قراءة في مرثية الشاعر محمد علي الرباوي
أولا: القصيدة
مرثية
(إلى الصديق حسن الأمراني الذي كتب إلي يقول :أخي محمد، سلام عليك.هل أكون حافظا وتقف أنت مني موقف شوقي؟)
اِجْعَلْ يَا قَلْبِ رِثَاءَكَ لِلطَّيْرِ جَـزَاءَثُمَّ ابْعَثْهُ لِلشّــجَرِ الْمَكْسُورِ عَزَاءَوَيْلِي.. يَـا هَذَا الطَّائِرُ بَيْنَ جَدَائِلِ أَرْوَى وَيْلِي .. إِنْ بَايَعَنِي الشِّعْرُ بِهَـذِي الْكَرْمَةِ ، أَوْ بَايَعَكَ النِّيلُ الدَّافِقُ بَيْنَ تُخُومِ أَبِي الْهَوْلِ الْقَابِعِ بَيْنَ شُجَيْرَاتِ الأَطْلَسِ .. وَيْلِي مَا تَصْنَــعُ مَمْلَكَتِي إِنْ جَاءَتْ أَرْجَاءَ الْقَصْرِ وُفُودُ الطَّيْـرِ وَلَمْ تَكُ أَنْتَ عَلَيْهَا تَاجًا يَنْشُرُ بَعْضَ جَوَاهِرِهِ الْخَضْرَاءِ عَلَى بَلَدٍ أَعْطَيْتَ خَمَائِلَهُ قَلْبَــكَ أَعْطَاكَ جِرَاحًا حَجَبَتْنَا عَنْ دِفْءِ الأَهْلِ وَمَـا حَجَبَتْنَـا عَنْ هَذَا النُّورِ الْوَهَّـاجِ السَّاكِنِ بَيْنَ ضُلُــوعِ الشَّجَرِ الْبَاسِقِ.. مَا زِلْتُ أَنَا مِنْ خَلَلِ الْحُزْنِ الْمُلْتَـفِّ عَلَى وَجْهِي الْمَكْسُورِ أَرَاكَ ، فَكُـنْ أَنْتَ الطَّلْحَ عَوَادِينَا أَشْبَـاهٌ .. وَاحْفَـظْ ذِكْـرِي بِدُمُوعٍ مِنْ ضِلْعَيْكَ تَهُـزُّ سِهَامَ الأَقْوَاسِ إِلَيَّ فَتَسْقُطَ ذَرَّاتُ تُرَابِي قُدَّامَ الْبَحْرِ ، يَقُومُ الْبَحْرُ يُغَادِرُ هَذَا الْمَوْجَ لِيَكْتُبَ بِالدَّمِ قِصَّةَ حُــزْنٍ اِنْسَلَّ إِلَيْنَا فِي شَـرْخِ الْعُمْرِ ، وَفِي هَذَا الْعُمْـِر الذَّابِلِ بَلَّلَ كُـلَّ رَيَاحِينِي وَرَيَاحِينِكَ.. وَيْلِي .. وَيْلِي ..صَاحَبْتُ الشِّعْرَ فَشَيَّبَـنِيهَلْ شَيَّبَ كُلَّ الشُّعَـرَاءِ ؟لَسْتُ أَمِيراً لَكِنِّـــي أُوثِرُ أَنْ تَكْتُبَ أَنْتَ رِثَائِـيأُكْتُبْ يَا مَنْ يُنْصِفُ بِالشِّعْـرِ الأَحْيَاءَ مِنَ الأَحْيَـاءِ:غَنَّى لِلْغُرَبَاءِ نَشِيداًوَرَحَلْ ..غَنَّى لِصَعَالِيكِ رِبَاطِ الْفَتْحِ صَبَاحًاوَرَحَلْ ..آخِرُ فُرْسَانِ سِجِلْمَاسَّةَفِي شَرْخِ الْعُمْرِ رَحَلْ ..مَا ضَرَّ لَوَ أنَّ رَحِيلَ الطَّيْرِ تَأَخَّرَ حَتَّـى تَكْتُبَ مَرْثَاةً تَنْشُرُ جَمْرَتَهَا فِي بَعْضِ شَوَارِعِ وَجْدَةَ ، أَوْ بَيْنَ أَزِقَّةِ أَسْرِيرَ المظْلِمَةِ الْعَطْشَـىيَوْمَئِذٍ تُزْهِرُ سَوْسَنَةٌ فِي جَوْفِي وَتَظَلُّ تُفَاخِرُ كُلَّ الزَّهْرِ لأَنَّ جَمِيلَ الشِّعْرِ بَكَاهَا .. ثُمَّةَ أَحْيَاهَا .