التواصل ولغـة الشعـر
يميز جان كوهن بين وظيفتين للغة: الوظيفة العقلية (أو الذهنية) والوظيفة الانفعالية. الأولى تقوم على المطابقة، والثانية تقوم على الإيحاء. فالمطابقة وظيفة النثر والإيحاء وظيفة الشعر1، إذ "يكفي أن نحذف الانزياح أو نقلصه في أية صيغة شعرية لينتفي الشعر"2. غير أن هذا الانزياح مسيج عند هذا الناقد بحدود المعنى الذي بدونه لا تعد القصيدة قصيدة "لأنها لم تعد لغة"3. ولهذا فهو يعرف الانزياح بأنه "في الشعر خطأ متعمد يستهدف من ورائه الوقوف على تصحيحه الخاص". هذا التصحيح هو الذي يتم عن طريق ما يسميه كوهن ب "نفي الانزياح".
نفهم من هذا أن شعرية الانزياح تتحدد بمقدار ما يتيحه من إمكانية تفكيكه من قبل المتلقي. وهذا إذا كان شرطا في النص الشعري عند كوهن، فإنه يعود عنده إلى أصل التواصل اللغوي الذي "يفترض عمليتين متقابلتين: إحداهما الترميز، ويسير من الأشياء إلى الكلمات، والثانية فك الرموز، ويسير من الكلمات إلى الأشياء"4.
ففي الوقت الذي كان فيه كوهن يثبت الطبيعة الانتهاكية للغة الشعرية، كان يسعى أيضا إلى وضع حدود لهذا الانتهاك، منتقدا بذلك المقولة السريالية التي تربط الشعرية بالدرجات القصوى للانزياح.
وهكذا يمكن القول بأن اللغة الشعرية - من حيث كونها لغة، وكل لغة هي تواصل كما يقول كوهن5- عليها أن تحافظ على أسباب التواصل مع المتلقي، بمقدار ما تسعى إلى مخالفة المألوف. ومن أجل أن تقوم اللغة الشعرية بهذه الوظيفة التي لا محيد لها عنها، عليها أن تراعي في عملية الإبداع كونها مجالا للاتفاق بين طرفين هما المبدع والمتلقي، وأي تجاهل لهذا الطرف الثاني يؤول بها إلى سبب للقطيعة بدل أن تكون وسيلة للتواصل6.
وعلى هذا الأساس يرى عز الدين إسماعيل - في نقله للمسألة إلى الشعر العربي المعاصر– أن غاية التجديد المبدئية في هذا الشعر هي تحقيق التواصل مع المتلقي من خلال الاقتراب من لغته المعاصرة، حيث إن "المفروض في أي تعبير فني أن يكون أداة توصيل من المبدع إلى المتلقي"7.
وفيما يبدو مأخذا خفيا على ما آل إليه جزء كبير من هذا الشعر، فإنه يحذر من أن يؤدي الغموض الذي يطبعه إلى القطيعة مع المتلقي: "فلا يمكن أن تكون المسألة في هذا الشعر عدولا متعمدا عن الوضوح إلى الغموض، ولا يمكن أن تكون كذلك مجرد رغبة من الشعراء في إرضاء ذواتهم عن طريق إغاظة متلقي الشعر بوضعه في إطار من الطلاسم التي تعيى على الفهم، كما كان المتنبي يصنع (…) فمازال هذا العمد إلى الإغراب شيئا رخيصا لا علاقة له بالشعر نفسه"8.
هذا التحذير، الذي أطلقه عز الدين إسماعيل في مرحلة مبكرة من نشأة الشعر العربي المعاصر، كانت له مسوغات قوية في إنجازات شعراء هذه الفترة الذين مالوا ميلا واضحا نحو الغموض -وإن كان ذلك لم يصل بهم إلى حد إنشاء قطيعة مع المتلقي- مستوحين نموذج إليوت وجويس في المنهج الأسطوري.
ويعد السياب من أكثر الشعراء المعاصرين استعمالا للأسطورة، حتى رأى ناجي علوش في تقديمه لديوانه أن هذا الاستعمال قد أساء إلى جانب التلقي في شعره9..
