(الإسلام والحرية) مشروع شرعي جدّا
إن الثقافة السيئة أشد خطرا بما لا يقدّر من الجهل، لأن الجهلة متواضعون، ولأنهم وإن كانوا أصحاب حاجات مشروعة فإنهم ليسوا من أصحاب الادعاءات الخرقاء.
(محمد الشرفي، 2008، ص. 216)
توطئـة
كما هو الشأن بالنسبة لكلّ إنسان مثقف وملتزم، توجد في شخصية الفقيد محمّد الشرفي عدّة ملامح ومكوّنات، تبعا لتعدّد الأدوار التي لعبها والمكانات التي تبوّأها. فهنالك الشرفي المناضل في الحركة النقابية الطلابية والشرفي المناضل السياسي في حركة آفاق(الستينات)، فالأستاذ الجامعي والكاتب العام المساعد لنقابة أساتذة التعليم العالي والأساتذة المحاضرين(السبعينات)، فالقيادي في الرابطة التونسية لحقوق الإنسان(الثمانينات)، لينتهي وزيرا للتربية لمدة خمس سنوات مثيرة للغاية(1989- 1994)، قبل أن يلتحق من جديد بفعاليات المجتمع المدني الوطني والدولي (رابطة حوار الحضارات بالأمم المتحدة: 2006).
لقد تحدّث أصدقاء الفقيد بصفة خاصة عن الملامح النضالية النقابية والحقوقية والسياسية في شخصيته الثرية وكتبوا عن ذلك في مختلف الصحف الوطنية والعربية، وبما أنني من جيل لاحق لجيله وحتى للجيل اللاحق به، فإني غير مؤهل لإضافة المزيد حول هذه الجوانب، ولعلّ أحسن طريقة نحيي بها ذكراه هو أن نتوقف عند أهمّ أثر فكريّ تركه، وهو كتاب "الإسلام والحرية: سوء التفاهم التاريخي"، لنرفع سوء التفاهم الحاصل حول "سوء التفاهم" الذي أراد الفقيد رفعه حول علاقة الإسلام بالقيم الإنسانية الكونية وعلى رأسها قيمة الحرية. زد على ذلك أن ما يجلب انتباهي على نحو خاص في مسيرة الفقيد الاستثنائية ، بحكم طبيعة اهتماماتي الحالية، هما الجانب الفكري و الجانب التربوي الاستراتيجي.
وعندما نقول الفكر، نقول الآثار المكتوبة، من دراسات ومحاضرات، وبالتالي لا يهمّنا ما يتجاوز ذلك إلى الممارسات الخاضعة إلى مقتضيات المأسسة وإكراهات اليومي، والحماس الذي قد يكون أحيانا مبالغا فيه في تطبيق الرؤى والقناعات الخاصة بفعل استشعار امتلاك النفوذ، فتلك أمور تتوقف على نصيب الحكمة العملية ورصيد الخبرة التنفيذية، والناس يتباينون فيها أيما تباين، مهما جمعتهم الآراء وتشخيصات عيوب الواقع والوعي بمتطلبات المرحلة، والشواهد على ذلك في التاريخ البعيد والقريب كثيرة.
1- محمد الشرفي المثقف والمفكر والاستراتيجي التربوي
إذا ما سُئِلتُ عن أبرز صفات فكرية تبينتُها لدى فقيد المجتمع المدني ورجل الدولة السابق المرحوم محمد الشرفي فسأقول دونما تردّد الوضوح والتمييز (الديكارتية) والنزاهة وقوّة الحجة. وإذا ما سُئِلتُ ما هي أبرز صفات خُلقِية لمستها لديه، فسأقول إنها بلا ريب صفات التواضع والهدوء وحسن الإنصات والحرص على الاستفادة من ملاحظات الآخر المختلف.
