من طوبوغرافيا الاعتقاد إلى مسطّح المحايثة
طرح المشكل: مزاحمة اللاهوت للناسوت**
يعيش الإنسان في أجزاء واسعة من العالم الإسلامي وضعا على قدر من الغرابة، غرابة ناتجة عن مفارقة انتمائه المزدوج إلى الماضي والحاضر معا، ماض يختلف مفارقة فضاءه المعرفي التّصوري عن الفضاء المعرفي النموذجي المعاصر اختلافا جذريّا. لنعط مثالا عن ذلك المسافة الابسمولوجيّة الشاسعة التي تفصل علم الكلام (علم أصول الذين اللاهوت القديم) عن العلوم الإنسانية التي ظهرت في بداية القرن الماضي. الخاصيّة المميّزة للأوّل هو كونه يتمحور حول الإلهيات التي "تتخفّى وراءها الانسانيات" (1) فلا حديث في إطار هذا العالم إلا عن العدل الإلهي والعلم الإلهي والحريّة الإلهية... الخ، حديث يعوّض قائليه عن الجهر بغياب العدل في الدّولة وفقدان القدرة على التمييز والإصلاح والإمكانيات الماديّة اللازمة لإنجاز ذلك....الخ فمن كان إلى جانب الانسان /"المواطن" يدافع عن حرّيته ويطالب الحاكم بالعدل ويعترض على أخذ أحد بجريرة لم يقترفها كان مع المعتزلة في القول بالعدل الإلهي والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي بعض من أصول الذين لديهم. ومن كان من الذين ينأون عن مقارعة الظلم ودحض حجة المستبدّين انتسب إلى المرجئة الذين يقولون بأنّه "لا تضرّ مع الإيمان معصية ولا تنفع مع الكفر طاعة" ومن دعا إلى الاستسلام إلى الأمر الواقع والقبول به صغارا قال بدعوى الجبريّة الذين لا يرون الإنسان/ "المواطن" إلاّ واقعا تحت مشيئة الله في كلّ ما يعرض له لا تقدر أن يغيّر مـن واقعـه شيئـا.
هـذا بخصوص "علم الكلام" وموضوعه (الإلهيات التي تخفي ورائها الانسانيات وقضايا "المواطنة وحقوق الانسان"). أما الدرس الخلدوني في غلق باب البحث في اللاهوت واعتباره "طمعا في محال" لعدم قدرة العقل على القطع في الغيبيات، تمهيدا لفتح باب الانسانيّات (علم العمران البشري)، فهو درس كان سابقا لأوانه ولم يستوعبه أحد في عصره.أما في ما يتعلق بالعلوم الإنسانية، فإن موضوعها، كما هو واضح بذاته، الانسان نفسه، ولا من ينوي عنه الانسان بكلّ أبعاده الاجتماعية والنفسيّة والمعرفية والثقافيّة هذا هو الوضع إذن: علم الكلام الذي يستمرّ في تأثيره الخفيّ على عقل ووجدان المسلم المعاصر وعلوم الانسان التي تحدث انقلابا كوبرينكيّا في موضوع العلم، "يختفي الإله ويظهر الانسان" بعد أن كان هذا الأخير مختفيا وراءه. هذه العلوم (الانسانيات) تصافح الأفراد بفتور في المعاهد الثانوية وفي الجامعات والكتب والنشريات والمحاضرات ووسائل الإعلام ويبدي النّاس بعض الاهتمام بعلم النفس مثلا واهتماما أقل بعلم الاجتماع وجهلا بالأنتروبولوجيا واستغرابا من الاثنولوجيا...الخ.
الحصيلة: كائنات تراثيّة أكثر ممّا هي معاصرة، حتى وإن شملتها استخدامات التقنيات الحديثة بأنواعها... نسلّم بذلك نعم، ولكن ألم يكن للفراعنة مهندسون مدهشون وكيمائيون بارعون، ومع ذلك فإنّهم قد سخّروا تقنياتهم ومعارفهم لخدمة مجرّد اعتقادات وخيالات وأوهام.