وإذا كان السياب، على الرغم من ذلك، قد عمد في كثير من المواضع إلى وضع هوامش لقصائده تجلية للغموض وبحثا عن إيضاح المعنى10، فإن حركة الحداثة قد أنجبت جيلا من الشعراء والنقاد، يتبنى الغموض مذهبا، ويرى في القطيعة مع الجمهور معيارا للإبداع.
وهذه الطائفة تستند إلى توظيف معياريٍّ لمفهوم الانزياح هو ذلك الذي صححه جان كوهن في بنائه لهذا المفهوم، وهاجمه إيزر في تنظيره لفعل القراءة. وهكذا فإن بعض هؤلاء ينطلق من كون اللغة الشعرية تمثل انحرافا عن لغة النثر ليقرر أنه بمقدار ما يكون الانحراف أوسع يكون النص أشعر، وبمقدار ما يكون الانحراف أقل يكون النص أبعد عن الشعر.
وبذلك يكون انحراف اللغة تحررا من سلطة المعيار، وبقدر ما يكون هذا التحرر غير معترف بالحدود تسير لغة الشعر الحديث نحو الإبداع والشعرية. وأدونيس، الذي يقف على رأس هذه الطائفة، يربط الإبداع بالغموض والابتعاد عن فهم القراء: "كل خلاق غامض بالنسبة إلى معظم معاصريه، لا الآن وحسب، بل في التاريخ كله، وفي الشعوب كلها، لا في الفن وحده، بل في الفلسفة أيضا. وبهذا المعنى يمكن أن نسمي المعاصرة حجابا بين الخلاقين والقراء"11.
وعلى هذا الأساس، فإن أولى مهام الشاعر المعاصر عنده هي "انتشال" اللغة من دلالاتها القديمة وشحنها بدلالات جديدة "لا عهد لنا بها"12. ومن هنا دعوته إلى تفجير اللغة الشعرية بقطع كل صلة لها بالقديم لتصبح لا ماض13. وإنشاء القطيعة مع اللغة التراثية يرتبط عند أدونيس باتخاذ موقف ثوري من التراث العربي، يتمثل في استلهام مواقف التمرد فيه والإعلاء من شأن الشخصيات المتمردة والثائرة، واعتبارها رمزا للثورة على كل القواعد الجامدة، وعلى رأسها الشخصيات الشعوبية والمتصوفة14، إضافة إلى الإكثار من استلهام الشخصيات الأسطورية الوثنية.
وتصل الثورة اللغوية عنده إلى حدود الدعوة إلى انتهاك كل القيم، بما فيها تلك المتعلقة بالعقيدة: "كلنا يعرف من هو المسيح، ولعلنا جميعا نعرف كيف خاطبه رامبو: "يسوع، يا لصا أزليا يسلب البشر نشاطهم…" حين تصل جرأة الإبداع العربي إلى هذا المستوى، أي حين تزول كل رقابة، يبدأ الأدب العربي سيرته الخالقة المغيرة، البادئة، المعيدة"15.
وبوصول أدونيس إلى هذه الحدود يدرك أنه بذلك يُنظِّر لما يباعد بين الشاعر والقارئ إلى حد يقارب "حالة الانفصال و الغربة". غير أنه لا يتردد في تحميل القارئ مسؤولية هذا الانفصال واتهامه بالجهل والتخلف: "الكاتب الثوري الذي يعيش وسط جمهور كجمهورنا العربي معزول بحكم إبداعه (أي ثوريته) من جهة، وبحكم التخلف الموروث الذي يخيم على هذا الجمهور، من جهة ثانية.
الجمهور يتعلق، بل يتشبث، بكل ما يبقيه ضمن العالم الذي ألفه، لكن الكاتب ليس ثوريا إلا لأنه يزعزع هذا العالم الأليف الموروث من أجل ابتكار عالم نقي، جديد"16.
وقد تعرضت هذه النظرة الانتهاكية إلى اللغة الشعرية، والقائمة على تمجيد الانزياح بمختلف أشكاله، لنقد شديد بسبب إهمالها للقارئ والانتقاص من قدره، فأحمد المعداوي يعارض لجوء كثير من الشعراء المعاصرين إلى توظيف الأساطير المستوحاة من التراث الغربي لكون هذا التوظيف يعد من أبرز العوامل التي ساهمت في إحداث قطيعة بين الشعر المعاصر وبين الجمهور17.