التقيته في أواخر سنة 2004 في ندوة "الإسلام والديمقراطية" وحدّثته في صالون نزل "أفريكا" عن المفهوم الأثير لديّ: "ختم النبوّة"، بما هو ارتفاع للوصاية عن عقل الإنسان وشرط معرفي لولادة الحداثة في السياق العربي الإسلامي المثقل بمؤثرات التراث المختلفة غثّها وسمينها، و ذكّرته (بصفته رجل فكر ورجل قانون) بالدور الحضاري العظيم الذي قام به الأنبياء لإخراج أقوامهم من طور البربرية والتوحش، بمساعدتهم في مرحلة طفولتهم العقلية، على ترك الأوهام والخرافات، والتنظّم بدلا من ذلك وفق شرائع تكفل الحدّ من ظواهر العنف والنهب والظلم وترسي مبادئ أولية في الاجتماع البشري والمجتمع المدني، حتى إذا ما انفتح أمام الإنسانية أفقا للنضج، خُتِمت النبوّة، لإعطاء الإنسان فرصة للتدرّب على الاستقلال بعقله والاعتماد على نفسه في مواجهة خضمّ الحياة ومشكلاتها المتجدّدة، وبالتالي ليس هنالك من موجب لمعاداة الدين والحال أنه المرافق الأكبر تاريخيا للعقل وللمدنية والحضارة، إذا ما فهمناه من جهة مقاصد الوحي القصوى ولا من جهة تأويلات الفقهاء المحدودة والمنغلقة. استمع إليّ الأستاذ الفقيد بكل انتباه ولمست منه تثمينا عاليا ومخلصا لكل هذه الأفكار ثمّ أعرب عن رغبته الشديدة في الاطلاع على الكتيّب الذي ضمّنته إيّاها2...
لم أكن وقتها قد قرأت كتاب الأستاذ محمد الشرفي "الإسلام والحرية" وأفكاره حول "سوء التفاهم التاريخي"3، ولم أكن والحق يقال أعرف الرجل عن قرب، لأسباب موضوعية، فتملكتني حيرة، بين ما كنت أسمع عنه، وبين ما لمسته منه من تواضع وتفهّم ومن استعداد للحوار والانفتاح على الفكر الآخر. فأيقنت لما قرأت كتابه بوجود "سوء تفاهم تاريخي" بين ما يريد هذا الرجل قوله وفعله (رفع سوء التفاهم التاريخي حول الفرق بين صورة الإسلام المثالية كما بشر بها الوحي، وبين بعض صوره الفعلية كما كرسها القادة بتواطؤ الفقهاء) من جهة وبين ما روّج عنه من أفكار ونيات، من قبل البعض من جهة ثانية.
إنّ أكبر تهمة وجّهت لمحمد الشرفي من قبل الإسلاميين (الأصوليين منهم خاصة) لمّا كان وزيرا للتربية هي تهمة "تجفيف المنابع"، ولكني لما تمعّنت في أفكار الرجل (التي لا تعدو أن تكون أفعاله إلاّ محاولة تطبيق لها) وجدت أن المنابع التي يتحدّث عنها الأصوليون، أنصار المدرسة الفقهية التقليدية المتحجرة، إن هي إلاّ منابع الفهم الضيق
والساذج لمقاصد الشريعة السمحة4. منابع التعصب والانغلاق و مصادرة حقوق الإنسان وامتهان المرأة ووأد الإنسان الحرّ المكرّم إلهيا، بمقتضى الممكن الطبيعي، بالعقل وحرية الإرادة.
من المحتمل أن يكون الفقيد محمد الشرفي قد أخطأ في كيفية تنزيل هذه الفكرة العقلانية أو تلك منزل التطبيق5، ولكن هذا لا يمسّ في شيء قيمة وجدية المشروع الإصلاحي الحضاري والمدني الذي بلوره بكل ألمعية ووضوح. فوجب عندئذ عدم إلقاء "الوليد (المشروع الوليد) مع ماء الغسيل".
وإليكم أهم عناصر هذا المشروع الإصلاحي التنويري: عقلانية، روحانية متسامية، حفاظ على روح الوحي ومقاصده العليا، علمانية مؤمنة6، هوية حضارية تعددية ثرية، حرية، احترام كامل لحقوق الإنسان، ديمقراطية، اعتراف بالآخر، إضفاء النسبية على الأفكار، انطلاقًُ من التعليم والتربية في كل عملية إصلاح شامل، لأن الملاحظة الدقيقة والبحث أفادا بالدور الحاسم للتربية وبرامج التعليم في نوعية الهوية التي ستطبع الأفراد بطابعها والتي سيتحمل المجتمع أوزارها أو سيتلقى أنوارها...