في الحقيقة، إن هذه المعضلة ليست بالجديدة, فحتّى في مرحلة هيمنة "اللاّهوت" رسميّا فإنّ ضروبا خاصّة من الفكر الديني هي التي سادت وعلقت بأذهان الناس. لم يعلّق بها مثلا الحرص الكبير على تنزيه الله الذي كان يبديه المعتزلة وإنّما بعض شوائب التجسيم وتصوّرهم لعالم يتربع الإله أعلاه في "السماوات العلى" (بينما يعلم صبية المدارس الآن أنّ السماوات موجودة أيضا"أسفل" الكرة الأرضيّة، بل وتلفّها من كلّ ناحية).
انتصر الفكر الأشعري والجبري تاريخيا مع أنّه لم ينتصر نظريّا، لأنّه كان الأقرب إلى وجدان العامّة ونزوعهم نحو التبرير والخنوع والخضوع والتّظاهر والمجاملة والتملّق والتزلّف وأحفظ لنفوسهم حتى وإن كانت نفوسا منحطّة. أمّا الاعتزال والفلسفة فكانا بعيدين عن وعي العامّة وهمّتهم (2). واليوم لم يحدث جديد يذكر في هذا المستوى، ربطة عنق وتسريحة آخر موضة مع فكر في غاية السّذاجة والبلاهة. مازالت علوم الانسان شأنا خاصّا بطلاب الجامعات والمدرّسين وحلقات البحث لم تتحوّل إلى "علم كلام معاصر"، أي منتوجا اجتماعيّا يستهلك على نطاق واسع ويعيد تشكيل وعي الأفراد ويوجّه سلوكاتهم.
وما سأحاول القيام به في هذا المقال هو تحبير صفحة في مجال "الإسلاميات التطبيقية" بالاعتماد على منهج معيّن من مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة إسهاما متواضعا في تدارك هذا النقص.
في المنهج :
ولمّا كنا نروم فحص تركيبة الاعتقادات الدينية لدى البشر عامّة بغض النظر عن نوع ديانتهم فإنّ أنسب مقاربة/ منهج يمكننا اعتماده على هذا الصعيد هو، في رأينا، البنيويّة، لأنّها فعلا لا تهتمّ بمضمون التصورات الدينية بقدر ما تهتم بتركيبتها أو بنيتها ومن هنا اشتقت تسميتها: البنيويّة. أمّا في ما يخصّ أفق التجاوز فقد استأثر باهتمامنا تركيب نظري متميّز لدى جيل دولوز وهو ما عرف بـ"مسطّح المحايثة"، سنعمد إلى التعامل معه وبه للتحوّل من أفق الاعتقاد الديني القديم إلى أفق تحايثي حديث.
لقد ظهرت البنيوية في أواسط الستينات وروّجتها وسائل الإعلام الغربية كموضة تودّ أن تخلف تيّار الوجوديّة(3) وكانت هذه المجرّة العلمية تضمّ، بدون تميزات، لاكان وبارت وفوكو وألستوسير وليفي ستراوس، زيادة على من اعتبرهم هذا الأخير البنيويين بحق الوحيدين: بنفنيست ودومزيل ورومان، دون أن يغفل فالون في مجال علم نفس الطفل كذلك(4). بصفة عامّة يمكن القول أنّ الإلماعة الرئيسية للبنيويّة هي، كما ذكرنا، في تنبيهها إلى انخراط التكوينات الفكرية والتصوريّة للبشر في بنيات ذات هيكلة مخصوصة، وهي قد اجتهدت كثيرا في البحث عمّا يوحّدهم في هذا المستوى. مثال "التكوين ثنائي الاستقطاب" في التّصورات للكون: أرض/ سماء وللتجمعات السكنيّة: قرية/ مدينة وللقرابة: قرابة الدّم/ قرابة المصاهرة... الخ. (5) ويذهب ليفي ستراوس أن التقابلات الثنائيّة هي أكثر البنى "اشتراكا وثراء في تفكير البشر والمجتمعات التي تمّت دراستها، وهي أبعد ما تكون عن مجرّد تكوين منطقي تختصّ به بعض الأوضاع الذهنية داخل حضارة معيّنة دون بقيّة الحضارات، بل إنّ أعمال المختصين في علم الخلايا العصبيّة هي من تدعونا إلى اعتبار الدّماغ نفسه كآلة ثنائيّة الاستقطاب، على الأقل فيم يخصّ بعض مناويل نشاطه وهو أمر لا يختلف لدى البدائيين عمّا لدينا. الثنائيّة ليست في الذهن إلاّ لأنّها توجد قبل ذلك في الجسد (6).
