلقا بمصير هذا الوطن لأنه يعتبر وجوده وذاته وهويته وحريته وعقيدته، وفي القديم كان الشاعر لسان حال أمته يدافع عنها بشعره ظالمة أو مظلومة، وإلى الآن يأخذ الشاعر على عاتقه مهمة إصلاح مجتمعه متجاوزا النزعة القبلية الضيقة ليتبنى النزعة الإنسانية، وهذا ما نجده عند الشاعر خليل حاوي الذي كانت تجربته حضارية ووجودية فهي تعبير حي وصريح عن الحضارة بوصفها الفعل الحيوي في إنقاذ الإنسان من قصوره وعاهاته، وكمبرر لوجوده واحتمال قسوة الحياة.
ومن البديهي أن يكون تركيزنا على الوضع السياسي للبنان حتى نثبت الحالة الشعورية والفكرية والأحاسيس الوطنية الوجدانية التي عايشها خليل في خضم سياسة لبنان والوطن العربي وما كان لتلك السياسة من أثر عميق على شعره وسلوكه الاجتماعي ونظرته وتفكيره، وقد مرّ لبنان بمحطات سياسية داخلية وخارجية غيرت مجرى حكوماته ومجتمعه، و وجهة كتابه وأدبائه وشعرائه نحو ثروات فكرية أثرت في مختلف الشرائح الوطنية، التي خرجت في مسيرات عنيفة أدت إلى أكبر الحوادث خطرا وتدميرا في البلاد.
*المحطة الأولى: تمثلت في النكبة الفلسطينية سنة 1948 إثر وعد بلفور (18)،الشهير وما انجر عن ذلك من ويلات وحروب وانعكاساتها على لبنان، وعلى العالم العربي من فتك بالمواطنين اللبنانيين وتهديم للمدن وللقرى خاصة الجنوب اللبناني.
*المحطة الثانية: تتمثل في الانعكاسات الخطيرة التي هزت الوطن العربي إثر إعلان الرئيس المصري جمال عبد الناصر في تموز سنة 1956 تأميم قناة السويس وهذا الحدث يعتبر تحديا واضحا وجريئا لدول الغرب، وبالأخص بريطانيا وفرنسا المستفيدتين بالدرجة الأولى من الشركة المؤممة، فأعلنتا الحرب على مصر بمشاركة إسرائيل، وكان العدوان الثلاثي على مصر لاستعادة القناة فأصبح هذا الاعتداء أزمة دولية هزت العالم وكادت أن تكون حرب عالمية، كما أنجر عنها انعكاسات خطيرة على سياسة لبنان الداخلية والخارجية.
*المحطة الثالثة: تمثلت في دخول لبنان في حرب أهلية مدمرة سنة 1958، في عهد الرئيس كميل نمر شمعون(19) بسبب خلاف هذا الأخير مع زعماء المعارضة في الجبهة الوطنية التي أسست في حزيران 1957، وكانت الحرب ضد الرئيس بسبب فوزه الساحق الذي أسقط زعماء المعارضة، فنسفت خلالها الجسور وسدت الطرقات، وألقيت القنابل المتفجرة، ولم تهدأ البلاد إلا بتشكيل حكومة برئاسة رشيد كرامي صمت حزب الكتائب، وعادت بعدها الحياة الطبيعية بعد أن خلفت هذه الثورة أثرا ملموسا في نفوس الأدباء والمفكرين.20
*المحطة الرابعة: وشملت الانقلاب العسكري الفاشل الذي قام به عسكريون حزبيون، وقد تولد عن هذا الانقلاب فوضى داخلية واضطرابات سياسية، ولكن سرعان ما تدخل الجيش ليعيد الأمور إلى نصابها، ويرجع أساس هذا الانقلاب إلى استياء بعض اللبنانيين من سياسة الرئيس الخارجية واتهامه بجعل لبنان تابعا للنفوذ المصري.
وفي 31كانون الأول من سنة 1961 قام الحزب السوري القومي مع بعض العناصر الناقمة في الجيش بمحاولة انقلاب فاشلة عالجها الرئيس فؤاد شهاب بحكمة ليحول دون دخول لبنان في فتنة أهلية وطائفية، وعندما سعى بعض أنصاره في سنة 1964 إلى تعديل الدستور، حتى يترشح مرة ثانية أبدى رفضه التام للفكرة مجنبا البلاد الوقوع في أزمة أخرى، فسهل بذلك لخليفته شارل الحلو أن يكون أول رئيس للجمهورية اللبنانية منذ1926 يجرى انتخابه وفقا لأحكام الدستور وفي ظروف عادية ومنظمة.