كما أن من أهم ما يأخذه هذا الباحث على لغة الشعر المعاصر هو أنها لغة غير تواصلية، ذلك أنها بقولها بالهدم والانتهاك الرامبوي تصبح "لغة انتهاك تفوح منها رائحة العري. فلا مكان فيها للقيم الأخلاقية، أي أنها لغة مهمتها الأساسية هي نسف كل ما "هو مشترك بين الناس، مما يمكن للشعرية أن تحوله إلى قنوات للتواصل"18.
كما أن سعيها إلى تحطيم كل القواعد بما فيها قواعد النحو قد يفرغها من المعنى ويمنعها من أداء وظيفتها التواصلية19.
ويأخذ باحث آخر على الحداثة الشعرية اهتمامها المفرط بتحقيق الانزياحات اللغوية وأشكال الغموض والتعمية والتفتيت النحوي "في محاولة لبناء لغة مدهشة وإيجاد علاقات بنائية غير مسبوقة أو مقترحة من قبل" وتجاهلها الكلي لشرط الفهم والتواصل20.
وإلى مثل هذا يذهب أحمد بسام ساعي حين يحمل أدونيس وأتباعه من الشعراء المعاصرين مسؤولية قطيعتهم مع القارئ بسبب أخذهم بالتجريب اللغوي، ويعيب عليهم اتهامهم للقارئ العربي بالتخلف والجهل وضحالة الثقافة21.
وينسجم الموقف المتحفظ الذي يقفه أحمد بسام ساعي من المنهج اللغوي لأدونيس مع موقف معاكس له يتخذه من شاعر عربي معاصر هو نزار قباني. فهو يقول مقارنا بين الشاعرين:"كان الشاعران نزار قباني وأدونيس أبرز علامتين على طريق الشعر الجديد (…) وإن كانا في موقعين متباعدين تماما - وربما متناقضين– على خط التجديد. وكان كل منهما متمردا ثائرا على الأوضاع الراهنة، سواء أكان ذلك على المستوى الفني أم على المستوى الفكري. ولكن المسافة بين نوعي التمرد عند الشاعرين كانت شاسعة، فنحس أن نزار قباني ما يزال - رغم تمرده– مشدودا إلى أرضه وشعبه ومقومات حضارته وتراثه، بينما نجد أدونيس -شاعر القصيدة الكلية– وقد تخلى عن كل ذلك معلنا الثورة على كل ما هو قائم في الحياة العربية وتراثها وأخلاقها، بحيث يظهر نزار –في هذه المقارنة بين الشاعرين– أشبه برجل أمن مثالي يحرص على إقامة العدالة التي كانت دائما مهدرة، أما أدونيس فيظهر كثائر شرس يعتصم في قمة عالية يرمي العالم منها بالحجارة، من غير أن يسمح لأحد بالاقتراب منه"22.
ولقد انتبه نزار نفسه إلى أن الفرق بينه وبين أدونيس يكمن في موقف كل منهما من الجمهور. فهو فرق بين شاعر يتهمه بالجهل والتخلف ولا يعير للتواصل معه اهتماما، وبين شاعر يجعل كل همه في التواصل معه، ويرهن نجاح شعره بمقدار الأثر الذي يحدثه فيه ومقدار الاستجابة التي يلقاها من طرفه. ولهذا فهو يُحمّل من يسميهم بشعراء الحداثة مسؤولية قطيعتهم مع الجمهور: "الشاعر الذي يخاطب الأمة العربية في هذه المرحلة الحارقة من تاريخنا بالفوازير والكلمات المتقاطعة وبلغة مسمارية لا يمكن تفكيكها هو شاعر هارب من الجندية ويستحق الحبس في زنزانة مظلمة تشبه الزنزانة التي حبسنا فيها. حين تكون صادقا مع نفسك ومع الناس فأنت واصل حتما. إذا لم أستطع أن أوصل قصيدتي إلى الآخرين فإن الخطأ هو خطئي لا خطأ الآخرين. وعلي مراجعة أدواتي الشعرية لأكتشف موقع الخلل"23.