مثال تطبيقي:
بعد هذه اللّمحة الموجزة، وربّما المختزلة نوعا ما، عن البنيويّة نودّ أن نمرّ إلى فحص حالة خاصّة من التصوّرات/ الاعتقادات البشريّة للكشف عن بنيتها الموحّدة لدى أغلب الأمم والجماعات الإثنيّة، لنرى كيف أن حال معتقدات المسلمين الدينيّة اللاهوتيّة لا يكاد يختلف بنيويّا عن حال معتقدات غيرهم، بما فيهم أصحاب الديانات غير السماويّة. وهدفنا من ذلك هو بكلّ وضوح هدف تربوي، يمرّ بمرحلتين: مرحلة أولى تتمثّل في محاولة "إحراج" الذهن لخلق حالة لا توازن معرفي/ وجداني قد يفضي إلى المرحلة الثانية والتي هي مراجعة بنية التّصورات اللاهوتيّة القديمة والبحث عن بديل أكثر عقلانيّة لها.
سنبدأ محاولتنا هذه بسرد القضيّة التالية:
جاء في كتاب "ماهو صحيح وما هو حق لريمون بودون (7) أن قوما من بعض القبائل الأستراليّة يدعون الباباغو يتّخذون إلاها يتصوّرونه يسكن أعالي الجبال المحيطة بقريتهم ويطلّ عليهم من فوقها يراقب كلّ حركاتهم فلا يفوته منها شيء. ولقد حاول بعض الباحثين الأنتروبولوجيين أن يتفهموا معقولية هذا الاعتقـاد لــدى الباباغو فطرحوا عليهم أسئلة من نوع: هل حصل لأحدكم أن رأى هذا الإله الذي يسكن أعالي الجبال، فكانت الإجابة المجمع عليها أنّ هذا أمرا لا يمكن حصوله لأن عناكب الغابة تتولى مهمّة إخباره بأيّ قادم ما أن يهمّ باختراقها والصعود إلى الجبل، فيختفي بسرعة عن الأنظار. ولمّا حاولوا معهم إثارة مشكل فيم إذا كانت العناكب قادرة على الكلام لمخاطبة هذا الإله تيقنوا أن هذا الأمر لا يعدّ وإلاّ أن يكون مشكلة ثانويّة أمام الكمّ الهائل من المشاكل اليوميّة و"الوجوديّة" التي يتكفّل إلاه جماعة الباباغو بحلّها لهم. وما يؤكّد عليه يودون في هذا السياق، باعتماده على المقاربة العرفانيّة أن هذه المنظومة الاعتقاديّة لا يمكن أن توصف بأنّها لا معقولة مع أنّ نقيضتها (الطرح العلماني الأوروبي مثلا) يمكن أن توصف بالعقلانيّة. لا يمكن الحكم على معتقدات الباباغو بأنّها غير معقولة لأنّها بالضبط، وعلى العكس من ذلك تماما، تستند إلى معقولية ما. وليست هذه المعقوليّة التي تبدو للتقليد الفكري العلماني غير عقلانيّة، مختصّة بأمثال هذه الجماعات الإثنية على وجه الحصر، بل هي خاصيّة كلّ تفكير ذي أفق ميتافيزيقي ما. فالذي يجمع بين مختلف المنظومات الاعتقادية مهما كان منبتها والشرق والغرب هو:
أوّلا: استجابتها لمبدإ التناسق الداخلي (اللاّ تناقض)، بحيث لا يستقيم تقييمها بالانطلاق من عناصرها المكوّنة لها مجتزأة بل يحسن النظر إليها بوصفها وحدة متناغمة، لأنّ في أصل كلّ ميتافيزيقا أوكّل فلسفة في الوجود عنصر واحد على الأقل يلعب دور المصادرة التي ينطلق منها، دون الحاجة إلى إثباتها، لبناء كامل النظريّة، وبالتالي فهي خاصّية كلّ الأنساق الفكريّة والفلسفيّة مهما بدت لنا شامخة وعميقة. ثانيا: ما يجمع هذه المنظومات الاعتقاديّة هو كذلك توجهها نحو العمل(8)، أي نحو غايات تنظميّة بحيث لا تغدو أن تكون في نهاية الأمر سوى خلفية أخلاقيّة للفعل والممارسة أي ذات دلالة مخصوصة لديهم. فلو نظرنا مثلا إلى تصوّر الباباغو لموقع الإله لوجدناهم يضعونه في مكان عليّ، بحيث "يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار" وبحيث يكون "بكلّ شيء محيط"، وهذا لا يبعد عن الصورة التي أرادت الديانات السماويّة أن تنحتها في أذهان أتباعها. نفس الشيء يطبّق على الآلهة من الدارجة الثانيّة: "أولياء الله الصالحين": لا تجد أبدا مقام ولي صالح إلاّ وهو في أعلى جبل أو هضبة( "سيدي بوسعيد" "سيدي بلحسن" بتونس, "سيدي سلام" وسيدي بلبابة بـڤابس)، فضلا عن الآلهة الوثنيّة (مثال الإله خوفو الذي يحرس من عليائه أهرامات مصر في مسطّح الجيزة). لا تجد أبدا ضريحا في قاع واد. فهل أنّ أولياء الله الصالحين لا يرضون إلاّ أن يتكبدوا مشاق الصّعود إلى أعلى هضبة أو جبل حتّى يموتوا هناك. لم يحصل أبدا أن تدحرج أحدهم من أعلى جبل فمات في السّفح. كلّ هذا يكشف عن وحدة البنية الأسطوريّة وتماثل طوبوغرافيا الاعتقاد لدى كلّ البشر. ما فعله الفكر الحديث هو بالأساس إجراء تعديل عميق في هذه الطوبوغرافيا، فمسح بآلته النقديّة الكاسحة كلّ التضاريس والنتوآت وسوى كل الكائنات على سطح وجود واحد أصبح الانسان هو قمة القمم وعقله مرجع المرجعيات. وهذا ما يقودنا إلى الانتقال مباشرة إلى أفق نمذجي جديد للاتصال بالمتعالي الذي سيتحوّل إلى داخل الذّات وضمن الشرط الإنساني.
مسطّح المحايثة:
هذا المفهوم الدولوزي، الذي هو "ليس مفهوما"(9) لأنّه منفتح باستمرار، انفتاحا مطّردا يمنع تكوّن "شخصيّته المفهوميّة"، ليس إلاّ الوسط الذي تجري فيه حركات الفكر المتناهيّة بسرعات لا متناهيّة، حركات مؤمنّة من قبل انسراعيّة المسطّح (أو انسيابيّة الوسط) وعندما تتضايف رؤية المفهوم (10) مع انسيابيّة الوسط ينتج عن ذلك إبداع فلسفي متألق. المسطّح اقتطاع من السّديم الكاووسي الذي يشكّل مسارح اللامتناهي.
