الأديب والمدعي بين صراعات الرغبة وحتمية الموهبة
الدكتور طه حسين يتوجه باللوم إلى كوكبة من الأدباء على رأسم نجيب محفوظ ويوسف السباعى وأنيس منصور وغيرهم ممن سنتعرف عليهم بعد قليل ويخبرهم بأنهم لا يقرأون وإن هم فعلوا لا يتعمقون..!!
الموهبة والدراسة جناحى الأديب.
لكن قبل الخوض فى تلك التفاصيل، وهى أمثلة للتدليل والتأكيد على صحة ما نهدف إليه من هذه السطور، نقول بأن الموهبة والدراسة جناحىَّ الأديب يحلق بهما فى سماء الإبداع، و"الرغبة"وحدها لا تكفى للتحليق فى عالم الأدب.
تؤلمنى رغبات كثير من الشباب فى إنتاج نصوص روائية ونشرها اليوم قبل الغد وهى فى الأصل تجارب أولية لا تستحق النشر حتى بات عدد من لهم إصدارات موسومة بكلمة رواية أو مجموعة قصصية أو ديوان شعر لا يكاد يحصى، وحينما أُسدى إليهم النصح بالتأنى والاهتمام بالقراءة والبحث والتقصى والدراسة قبل النشر.. يستجيب القليل جدًا منهم بينما لا ينصت الكثير ويسلك الطريق باحثًا عن بدايات شهرة هى ومضة واهية سرعان ما تنطفئ وتظل التجربة نقطة سوداء فى صفحة هذا الشاب إن لم تكن نهايته التى أتت مع أولى خطوات البداية.
وتظل رغبة بعضهم فى إنتاج نصًا سوط يلهب به ذاته فيحاول بإلحاح الكتابة رغم أن القلم لا يتحرك فى يده لأنه ببساطة لا يمتلك المؤهلات اللازمة.. كارثية الأمر أنه يستمر فى الضغط على ذاته"الفقيرة ثقافيًا"لإنتاج هذا النص.. ومثال على ذلك حينما يسألنى أحدهم عن صدور أحدث رواياتى وكيف يظهر لى فى السنوات الأخيرة رواية كل عام تقريبًا بالرغم من تفاصيل عملى الكثيرة ككاتب ومخرج إذاعى!!.. سؤال يحمل فى داخلة هذا المضمون"هذا الإنتاج أكثر من المعدل الطبيعى قياسًا بأفراد يمضون السنوات للخروج بنص واحد..!!"
كانت إجابتى بأننى أكتب وقتما يأتينى وحى الكتابة وأنقح وأزين عملى مرة بعد مرة حتى تخرج الرواية إلى النور مهما كانت المدة التى تمر علىَّ فى كتابتها.
لكن إجابتى هذه لم تكن لترضينى أنا بشكل خاص.. فما كان إلا أن بحثتُ فى الأمر بشكل أكثر عمقًا، ولم أجد ما أجسد به تفاصيل الأمر غير حصر أبعاد القضية فى شقين أو جناحين أولهما"الموهبة"وثانيهما"الدراسة"
لاشك فى أن للموهبة الأدبية الدور الرئيس فى القدرة على الكتابة، فما يأتى به الكاتب الموهوب قد لا يستطيع غيره ممن يمتهنون المجال لأى سبب آخر أن يقدموه فى سنوات عديدة، ذلك لأن الموهوب إنما يكتب ما يُمليه عليه وحى موهبته، يُفيده فى ذلك بالطبع كم قرأ وكيف قرأ.. يفيده أيضًا إدراكه لمختلف تفاصيل الحياة والعلوم.. أما غير الموهوب أو نصف الموهوب وإن كان لديه حصيلة من القراءة والإدراك للعلوم المختلفة فإنه يعانى كثيرًا إن هو بدأ فى كتابة نص أدبى، ويخرج السرد على أضعف ما يكون.
أدركتُ ذلك وأنا فى طريقى ذات يوم إلى داخل الأوبرا المصرية لحضور حفل توزيع جوائز مؤسسة أخبار اليوم الأدبية وكنتُ من الفائزين فيها عن روايتى"عمدة عزبة المغفلين"وفى هذه اللحظة التى أتحدث عنها لم أكن أعلم أى جائزة ستكون من نصيبى فى هذا الحفل الضخم فقد قيل لى بأنى من الفائزين فقط. اقترب منى أحدهم وسألنى: هل أنت ذاهب إلى احتفالية كتاب اليوم الأدبى؟ وكان ردى بالإيجاب، سأل مرة أخرى: هل تعرف أحد من الفائزين؟ قلت له إننى أحدهم. فتوقف وهو يتأملنى بمنتهى الدهشة والإعجاب ثم مد يده ليصافحنى بحرارة، فأخبرته بأننى لم أعرف بعد أى جائزة لى كى يهنئنى، لكنه شدَّ على يدى أكثر وهو يقول: لا يهم الجائزة.. يكفى أنك استطعت أن تكتب رواية.. أنا منذ ثلاث سنوات أحاول كتابة رواية ولم أنتهى منها بعد.."وانطلقنا فى طريقنا إلى المسرح الكبير فى الأوبرا حيث الحفل، وأنا أفكر فى كلمات الرجل وأبحث خلفها.. حتى توصلتُ فى النهاية إلى أنه يحاول ولم يفلح لأنه ببساطة لا يمتلك الموهبة.