وبطبيعة الحال، حرص الوزير السابق محمد الشرفي على أن تبث مختلف تلك القيم في البرامج المدرسية وأن ينقّيها من شوائب التعصب والعنف والكراهية والضغينة وامتهان المرأة و قهر الإنسان بصفة عامة. و إذا ما تأملنا برامج التفكير الإسلامي لعهده بصفة خاصة، فسنلمس تأكيدها على تاريخيّة المقالة الكلامية(اللاهوتية) ونسبيتها وعلى تعددية المعرفة بالدين (نصوص متنوعة منسوبة إلى القاضي عبد الجبار المعتزلي والبغدادي الأشعري وابن رشد الفيلسوف وابن خلدون الذي جمع بين الفلسفة وعلم الكلام السني، ثم تجاوزه لكل ذلك بعلم العمران البشري...الخ.) والتأكيد كذلك على المعاني العميقة للعبادة والصلاة (نصوص للفيلسوف الهندي محمد إقبال مأخوذة من كتابه "تجديد الفكر الديني قي الإسلام")...الخ. صفحة مضيئة بلا شك، بالرغم من كل النقائص الحاصلة، في تدريس المسألة الدينية بالمدرسة التونسية. والخوف كل الخوف من التراجع عن هذه المكاسب بتعلاّت بيداغوجية واهية، هي أقرب إلى الديماغوجيا منها إلى البيداغوجيا.
و لقد اكتشفنا في ما بعد أننا كنا على درجة عالية من التوافق في الطرح التربوي مع مقاربة م. الشرفي لتعليم مادّة التفكير الإسلامي، حيث كتبنا سنة 20027، في معرض بحثنا عن إمكانية بناء تعلمية لهذه المادّة، بعد تحليلنا للمكانة الابستمولوجية لمختلف فروع المعارف الإسلامية الكلاسيكية، ما يلي: « ما نخلص إليه أخيرا هو أنّه لا قطعيّ البتّة في أمهات العلوم الإسلامية علم أصول الفقه وعلم أصول الدّين و الفلسفة. وأنّ الخلاف حول القضايا التي تثيرها يتطلب جرده مجلّدات كثيرة. وبالتّالي فانه وإن كان الخطاب العلمي الإسلامي القديم هو خطاب مغلق في مستوى كل فرقة وكل مذهب نظرا لسيادة عقلية " الفرقة النّاجية " فإنّ أمام المسلم اليوم، و خاصّة المثقّف فرصة حقيقية لتأسيس خطاب مفتوح بأتمّ معنى الكلمة، و ذلك عندما يتناول مجمل التّراث العلمي الإسلامي في تنوعه و ثرائه. فلا شيء يلزم باتّباع هذه الفرقة أو تلك أو باعتناق هذا المذهب أو ذاك.
و إذا كانت هناك حقيقة لا جدال فيها فهي حقيقة التعدّد و النسبية و الاحتمال و الجدل هذا هو ما يوصلنا إليه البحث التاريخي في الفكر الإسلامي القديم. تصبح المعرفة إذن في وقت الحاضر لا معرفة حالة على حدّ تعبير بياجيه، و لكن عملية بنائية بهدف التكيف مع العالم الخارجي أي معالجة المشاكل و القضايا التي تعرض الفرد و الجماعة بروح السماحة و الحوار و الصراع المعرفي الاجتماعي النزيه.»(ص. 73).8
و في الحقيقة لا يزيد محمد الشرفي على أن يعلن تبنيه لاجتهادات ما يزيد عن قرن من الفكر الإصلاحي لـ«رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وطه حسين من مصر، والطاهر الحدّاد ومحمد الطالبي وعبد المجيد الشرفي9-وأمثالهم كثيرون- من تونس» (الإسلام والحرية، ص. 208)... «الذين انتفعوا بأفكار قال بها المعتزلة وابن رشد والعقلانيون عامة»(ص. 221)، دون أن يكتم إعجابه الكبير بـ«الثورة الفرنسية العظيمة، ثورة 1789، وبعصر الأنوار الذي سبقها، وتطور النظام البرلماني الإنجليزي لإرساء الديمقراطية» (ص. 209). وهذا كله لا يجعله يغلو في فكره بل يفرد للعقائد والغيبيات مكانة معقولة في التعليم فيقول حرفيا: « وخلافا لذلك فإن المسائل الماورائية، وكذلك المسائل المتصلة بعلاقة المسلم بالإله (العقائد، الصلاة، الصوم، الخ...)، من الطبيعي أن نبقي على تدريس الإسلام في شأنها كما توارثناه. ومن الطبيعي أن نعلم الناشئة قيم الإسلام الأساسية، قيم المحبة والتعاون والسلام، قيم الحرية على النحو الذي أدركه المؤلفون المحدثون المستنيرون» (ص. 208)... فـ« ليس الكلام هنا لمناهضة العروبة والإسلام، بل كل ما في الأمر أنه يجب أن نتجنب التنافر بين المدرسة والمجتمع وأن نحقق الانسجام بينهما» (ص. 206).
