الإسلاميَّات في «صادق أو القَدَر» لـ(فولتير)
«1»
توشك قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، أن تكون قِصَّةً شرقيَّةً وإسلاميَّةً من ألفها إلى يائها، بدءًا بأسماء الشخوص والأبطال، وصولًا إلى تفاصيل الأحداث. فبطل القِصَّة الرئيس "صادق" اسمٌ عَرَبيٌّ إسلاميٌّ، اقترنَ وصفًا بالرسول، وأُطلِق على صاحبه الأوَّل (الصِّدِّيق). واسم زوج صادق "سمير" اسمٌ شرقي، يُذكِّرنا بـ(سميراميس)، المَلِكة الآشوريَّة في القرن التاسع قبل الميلاد. وهو اسمٌ عَرَبيٌّ قديم، وإنْ غلبَ في أسماء الرِّجال. هذا فضلًا عن تفاصيل الحكايات، من مثل مواقف صادق الدالَّة على الفِطنة وحُسن القضاء والمحاماة، التي تُذكِّرنا بذكاء (إياس بن معاوية، -122هـ)، المضروب به المَثَل، وحِيَلِه في استنطاق القرائن.(1) لكنَّنا سنُسلِّط الضوء على آثارٍ بارزةٍ لمصدَرَين شرقيَّين كبيرَين، ما عداهما تبعٌ لهما، أو دونهما شأنًا، هما "القرآن" و"ألف ليلة وليلة".
«2»
لعلَّ أكبر أثرٍ إسلاميٍّ في قِصَّة "صادق" هو ذلك الأثر القُرآنيُّ الذي يبرز في الفصل العشرين من هذه القِصَّة.(2) فالقِصَّة تحكي أنَّ (صادقًا) لقي في طريقه ناسكًا قد انتشرت لحيته على صدره، وتدلَّت حتى بلغت حِزامه، وكان الناسك يقرأ في القَدَر، كما زعم، فرأى على صادق علامات الحزن، فطلب إليه أن يصحبه في طريقه إلى (بابل)، على أن يعاهده بأن لا يفارقه مهما فعل، فاستأنس به صادق ومضيا معًا. فلمَّا كان المساء، وصل المسافران إلى قصرٍ فخم، فطلب الناسك الضيافة له ولـ(صادق)، فأُدْخِلا القصر، وأُجلِسا على مائدة، دون أن ينزل صاحب القصر فيمنحهما طَرْفه، وقد أكرمهما الخدم. ثمَّ قُدِّم إليهما، لغسل أيديهما، طَسْتٌ من الذهب، مرصَّعٌ بالزُّمرُّد والياقوت. وأنفقا ليلتهما في حُجرةٍ جميلة، وصُرِفت لكلِّ واحدٍ منهما صباحًا قطعة من الذهب. فمضيا في طريقهما، فإذا صادق يُلاحظ أنَّ الشيخ الناسك قد سرقَ طَسْت الذهب المرصَّعَ بالجوهر.