حديثى موجه إلى مّن يتمسح فى مهنة الأدب ويعانى حتى يُخرج نصًا هزيلًا يحاول بشتى الطرق نشره عبر دور نشر تتقاضى تكلفة النشر وفوقها أرباح أخرى ثم يحمل إنتاجه الذى يطلق عليه رواية أو ديوان شعر ويُروِج له على صفحات التواصل الاجتماعي ويروج له الأصدقاء، وإن كثُرت هذه النماذج إلا أنها لا تبقى وسريعًا ما تتلاشى من الوجود، ويتوارى أصحابها أيضًا لأن التجربة لن تتكرر ولن يستطيع أن يُنتج نصًا آخر ولن يجد مَن يروج له كما حدث فى المرة الأولى، لكن للأسف سوف تظل تلك الظاهرة موجودة لكثرة هؤلاء المتمسحون.
كيف كان يكتب الأديب الكبير يوسف السباعى؟
وسوف أستدعى من الذاكرة الأدبية ما يؤكد ما سبق من خلال أمثلة دالة على الموهبة ودورها الفاعل والأصيل ومثال أخير يوضح حتمية الدراسة والتعمق.
مثال رائع للأديب صاحب الموهبة وكيف كان يكتب وما هى المدة التى كان يكتب فيها الرواية، ونضرب المثال باثنتين من روائع أعماله، وهما روايتيَّ"إنى راحلة، و بين الأطلال"
يقول الكاتب يوسف السباعى فى مقدمة روايته"إنى راحلة": فى صيف عام 1949 سافرت إلى الإسكندرية لقضاء الإجازة، وصممتُ على أن أمضى هذه الأسابيع فى راحة تامة، وبدأت الراحة، وأنا مخلوق لم يتعود الراحة، فوجدت الحنين إلى الكتابة يعاودنى، و وجدتها فرصة سانحة أستغلها لكتابة قصة طويلة، ومضت بضعة أيام وأنا أحاول البداية حتى نجحت فيها.. واندفعت بعد ذلك فى الكتابة، أعيش جو القصة وأوقع بين أبطالها. وبدأت أتلقى اللوم ممن حولى. وقالوا إنى فى أجازة ولست فى أشغال شاقة، وإن من الجنون أن أكتب عشر ساعات فى اليوم، ولكنى استمررتُ فى الكتابة حتى أصابنى الملل و أنهكنى الجهد فكرهت الكتابة وكرهتُ القصة وكرهتُ أبطالها.. وكرهتُ نفسى. وحاولت أن أستعيد فى ذهنى ما كُتب وأنا مجهد متعب، فوجدتنى لم أكتب سوى سخافات ورأيتُ أن القصة التى بذلتُ فيها كل هذا الجهد ستكون أتفه ما كتبت، وتركتُ الكتابة وأخلدتُ إلى الراحة، وقلت لنفسى: إن كرهى للقصة هو نتيجة الإفراط فى الكتابة. ومر يوم دون أن أكتب.. ولكنى لم أكد أحس ببعض الراحة حتى عاودتُ الكتابة... وأخيرًا انتهيتُ من القصة بعد عشرين يومًا.. أجل إن كتابتها لم تستغرق أكثر من عشرين يوما.. فقد كان علىَّ أن أنتهى منها قبل أن تنتهى الإجازة.
ثم يقول فى مقدمة روايته"بين الأطلال": هذه القصة كتبتها بطريقة السجن مع الكتابة، فقد بدأتها فى رمضان 1370 ه الموافق 1951 م إذ وجدتُ الصيام يهيئ لى ساعات طويلة متواصلة من الكتابةبلا توقف.. وهكذا بدأت عملية الحبس يوميًا من الساعة التاسعة صباحًا وحتى الخامسة مساء، وفى اليوم العشرين كنتُ قد انتهيتُ من القصة.
ينتهى الأديب يوسف السباعى من كتابة رائعة من روائعة فى عشرين يومًا!!ويتكرر الأمر مرة أخرى.. وقد نجد له أكثر من رواية أتمها فى نفس المدة تقريبا..