وبما أنّنا بصدد تقديم عرض بيداغوجي لا يسعنا إلاّ أن نقوم بعدد من التطويعات التعلميّة باعتماد منطق تحويلي معيّن(11) حتّى يواكبنا القارىء غير المعاشر للنقي الدولوزي المستعصي على الفهم من جهة، وحتّى نلائم الخطاب مع مقتضى السّياق وسنركّز بصفة خاصّة وقبل كلّ شيء على شبه مفهوم مسطّح المحايثة.
ولكن فيم تتمثّل الحاجة إلى استدعاء هذا الانفتاح المفهومي المتمثّل في مسطّح المحايثة؟
حيث أنّه لا يمكن للنسبي (الإنسان المتعيّن مثلا) أن يتّصل بالمتعالي مباشرة فإنّ عليه ابتداع جسور تصله به. هذه الجسور هي إمكانيات لا حدّ لها في سديم الوجود المتعالي، الواحد منها عندما يتشكّل في ذهن فيلسوف كبير مثل أفلاطون أو أرسطو أو كانط أو نيتشه (الجسر هنا إعادة توطين للمتعالي داخل الشرط الإنساني المطلق) فإنّه يكون عبارة عن مقطع في ذلك السديم. وليست الفلسفات المادّية أو الحداثيّة وحدها من استحدثت مسطّحات محايثة خاصّة بها. الفلسفات المثاليّة والأديان الكبرى لها مسطّحات محايثة خاصّة بها كذلك، للسبب الذي ذكرناه منذ حين، حتّى وإن كانت لا عقلانيّة. وعلى كل فمسطحات المحايثة هي قبفلسفية. غير أن محايثة الأديان، كالمسيحيّة والإسلام الكلاسيكي، محايثة توفيقيّة تحافظ على الوضع العمودي بين المتعالي (الإله مثلا) والإنسان. العالم يمثّل مدرّجا تحايثيّا للمتعالي يعاد الصعود منه إليه، بينما في محايثة الفلسفة الحديثة "انطلاقا من ديكارت ومع كانط وهوسرل، سوف يجعل الكوجيتو من الممكن معالجة مسطّح المحايثة باعتباره حقل الوعي، ممّا يعني أنّها لا بدّ أن تكون محايثة لوعي خالص ولذات مفكّرة "(12). في الإسلام الكلاسيكي المحايثة تؤمّنها الملائكة (جبريل مثلا) كدرجة أولى للنزول عموديّا من المتعالي ثمّ توضع نسخة من متعال في السّماء الدنيا في بيت العزّة(13) وأخيرا يحلّ في شخص النبيّ الذي ليس له من هذا الأمر شيء ولا دخل لوعيه قطّ فيه(14) ومن ثمّة إلى كلّ النّاس (انظر الشكل 1). أوّل ملامسة لمسطّح محايثة يستدمج المتعالي داخليّا ولا يطلبه في الخارج في مجال العقل العملي كان في رأينا مسطّح "المقاصد الشرعيّة" التي قدّت على قياس مطالب الإنسان الأساسيّة بالضبط(15) وهي التي يمكن أن تتطوّر وتنقلب جذريّا إلى حقوق الإنسان بمعناها الحديث(16). أمّا في مجال العقل النظري الإسلامي فإنّ "سيرورة ختمّ النبوّة المتواصلة" يمكن أن تشكّل مسطّح محايثة، انسراع، لبناء مفاهيم لا تنقطع (17). ولا يمثّل الكوجيتو وقابليّة التعالي لدى كانط والعقل الاستقرائي التجريبي إلاّ ورقات من هذا المسطّح، الدفتر، ذلك أنّ "مسطّح المحايثة مــورّق (ذو صحائف) ولا شكّ أنّه من الصعب أن نقدّر، في كل حالة مقارنة، فيما إذا كان