وهذا يعني أن الموقف السلبي الذي وقفته الحداثة الشعرية من الجمهور قد انتهى بها إلى الفشل باعتبارها مشروعا فنيا24.
هذا الموقف الرافض الذي وقفه نزار من قطيعة الحداثة الشعرية مع الجمهور يرجع إلى رؤيته للوظيفة التواصلية للغة الشعرية. ولذلك فإنه يرى أن دوره في هذا المجال قد تحقق بإنزال الشعر إلى الشارع "ليلعب مع أولاد الحارة ويضحك معهم ويبكي معهم"25.
وهكذا، فعلى الرغم من بعض آرائه القليلة المتناثرة هنا وهناك حول قضية التحرر اللغوي كقوله إن "الشعر عصيان لغوي خطير على كل ما هو مألوف ومعروف ومكرس"26، فإن هاجس التواصل ظل موجها لتجربته الشعرية، وهاجم بقوة دعوى التفجير اللغوي الأدونيسي.
من هنا إذن تتجلى وظيفة اللغة الشعرية عند نزار وظيفة تحريضية، بالمعنى "النفعي" لكلمة التحريض27. ومن ثم، فإنه إذا كان أدونيس يرى في مثل هذا الشعر –الذي يجسده شعر المقاومة الفلسطينية- شعرا غير ثوري "ولا يقدم للمستهلك إلا وهم الثورة" لأنه يخاطب الجمهور باللغة السائدة28، فإن نزارا لا يعلن انحيازه لهذا الشعر إلا لاستجابته لهذا الشرط التواصلي المتمثل في مخاطبته للجمهور "باللغة السائدة " مما يضمن له قيامه بوظيفته.
فعلى الرغم مما يزخر به هذا الشعر من كثافة لغوية تضع مسافة واضحة بينها وبين اللغة النثرية العادية، فإن هذه اللغة نفسها لم تكن غاية تجعل القارئ يلهث خلف المعنى فلا يعود إلا بالخيبة، كما يفعل مع شعر أدونيس ومن سار على نهجه. بل إن شعر المقاومة لا يكتسب قيمته الحقيقية إلا من عاملين:
استجابته لشرط التواصل من خلال استجابته للحظة التي تشغل القارئ العربي
وما يحتويه من طاقة إبداعية تبتعد بهذه اللحظة عن مستوى الإسفاف والابتذال.
ولا شك في أن عددا من شعراء المقاومة (كمحمود درويش وفدوى طوقان وسميح القاسم) قد استطاعوا على مدى تجربتهم الشعرية أن يجمعوا بين الشرطين، فيصوروا معاناة الإنسان الفلسطيني دون أن يتخلوا عن دورهم الرائد في تجديد الشعر العربي على مستوى الإيقاع واللغة الشعرية معا.
وخلاصة القول أنه رغم الوهم الذي ما فتئ بعض دعاة الحداثة يروجون له من أن هذه الأخيرة لا تتحقق إلا بإقامة سد منيع بين النص والقارئ، فإن الواقع الشعري يشهد بأن حركة الحداثة قد أثمرت ظهور اتجاهين متباينين في موقفهما من مسألة التواصل:
أولهما لا يرى الشعرية إلا في لغة انتهاكية تهدم كل ما ألفه القارئ العربي، ولا يرى في هذا القارئ إلا تجسيدا للتقليد والتخلف الثقافي.
وثانيهما يقيم مشروعه على أساس الوظيفة التغييرية للشعر التي لا تتحقق إلا بتحقيق شرط التواصل مع الجمهور، عبر المزاوجة بين ما سماه جان كوهن بالانزياح ونفي الانزياح.
كما أن هذا الواقع نفسه يشهد بأن الاتجاه الأول قد بقي مشروعه في تحديث اللغة الشعرية مشروعا نخبويا عاجزا عن نقل تجربته إلى الجمهور العربي الواسع، بينما استطاع الاتجاه الثاني أن يضمن لنفسه أوسع انتشار بين الجمهور.