*المحطة الخامسة: وهي المرحلة الحاسمة في العالم العربي على إثر الهزيمة النكراء التي مني بها العرب في حربهم ضد إسرائيل في الخامس من حزيران سنة 1967 حيث احتلت هذه الأخيرة غزة وصحراء سيناء(مصر)، والضفة الغربية (الأردن)، ومرتفعات الجولان (سوريا)، وقرى الشريط الحدودي (لبنان)، وقد فوجع لبنان كما فوجع العالم العربي بهذه النكسة التي أصابت مصر وسوريا والأردن تلك البلدان التي كانت الميدان الأساسي للحرب.
*المحطة السادسة: وهي أشد المراحل خطرا في التاريخ اللبناني على إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 06حزيران 1982 وفي حقيقة الأمر أن "الهزيمة في التاريخ العربي الحديث تحيل على هزائم،فاجتياح إسرائيل للبنان في حزيران العام 1982 ذكر الناس بهزيمة مصر في حزيران عام1967".21
كانت هذه مسحة شاملة لأهم الأحداث السياسية التي أحاطت بلبنان وأثرت في مجرى أحداثه العامة، وكان الأدباء والشعراء اللبنانيين تتقارب مشاعرهم وتتوحد منذ نكبة فلسطين 1948، هذه القضية التي كانت الهاجس اليومي الذي غير تفكيرهم وتطلعاتهم المستقبلية، وكان خليل حاوي أكثرهم تأثرا بهذه القضية ومجرياتها، وكان دافعه الأساسي حسه الوطني، فكان يزداد أمله بتوحد العرب ضد إسرائيل ويتحطم بتخاذلهم وانسحابهم أمامها، لتستباح أرض لبنان وتستباح على إثر الاجتياح الإسرائيلي في 1982 ن ولم يعتبره الشاعر اجتياحا لبلده كرقعة جغرافية فقط وإنّما هو اجتياح للكرامة العربية، فكان أول من قتلته ذاكرة الهزيمة حيث أنّ "الدمار الواسع الذي غطى بيروت وقت الاجتياح الإسرائيلي لها واجهه هذا الشاعر المعروف بهويته العربية بتصويب رصاصة إلى رأسه، الرصاصة كلمة لخصت هول وقوع المأساة عليه".22
5-النهاية المأساوية للشاعر خليل حاوي:
خليل حاوي بوصفه الضمير الوازع لهذه الأمة، كان عليه أن يقف موقفا احتجاجيا إزاء هذا الوضع العقيم، وشاعرنا كان موقفا قبل أن يكون صانعا لقصائد فكثيرا ما تبادر إلى ذهنه فكرة الانتحار بوصفها حلا جريئا ن فكما أتى إلى واقعه دون إرادته فعليه أن يخرج منه بإرادته، ففضل بذلك الموت على الحياة وفعل.
ولم تكن إنتكاسات تجارب ورؤى خليل في كل مرة راجعة إلى فشله في أن يكون شاعر قضية سياسية، وإنّما تعود إلى مسؤوليته الحضارية التي طمح من خلالها إلى أن يكون الانبعاث تكونا حضاريا للإنسان غير أنّ الفشل والإحباط كان رفيقه الدائم في كل مرة وكانت مأساته مع البعث كمشروع حضاري امتدادا لمأساة سيزيف العبثية، فالأحداث المدمرة المتوالية التي زادت ضراوة بالغزو الصهيوني للبنان سنة 1982 لم يكن من سبيل لمجابهتها ومجابهة العار والهزيمة إلاّ الانتحار،وهذا ما جعل شاعرنا يضع حدا لمأساته الوجودية بإطلاق رصاصة خرقت عينه اليسرى لتقصي عليه نهائيا.
وقد ترسب في ذهن الناس أن الانتحار فوق كونه معصية للخالق فهو هشاشة عصب في معركة الحياة المستمرة وتصرف غير مسؤول ولا عقلاني، وجبن وجناية في حق النفس الإنسانية، إلا أنّ بعض حالات الانتحار تتطلب منا أن نقف أمامها موقف الذهول والإعجاب، إذ أنّها تعبر عن لحظة جريئة يقدم فيها الإنسان نفسه فداء لكرامة روحه ودفاعا عن كلمة حق أراد أن يقولها، ليدون بدمه اسمه في سجل البطولات"وانتحار خليل حاوي مهما قلنا وتأولنا في دوافعه النفسية ينتسب بلا شك إلى رمز هذه الإنتحارات البطولية والبطولات الانتحارية،إنه تصرف مثير جدير بتقديرنا لحساسية ضمير الشاعر وصدق انتمائه الوطني ولإبائه الضيم والهوان "23.