الأمر يتعلق بمسطح واحد أو بمسطحات عدة مختلفة"(18). على كلّ يبدو لنا أنّه بالإمكان على الأقل اعتبار "سيرورة ختم النبوّة" مسطحّا لمختلف مسطّحات المحايثة الحداثية حتى وإن هو أخذ في النشوء بعدها. فلا شيء يمنع من اعتباره صورة صور الفكر الحداثي عن نفسه. إنّ مسطح ختم النبوّة يقطع مسطّح المحايثة الدينيّة العمودي ويتعامد معه ولا أقلّ من أن يكون موازيا لكلّ مسطّحات فلسفات الذّات. إنّ دولوز نفسه لا يستبعد أن يتحوّل الإيمان إلى "حركة لا متناهيّة مستقلّة عن الدين وتجتاز مسطّح المحاثيّة الجديد" (19) ولهذا لا يبعد أن يكون "سبينوزا مسيح الفلاسفة... [وأن يقترب] كبار الفلاسفة من الرّسل" (20)، الرّسل الذين يختمون النبوّة بطبيعة الحال. أي الذين يحوّلون المتعالي من الخارج، من فوق، إلى الداخلي كسعي إلى متعال ما محايث للذّات مثلا التي تكون قابلة للتعالي وليست متعاليّة. يمكننا أن نلخّص بالقول بوجود مسطحين رئيسيين للمحايثة: مسطّح أوّل يتبع التقليد الديني يتمثّل في مقطع في سديم الوجود قامت به حركة الوحي عموديّا (الإلهام، الأسطورة، الرؤى، الكشوفات، كلّها ورقات لهذا المسطّح الرئيسي) ومسطّح ثان متعامد مع الأوّل يتسارع في انسيابه منذ إعلان ختم النبوّة (الشكل 2). أمّا بقيّة أنماط البناء الفكري فهي تتجاور إن كثيرا أو قليلا مع هذين المسطّحين وقد تكون حصيلة تقاطعهما (علم الكلام، اللاهوت مثلا أو التفسير والفقه القديم).
خاتمة: تكشف بنية التّصورات الدينية التقليدية عن تموضع المتعالي في أعلى هرم الوجود الذي لا يبدو الإنسان ضمنه إلا كموجود قميء. وحيث استحكم هذا التّصور بذهنه لمدّة قرون طويلة فإنّ الفرصة الحقيقيّة الوحيدة أمامه لإحداث قطع جديد في سديم الوجود هو أن يتولّى المتعلي القديم نفسه مساعدته على إنجاز مثل هذا القطع، وتمثّل ذلك في النبوّة الأخيرة التي أرادت تحويل نظر الإنسان إلى داخل نفسه ذاتها: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون.) ومنذ تلك اللحظة انطلقت سيرورة ختم النبوّة التي تستمر عبر جهود الفلاسفة والعلماء في إنشاء مسطّح محايثة جديد متعامد مع مسطّح الوحي يعاد فيه توطين المتعالي أرضيّا بانسيابيّة لا متناهيّة. فهل سنظلّ شاخصين ببصرنا إلى السماء بالرغم من ذلك، مواصلين دهشتنا منها كما استمرّ كانط في فعله حتى بعد إنجاز قطعه "نحو المتعالي"، أم أنّنا سننشغل بتعمير مسطّحنا الأرضي الذي هو بالكاد موهوب لنا ؟
ما ينبغي أن نطمئن إليه هو أنّ هذا المسطّح لا تقيم فيه مراكز مراقبة لمن يشخصون ببصرهم إلى السماء، فالتّأرضن عمليّة شاقة منذ أن أخرج آدم من الجنّة ليأكل، لا ثمرا جاهزا كما يمدّه به المتعالي وإنّما ثمرة جهده الخاصّ.
[1]