فلا تُرهق نفسك يا عزيزى وتشغل تفكيرك فيما ينتجه هذا أو ذاك من إنتاج أدبى، فالأمر فى النهاية يعود إلى الموهبة أكثر من عودته لأى أسباب أخرى، نعم لابد لتلك الموهبة من أن تُدعم بالدراسة والبحث والتقصى والاستزادة من نهر الأدب، ولكنها فى الأخير تبقى هى الأصل. وهنا نصل إلى المثال الثانى والذى يختص بالدراسة والبحث والتقصى والاستزادة من نهر الأدب. يحضرنى ما قاله عميد الأدب العربى لجيل الكُتاب الجدد وسوف تأخذكم كلماته ويأخذكم قبلها معرفة مَن هم هذا الجيل الجديد.
عباقرة الأدب العربى تلامذة فى حضرة الأستاذ.
فى لقاء تلفزيونى أدارته الإعلامية ليلى رستم، يلتقى فيه الدكتور طه حسين بمجموعة من الأدباء. نجوم ساطعة فى عالم الأدب وهم: يوسف السباعى، ونجيب محفوظ، و ثروت أباظة، وأمين يوسف غراب، والشاعر عبدالرحمن الشرقاوى، ومحمود أمين العالم، وأنيس منصور، و كامل زهيرى، والفيلسوف عبدالرحمن بدوى، وعبدالرحمن صدقى. وفى هذا التوقيت كانت ثلاثية نجيب محفوظ قد بلغت الأفاق ومسرحية الأرض لعبدالرحمن الشرقاوى وأعمال الفيلسوف عبدالرحمن بدوى وكتاب المعركة الفكرية لمحمود أمين العالم وأعمال يوسف السباعى كلها و.. و... ولا مجال لذكر أعمالهم العظيمة الأن أو الحديث عن ثقافتهم وعبقريتهم الأدبية ومكانتهم ووضعهم كنجوم وأساتذة نوابغ بالفعل.. فى هذا اللقاء يجيب الدكتور طه حسين عن سؤال توجه به محمود أمين العالم عن رأيه فى جيل الأدباء الجدد
وكانت الإجابة بالنسبة لى صادمة خاصة بعد حوار طويل ظهر فيه هؤلاء كقامات ثقافية لا حدود لثقافتها، حيث يقول الدكتور طه حسين موجهًا كلماته لهم: أتمنى دائما من الكتاب الجدد أن يقرأوا بمقدار ما يكتبون وأن يقرأوا قبل أن يكتبوا وآخذ عليهم أنهم قليلو القراءة جدا ولا يحبون أن يتعمقوا شيئا، أى هؤلاء الكتاب من جيل الكتاب الجدد قرأ الأدب العربى القديم ومَن يعرف منهم لغة أجنبية؟ أظن أن الذين يقرؤون منهم أدب هذه اللغة أو بعض ما تُرجم من هذه اللغة.. أظن هذا نادر جدا، وعلى كل حال ما يكتبوه لا يدل على ثقافة واسعة ولا عميقة وأستثنى من هؤلاء محمود أمين العالم صاحب كتاب المعركة الفكرية وأجد فيه متعة حسنة جدا وأجد فيه تعمقًا للأفكار والأراء.
تخيل مثل هذه الكلمات وتلك النصائح تتوجه إلى من..!! وفى أى وقت كانوا و قد أثرت أعمالهم المكتبة العربية.. أما اليوم ويا حسرتى لا أذن تسمع ولا قلب يؤمن بنصح.. يفسره بعضهم على أنه عراقيل يضعها متربص مثلى أمامهم لأنى مثلا أخشى تواجدهم على الساحة الأدبية..!!
من خلال ما ذكرته من نماذج عن الموهبة وعن القراءة والدراسة يتضح ما يجب أن يكون عليه الأديب الحقيقى وكم من الأعمال صدرت وإن أثارت على الساحة لغطا إلا أن ما يتبقى هو العمل الأصيل لكتاب اجتهدوا ومن كثرة القراءة والبحث والدراسة أصابتهم عديد من الأمراض لكنها هانت أمام رغبة حقيقية فى التفرد والتميز.
أيها الموهوب.. إقرأ.. فى كل مجال.. إقرأ لكل التيارات الأدبية.. إقرأ فى علم النفس والفلسفة.. إقرأ الأدب العالمى. ضع لنفسك خريطة قائمة أعمال لا تقل عن ٢٠٠٠ كتاب لتقرأها..
ولا تكن قراءة وفقط وإنما قراءة متأنية دارسة فاحصة منقبة عن جواهر النص. إقرأ ولا تتعجل.