وفي الظهيرة لجآ إلى دارٍ صغيرةٍ، كان يسكنها رجلٌ غنيٌّ، فاستطعماه، فأطعمهما طعامًا خشِنًا رديئًا. فلمَّا فرغَ الناسكُ من أكله، دفعَ الدِّينارَين، اللَّذَين أُعطِي إيَّاهما هو و(صادق) صباحًا، إلى الخادم وشكر عنايته. ثمَّ طلب مقابلة سيِّده، ولمَّا قابله، دفعَ إليه بالطَّسْت الذَّهبي، وشكره وامتدح كرمه! وهو ما كان مبعث الدَّهَش من الجميع:
"قال (صادق): "ما هذا الذي أراه، يا أبتِ؟! ما أَرَى أنك تُشبِه غيرك من الناس، إنَّك تَسرِق طَسْتًا ذهبيًّا من أميرٍ تلقَّانا أحسن اللِّقاء، وتَهَبُه لبخيلٍ عاملك أحقر المعاملة!" قال الشيخ: "تَعَلَّم، يا بُنَيَّ، أنَّ هذا الأمير العظيم، الذي لا يستقبل الناس إلَّا غرورًا، ليُظهِرهم على ثرائه، سيُصبِح منذ اليوم عاقِلًا حذِرًا، وسيتعوَّد البخيل أن يكون مضيافًا؛ فلا تدهش لشيءٍ واتبعني"."(3)
ولمَّا أدركهما المساء، بَلَغا دارًا متوسِّطة الحال، وكان صاحبها فيلسوفًا قد اعتزل الناس، وعكف على الحِكمة والفضيلة، فسعَى من تلقاء نفسه إلى السائحَين وقادهما إلى حُجرةٍ وفيرةٍ ليستريحا، ثمَّ أقبل بعد حين فدعاهما إلى مائدةٍ نظيفةٍ وطعامٍ مُعَدٍّ بإتقان. وبعد أن تحدَّثا في شؤون الحياة والنَّاس:
"قاد المضيف ضيفه إلى حُجرتهما، شاكرًا الله أن أرسل إليه رجلَين على هذا الحظِّ من الحِكمة والفضيلة، ثمَّ قدَّم إليهما شيئًا من مالٍ بطريقةٍ سمحةٍ كريمةٍ لا تؤذي النفوس. فاعتذر الناسك، وودَّع مضيفه، زاعمًا أنَّه يريد أن يسافر إلى (بابل) قبل أن يُشرِق النهار... ثمَّ أيقظَ الشيخُ رفيقَه من آخر الليل، قائلًا له: "يجب أن نرحل، ولكنِّي أرى قبل أن يستيقظ الناس أن أترك لهذا الرَّجُل آيةً على ما أُضمِر له من حُبٍّ وإكبار.» قال ذلك وأخذ مصباحًا فأشعل النار في الدار. وقد رُوِّع (صادقٌ) فجعل يصيح، وهَمَّ أن يمنع الشيخَ من اقتراف هذا الإثم المنكر، ولكنَّه كان يجذبه بقوَّة لا تُقاوَم على حين كانت الدار تشتعل، والناسك ينظر إليها من بعيد في هدوءٍ أَيَّ هدوء، قائلًا: "الحمد لله، هذه دار مضيفي قد دُمِّرت تدميرًا! ما أسعدَ هذا الرَّجُل!"."(4)
ونرجئ استكمال هذه الحكاية، بغرائبها ودلالاتها ودرسها المقارن، إلى مقالنا الأسبوع المقبل.
(1) في الفصل العاشر، على سبيل المثال، تَرِد محاماةُ (صادق) عن العَرَبيِّ (سيتوك) ضِدَّ اليهودي، الذي أنكر ما عليه له من قرض، واستدراجُ صادقٍ إيَّاه ليزلَّ لسانُه أخيرًا بما يدلُّ على معرفة المكان الذي كان اقترضَ فيه. وهي نفسها إحدَى الحكايات المنسوبة إلى قضاء (إياس)، واحتياله لكشف الكاذب من المتقاضين. (يُنظَر: فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 65- 66، ويُقارَن: ابن الجوزي، (2003)، أخبار الأذكياء، عناية: بسَّام عبدالوهَّاب الجابي، (قبرص: الجفان والجابي)، 99؛ ابن كثير، (1998)، البداية والنهاية، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، (القاهرة: دار هجر)، 13: 124؛ ابن حِجَّة الحموي، (2005)، ثمرات الأوراق، تحقيق وتعليق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (صيدا- بيروت: المكتبة العصريَّة)، 117). وربما كان لحكايات الفِطْنة تلك مصدرٌ شعبيٌّ مشترك، استقتْ منه قِصَّةُ فولتير كما استُقيت بعض القصص المنسوبة إلى إياس.
(2) يُنظَر: فولتير، 120- 128. (3) م.ن، 122- 123. (4) م.ن، 124- 125.