إسلام عقلاني مستنير ومشروع مدني ديمقراطي تقدمي وإصلاح تربوي شامل يبني الإنسان التونسي الجديد: هذا ما أراده الأستاذ الفقيد محمد الشرفي لتونس ولأبناء تونس. إنه خلاصة الشعور الحضاري الصادق للمثقف التونسي الأصيل.
يتبين لنا إذن أنه لا مشكلة لمحمد الشرفي لا مع الإسلام ولا مع المسلمين10، وإنما مع صنف من الإسلاميين، هم الذين ظنوا أنهم وحدهم المعنيين بـ"الدفاع" عن الدين أو عن دنيا المسلمين. لقد انحاز م. الشرفي بوضوح إلى أصحاب تجربة مجلة "15/21"11، التي قال عنها بأنها « تكتسي طرافة ذات بال» وأن تسميتها« تسمية ذات دلالة، إذا اعتبرنا أن المجلة اختارت أن تعبر عن برنامج يتأسس على الرغبة في التحاور مع الأديان والحضارات الأخرى، وعلى حاجة الإسلاميين إلى مراجعة جذرية بل ثورة ثقافية قبل البدء بأي عمل سياسي. غير أن هذه المجلة قد آل بها الأمر إلى الفشل، إذ حوربت من طرف الإسلاميين (...)، ولم تلق الدعم من قبل المسلمين غير الإسلاميين»(ص. 46). وقد عبّر م. الشرفي عن أسفه لفشل هذه التجربة12...
الثورة الثقافية السلمية (ولا الماويّة الدموية13) ولكن العميقة والمثابرة، هذا ما نشترك فيه من دون مواربة مع محمد الشرفي. مرّة أخرى نلتقي معه عندما كتبنا في محاولة إصلاحنا للعقل الديني (2006): «إنّ جانبا كبيرا من تخلف الوعي ونقص الفهم في مجتمعاتنا العربية يعود إلى تغلغل أصناف من العوائق الثقافية في عمق نواة التصورات المحمولة عن العالم وفي عمق نواة الاعتقادات الابستيمية (الاعتقادات حول المعرفة من حيث طبيعتها: مطلقة أم نسبية، ومن حيث تركيبتها:بسيطة أم معقدة، وأخيرا من حيث مصدرها: تأخذ من السلطة المعرفية أم تبنى ذاتيا)14 .
لا بدّ إذن لتوفير بعض أهم شروط نهضتنا وبناء حداثتنا، من تركيز الجهد على هذه العوائق الثقافية وعلى هذه الاعتقادات الابستيمية الساذجة.
هذه العوائق لا توجد فقط في نسيج الوعي العامي بالعالم وبأشيائه، بل توجد كذلك حتى في بنية المعرفة الدينية المختصة أو المتعالمة (التي تتوهّم كونها عالمة).
وعندما نتحدّث عن الثقافة في مجتمعاتنا العربية فهي من دون شك في علاقة حميمة بتراثنا الديني الإسلامي. ومن هنا فإن مساعدة الأفراد على الوعي بالعوائق الثقافية التي تحول بينهم وبين الوعي العلمي والفهم العقلاني للظواهر الطبيعية و الإنسانية، يتم ضرورة عبر إصلاح العقل الديني الذي عوض أن يكون رافدا من روافد الفهم (باعتبار أن القرآن الكريم يحثّ على طلب العلم و يعلي من شأن العلماء الذين اعتبرهم الحديث النبوي ورثة للأنبياء) أصبح مقاوما له وعائقا أمام تحقّقه» (ص. 11).