عَجَبًا .. شِعْرِي يَسَعُ الْعَالَمَ .. كَيْفَ أَيَا قَلْبِي لَمْ يَتَسَلَّقْ أَجْنِحَةَ الطَّيْرِ الرَّاحِلِ ؟ كَيْـفَ وَهَذَا الْمِصْبَاحُ الرَّاقِدُ فِي الطَّرَفِ الأيْمَنِ مِـنْ جَسَدِي جَمْرَتُهُ الْبَيْضَاءُ يُؤَجِّجُهَا حُبٌّ يَرْبِطُنِي بِصِحَابِي؟ لَيْتَهُمُو قَبْلَ رَحِيلِي مَا رَحَلُــوا.. لَيْتَهُمُو وَأَنَا بِالثَّوْبِ الأَبْيَضِ مَلْفُوفٌ بِدُمُوعِهِمُو غَسَلُونِي .. لَيْتَهُمُو فِي شِعْرِهِمُو دَفَنُـونِي... لَيْتَهُمُو.. لَيْتَهُمُو..غَرَسَ النَّاسُ قَدِيماً .. غَرَسُـواقَبْلَ يَجِيءُ الأَرْضَ شِتَــاءُ .غَرَسُوا.وَبَنَوْا. هَل غَـرْسٌ دَامَ ؟ وَهَلْ دَامَ الْيَوْمَ بِنَـــاءُيَا صَاحِبِيَ الْمَسْكُونَ بِهَزَّاتِ الآهِ . مَا أَنَا لِلشِّعْرِ أَمِيرٌ .. مَا أَنْتَ لِهَذَا النِّيلِ أَمِيرٌ .. وَالنِّيلُ الأَزْرَقُ بَلَّلَ شِعْرَكَ ، خَبَّأَ فِي قَلْبَيْكَ سِلاَلاً مِنْ أَشْجَانِ الْبُؤَسَـاءِ ، وَهَـذَا الْقَلْبُ الرَّابِـضُ فِي الطَّرَفِ الأَيْمَنِ مِنْ جَسَدِي الْهَشِّ يُحَدِّتُنِي اللَّحْظَةَ عَنْ هَذِي النَّاقَةِ وَهْيَ بِلَوْنِ الآهِ تَحْمِلُ فِي قَرْنَيْهَا الْخَضْرَاءَ تَدُكُّ الْغَبْرَاءَ بِأَجْنِحَةٍ بَيْضَاءَ وَعَيْنَاهَا الْمُغْمَضَتَانِ عَلَى الْجَسَدَيْنِ الْهَشَّـيْنِ سَتَحْمِلُ فِي هَوْدَجِهَا هَذَيْنِ الْجَـــسَدَيْنِ الْهَشَّيْـنِ تَشُقُّ بِـنَا يَبَسَ الْبَحْرِ، فَمَنْ حِينَ يُبَلِّلُنَا الصَّمْتُ سَيَبْكِينَا ؟ مَنْ يَبْكِينَا ؟ مَنْ؟.. مَنْ؟..
محمد علي الرباوي. وجدة : 30 مارس 2010
العلم الثقافي 18/4/2010
ثانيا: الدراسة
لعل من أجلى سمات شعر محمد علي الرباوي تلك المسحة من الحزن التي تطل علينا من خلال قصائده، فيحملنا جمالها إلى عوالمها الغامضة لتتوحد معاناتنا بمعاناة الشاعر، كما تكشف لنا شفافيتها عن أعماق نفس إنسانية معذبة، قد أضنتها الحياة وأسقمتها تصاريفها، فكأن لسان حالها يردد مع زهير، قبل بلوغ سنه، بيتَه المشهور:
سئمتُ تكاليف الحياة، ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأمِ
فلا نكاد نجد شاعرا من المعاصرين أقرب إليه في هذا من بدر شاكر السياب. ولعل الذين استمعوا إلى الشاعر وهو يلقي قصائده قد لحظوا أنه لا يفعل ذلك إلا وهو متشح بهذا الرداء الجميل الشفاف.