لقد افتدى خليل حاوي هذا الشاعر المأساوي كرامته بروحه دون أن يضع في حسابه رهبة للمت أمام جلال اللحظة التي عاشها مدافعا عن وطنه لبنان، ولعله وهو الشاعر الذي تجاوز السبعين من عمره لا يملك غير قلمه يدافع به عن بلده، ولعل الكلمة في لحظة التخاذل تكون مغموسة بالذل والبؤس وفي أحسن حال لها تكون كلمة شعارات جوفاء، وقد آثر" خليل حاوي " أن يغمسها بدمه لتظل على بريقها وسطوعها، غير أنها مع الأسف ظلت نفخا في رماد فلم يكن لها صدى في أبناء أمته الذين أصابهم التخاذل والانغماس في روح الخيانة والتآمر باستثناء الغيورين على حرمة وطنهم، الذين رفضوا الاستكانة للذل والاستسلام في وجه الغازي المغتصب، فبقي خليل حاوي غائبا بجسده،حيا بأفكاره في ذاكرتهم وذاكرة كل وطني مخلص يردد في السر والعلانية:
وطني نستسقي خير ما ملكت يديروحي ولست أريد منك ثوابابذل الدماء على الشباب ضريبةوأنا وفيت فبلغ الأصحاباخليل يرجو أن يعود مجدداويعود يبذل ما وفاه ترابا. 2
المراجع المعتمدة:
1-محمد الصادق عفيفي: النقد التطبيقي والموازنات، مكتبة الخانجي، القاهرة،1978، ص 109.
2. ايليا الحاوي: خليل في سطور من سيرته وشعره، دار الثقافة، بيروت، ط1، ج 1،1984،ص 66.
3. نفس المرجع: ص99.
4. عبد المجيد الحر: خليل حاوي، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان،ط1،1995،ص64.
5. المرجع نفسه: ص 70.
6. صلاح فضل: تحولات الشعرية العربية،دار الآداب بيروت، لبنان، ط1، 2002، ص 46.
7. محمد الصادق عفيفي: النقد التطبيقي والموازنات، ص 108.
8. عبد المجيد الحر: خليل حاوي، ص72.
9. نفس المرجع: ص 73
*-الهلال الخصيب تعبير أطلقه المؤرخ الأمريكي جيمس بريستد على المنطقة الخصبة الممتدة على شكل هلال من جنوب العراق الى شماله ومن ثم إلى سوريا وفلسطين حتى سواحل البحر المتوسط الشرقية.
10- نفس المرجع: ص 74.
11-ايليا الحاوي: خليل في سطور من سيرته وشعره، ص 137.
12-نفس المرجع: ص 226.
13- نفس المرجع: ص68.
14-نفس المرجع: ص69.
15- نفس المرجع، ص 70.
16- عبد المجيد الحر: خليل حاوي، ص 62، 63.
17- إيليا الحاوي: خليل في سطور من سيرته وشعره، ص 89.
18- بلفور آثر جيمس (1265هـ / 1848-1930 م) سياسي بريطاني شغل عدة مناصب سياسية هامة، عين وزير للخزانة (1895-1902)، عين في الحرب العالمية الأولى وزيرا وزيرا للبحرية ثم وزيرا للخارجية، و أصدر بهذه الصفة تصريحه المعروف باسمه في 02 تشرين الثاني (1918) ويقضي بتعهد الحكومة البريطانية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين عقب الحرب، فكان لهذا الوعد المشؤوم أسوء النتائج على العرب.
19- كميل شمعون: جرت في عهده اضطرابات دامية بين المعارضة والسلطة انتهت بتولي اللواء فؤاد شهاب الرئاسة.
20- عبد المجيد الحر: خليل حاوي،ص 27.
21- يمنى العيد: الكتابة تحول في تحول، دار الآداب، بيروت، ط 1، 1993، ص 131.
22- نفس المرجع: ص 131.
23- عبد السلام العجيلي: في الانتحار،مجلة الدوحة، العدد 83، محرم 1403هـ -نوفمبر 1982،ص 41.
24- عبد المجيد الحر: خليل حاوي، ص 06.
مشاركة منتدى
4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2016, 19:58, بقلم ahmed Baba
أشكرك السيدة الباحثة على هذه البيوغرافية الفذة للكاتب اللبناني خليل الحاوي..