2- محمد الشرفي وقضية الهوية15
لقد راج في أوساط بعض المحافظين أنّ محمد الشرفي معاد شرس للهوية العربية الإسلامية وللقرآن الكريم وأنه يدافع عن أطروحات يسارية متطرفة أو ليبرالية انبتاتية استئصالية، فهل يستقيم مثل هذا الحكم القاسي على فقيد المجتمع المدني والدولة التونسية؟
يتضح من الطريقة التي قدّمنا بها فكر الفقيد أننا لسنا منحازين إلى هذا الطرح، بل إننا على قناعة من عدم موضوعيته وواقعيته16، وسنقدّم في ما يلي المزيد من الأدلة على صدق وطنيته واعتزازه بانتمائه العربي الإسلامي.
ألقى محمّد الشرفي سنة 2002 محاضرة من على منبر المعهد المتوسطي في برشلونة تعبّر بكل جلاء وعمق عن جملة مواقفه من الذّات في علاقتها بذاتها (الموقف من التراث) ومن الآخر(المعاصرة أو حوار الثقافات والتثاقف).
لقد اتسم خطاب المثقف الملتزم محمد الشرفي بسمات جلبت له كل تقدير من كبار المفكرين والمثقفين في العالمين الغربي والعربي:
• فهو خطاب كوني، يبحث عن القاسم المشترك في حركة تطور المجتمعات والثقافات والأديان، فيبرهن بكل وضوح وإقناع ومن خلال أمثلة دقيقة من تاريخ اليهودية والمسيحية والإسلام، على أن كل الأديان قد تقمصت أشكال تدين تاريخية، تراوحت بين التشدّد والانغلاق وإقصاء الآخر وتكفيره وبين الانفتاح والتسامح والسعي نحو والتعارف التعاون، وأن الجنوح نحو التطرف ليس من صميم أي دين كما تزل من عند الله، بل هو من عمل البشر وتباطؤ نسق الفهم والتفهم لديهم.
• وهو خطاب المعتزّ بدينه وبالقرآن الكريم17 الذي احتوى على مبادئه السمحة، والذي لم يأمر البتة برجم الزاني18 أو قتل المرتد ومنع بشدّة الإكراه في الدين ومنع الرسول من فرض نظام يسيطر به على الناس لإلزامهم بعقيدته وأحكامه.
• وأخيرا هو خطاب يدافع عن الإسلام ويبرؤه من تهمة الاستبداد والقهر والظلامية، ويؤكّد أن «الإسلام دين ليبرالي»، أي دين الحريات والكرامة الإنسانية، كرامة الرجل والمرأة والطفل والإنسان على نحو عام. يقول محمد الشرفي : « النص المقدّس في الإسلام، كلام الله، نصّ يؤكّد على الحرية»19.
ولعلّ الرؤية تزداد صفاء إذا ما طُرحت جانبا الملابسات السياسية التي حفت بصدام م. الشرفي مع الإسلاميين في تونس نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، وإذا ما سلّمنا بضرورة تحييد المساجد عن المزايدات السياسية كما دعا هو بنفسه إلى ذلك، لا من أجل تعطيل الفريضة في ذاتها، كما يظن المتسرع أو المرائي. يقول م. الشرفي في هذا الشأن: « كما ينبغي إقرار حيادها[أي المساجد] إقرارا جليا والالتزام به التزاما تاما، فلن يكون على الأئمة، أن يدعوا للحكام ولا أن يدافعوا عن سياساتهم، وعليهم أن يحجموا عن أدنى انتقاد للسلطات العمومية، وعن التعبير عن أي موقف من مختلف التيارات السياسية» (الإسلام والحرية، ص. 172). وقد يحتجّ البعض بأن على الإمام أن يكون قدوة للناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا صحيح، ولكن ممارسة النقد السياسي في المساجد يحدث لبسا لا يمكن تخطيه، لتلبّسه بما هو ديني، فيتحوّل مجرد رأي طرف من الأطراف إلى جزء من قناعات بعض الأفراد الدينية ويستحكم في نفوسهم إلى درجة التحول إلى باعث على ممارسة العنف لمحاولة فرض ما يرونه حقا قاطعا على غيرهم من المواطنين. ولذا من أراد أن يدلي بدلوه في الشأن العام فعليه توسل سبل العمل السياسي والمدني وفق ما يشرعه القانون من طرق سلمية في التعبير والتغيير.