لكن مرثيته التي كتبها مطلع ربيع سنة 2010 نموذج فريد لهذه المعاناة الإنسانية التي يختزنها بين ضلوعه، ويؤجج نيرانَها إحساس صار يسكنه بذبول العمر:
"يقوم البحر يغادر هذا الموجَ ليكتب بالدمِ قصةَ حزن اِنسلَّ إلينا في شرخ العمر"
عتبات النص
لا يحيلنا عنوان القصيدة (مرثية) إلى غرض من أغراض الشعر العربي فحسب، حيث الشعراء يرثون الأحبة والبلدان، على نحو ما فعل الرباوي نفسه في "مكابدات السندباد المغربي"، لكنه يحمل بين طياته دلالة ثانية تتمثل في رثاء النفس، في استحضار لما قام به بعض الشعراء العرب،كمثل صنيع سيد بني الحارث حين أيقن بدنو أجله وقد جُهِّز للقتل في قصيدته التي مطلعها:
ألا لا تلوماني، كفى اللومَ ما بيا وما لكما في اللوم خيرٌ ولا ليا
ومثلما قال بعده مالك بن الريب حين استشعر سريان السم في جسده:
يقولون: لا تبعدْ، وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا؟
ونتقدم قليلا نحو متن القصيدة، فنقف عند العتبة الثانية من عتباتها، وهي الإهداء، فتضيء لنا صورة العنوان قليلا:
"إلى الصديق حسن الأمراني الذي كتب إلي يقول: أخي محمد، سلام عليك. هل أكون حافظا وتقف أنت مني موقف شوقي؟"
بهذه العبارة الموجزة الدالة، التي كانت رسالة شخصية أفشى الرباوي سرها، يأخذنا الشاعر حسن الأمراني إلى مرثية أمير الشعراء في شاعر النيل:
قد كنتُ أوثرُ أن تقول رثائي يا مُنصف الموتى من الأحياءِ
فهل هي دعوة صريحة إلى الرثاء إذا قضى الله أمرا كان مفعولا؟
إنها لكذلك. ولكنها أيضا مبايعة خفية ماكرة على إمارة الشعر، إذ لم يكن رثاء شوقي لحافظ إلا بعد أخذ البيعة منه:
أميرَ القوافي قد أتيتُ مبايعا وهذي وفود الشرقِ قد بايعتْ معي
فأيهما كان أوفر حظًّا: أمير الشعراء الذي أخذ البيعة على إمارة الشعر، فأعقبتها في نفسه حسرة ومرارة (قد كنت أوثر أن تقول رثائي) أم شاعر النيل الذي تطوع للبيعة فخُلّد بعد ذلك في همزية شوقي وفاء من الأمير لتلك البيعة؟:
بالأمس قد حلَيتَني بقصيدةٍ غرّاء تُحفَظ كاليدِ البيضاءِ
لعل في كلام الأمراني ما يحمل الجواب الساطع عن ذلك: "هل أكون حافظا وتقف أنت مني موقف شوقي؟"
لكن هذا الكلام نفسه لا يخلو، في عمقه، من معنى الفداء الذي سيجد له صدى عند الرباوي في قصيدته.
أحلام نفس حائرة
بعد ذاك التساؤل المتضمن معنى التمني، من الشاعر حسن الأمراني، تكشف لنا القصيدة، منذ مطلعها، عن ملامح ذات تمزقها الحيرة بين تلبية نداء الصديق، الذي دعاه توددا بلفظ (أخي)، وبين رفضه. وهكذا يفتتح الرباوي قصيدته ببيتين رثائيين يستسلم فيهما لحلم الصديق بتقاسم دوري الراثي والمرثي. ولروي الهمزة فيهما دلالته التي لا تخفى. فهو يستحضر همزية شوقي في رثاء حافظ:
اجعلْ يا قلبِ رثاءكَ للطير جزاءَ
ثم ابعثْه للشجر المكسور عزاءَ
إنه مفهوم الجزاء نفسه الذي نطقت به قصيدة شوقي:
بالأمس قد حلّيتَني بقصيدةٍ غرّاء تُحفَظ كاليد البيضاءِ
لكن نفس شاعرنا ما تلبث أن تستفيق على فداحة هذا الموقف الذي قبِل من خلاله تقمص دور أمير الشعراء في ذينك البيتين القصيرين اللذين يبدوان، بعد ذلك، وكأنهما صادران عن ذات أخذتها سِنة فلم تُدرك عِظم ما جنته على نفسها أثناء ذلك.