خاتمـة
لقد آن الأوان، وقد انتقل الأستاذ م. الشرفي الوطني الغيور إلى "دار الحق"، لتقييم ونقد تجربته الفكرية ومشروعه الإصلاحي بروح الحق الذي يُسعى إليه فلا يدرك كاملا، ولكن أيضا للقيام بالنقد الذّاتي الشجاع من قبل من اتهموه ظلما بمحاربة الدين ومعاداته. ولنقلع بالكامل عن عقلية التكفير والتخوين والتجريم، فديننا دين الحرية بامتياز. حرية الفكر وحرية الإرادة وحرية العمل البنّاء.
ولعلّ الموضوعية والصدق يقتضيان في النهاية أن نبدي ملاحظة لا تمس في شيء أهمية وأحقية المشروع الفكري والتربوي الإصلاحي للفقيد محمد الشرفي، بل إن إبداءها قد يساعد على التفرقة بين شرعية النظري في مسيرة هذا الرجل وضرورة عدم التفريط فيه، بعد ثباته أمام النقد العقلاني، من جهة، وقابلية العملي للنقد والتقييم الذين قد لا يبرّآنه في كل الأحوال، من جهة ثانية.
ما نريد أن نقوله على هذا الصعيد هو أننا نعيب أمرا واحدا على المرحوم محمّد الشرفي، أمر ألقى بظلال من الشك حول طبيعة نواياه إزاء المسألة الدينية، وهو عدم تمثّله الكامل، في مرحلة تقلّده الوزارة، لحقيقة أنّ الحرية التي يدعو إليها هي كلّ لا يتجزّأ وأنّ هذه الحرية تقتضي عدم المأسسة المنهجية لمساحة القناعات الشخصية طالما أنّها لا تمسّ بالسّلم الأهلي ولا تخرق قواعد الدستور. كما أنّ مبدأ «لا إكراه في الدّين»، ليس بأكثر جدارة من مبدإ «لا إكراه في عدم الدّين»، إذ هو نفسه. فالدين يقول «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، فهو قد ضمن حق الإيمان كما ضمن حق اللاإيمان الذي هو إيمان على نحو مقابل، فضلا عن حقّ تأويل كليهما تأويلا حرّا والتزام العمل بمقتضى ذلك التأويل ما لم يمسّ حرّية الآخرين كما يكفلها القانون. وبالتالي فالمطلوب حسب رأينا، هو تطبيق ضرب من العلمانية المعتدلة تحترم حق الأفراد في التمثل الحر لروحانية الدين وأخلاق العفة التي يدعو إليها، فليس كل إيمان ينطوي على نزعة تيوقراطية أو ماقبل-حداثية بالضرورة، فكل آباء الحداثة الغربية كانوا مؤمنين، وليست كل علمانية تعني معاداة الدين بالضرورة كذلك.
ولكن ما قلناه عن الشرفي الوزبر يصدق كذلك على خصومه الإسلاميين الأصوليين، وإن بطريقة مقابلة، فنذكرهم هم الآخرون بأن الحرية كل لا يتجزّأ، للذّكر والأنثى، للمؤمن ولغير المؤمن، وأنها خيار استراتيجي وليست مجرد تكتيك مرحلي، نؤمن بها يوما ونكفر بها يوما آخر.
وعلى كلّ إذا ما عدنا إلى محمد الشرفي المفكر ومحمد الشرفي الحقوقي، فإن كثيرا من الخلافيات ترتفع. هذا بطبيعة الحال مع من رام استعمال عقله وفتح بصيرته، أما الصمّ فلا تسمعهم الدعاء مهما فعلت.
أرجو أن أكون قد وفقت بعض الشيء إلى رفع اللبس الحاصل تاريخيا (معاصرةً) حول محاولة رفع اللبس التاريخي (تاريخ الحضارة الإسلامية)20 التي قام بها الشرفي في "إسلامه الحرّ". أما الأخطاء، فهي بالتأكيد التأكيد الدائم على ضرورة عدم تأليه البشر، مهما أحسنوا نياتهم واجتهدوا في تطبيقها.
[1]