ينتبه الشاعر إلى ذلك فجأة، وكأنه قد استيقظ من غيبوبة أخذته إليها مجاراة الصديق في أحلامه، فينطق الرفض بصرخة مدوية يصدّق فيها الشاعر أوهامه ويسبح بعدها في بحر الغيب، ليصور لنفسه عالما خاليا من هذا الصديق حين يُخلّفه غارقا في أشجانه، أشبه ما يكون "بالشجر المكسور" بعد أن يغادر هذا الطائر أفنانه. هذا ما يقوله الشاعر:
ويلي... يا هذا الطائر بين جدائل أروى ويلي... إن بايعني الشعر بهذي الكرمة، أو بايعكَ النيل الدافق بين تخوم أبي الهول القابع بين شجيرات الأطلس... ويلي. ما تصنع مملكتي إن جاءت أرجاءَ القصر وفودُ الطير ولم تكُ أنت عليها تاجا...
إن مبايعة الشعر للشاعر ومبايعة النيل للصديق تعني تقمص دوري أمير الشعراء وشاعر النيل، دوري الراثي والمرثي. وهو ما يرفضه الرباوي، بل يجزع منه، بعد أن أوهمنا مطلع القصيدة بنزوله عند رجاء الصديق: "هل أكون حافظا وتقف أنت مني موقف شوقي؟".
هل هي الحيرة التي بثها "الصديق" في قلب "أخيه" بتلك الرسالة المفعمة بالدلالات؟
يلتمس الشاعر مخرجا من حيرته، فلا يستمده إلا من ضعفه وذبول عمره
صاحبتُ الشِّعر فشيّبني
هل شيّب كل الشعراءِ؟
إنها صورة الشاعر الواهن الحزين الذي شيبه الشعر وشيبته العوادي. وفي مقابل ذلك يتجلى الصديق في صورة مختلفة تسمح له بنظم الرثاء: "فكن أنت الطلح"، مع ما يرمز له هذا الشجر الصحراوي من قوة وطول عمر وتحدّ لقساوة الظروف. لهذا يعلنها الشاعر في استحضار صريح لمرثية شوقي:
لستُ أميرا لكني
أوثر أن تكتب أنت رثائي
إنه استحضار لمطلع مرثية شوقي: "قد كنتُ أوثرُ أن تقول رثائي"
فهل وجد الشاعر مخرجا من حيرته؟
يبدو الأمر كذلك، إذ يشرع في صياغة الرثاء على لسان الصديق متوهما، أو موهما نفسه بتلبيته لندائه:
اكتب يا من ينصف
بالشعر الأحياءَ من الأحياءِ:
غنى للغرباء نشيدا
ورحلْ
غنّى لصعاليك رباط الفتح صباحا
ورحلْ
آخِر فرسان سجلماسةَ
في شرخ العمر رحلْ
هو ما يتمناه الشاعر: أن يكون مرثيا لا راثيا. لكن من الذي يصوغ الرثاء هنا؟ أليس الشاعر نفسه؟ أليس هو الراثي والمرثي؟ إنه رثاء النفس. وفي رثاء النفس يحتفي الشاعر ببطولته وفروسيته. أوَ ليست قيمة الفروسية (آخر فرسان سجلماسة) استحضارا لفروسية شاعر بني الحارث حين رثائه لنفسه؟:
وكنت إذا ما الخيلُ شمَّصها القنا لبيقا بتصريف القناة بنانيا
وعاديةٍ سومَ الجراد وزَعتُها بكفِّي، وقد أنحَوْا إليّ العواليا
أو لفروسية مالك بن الريب:
وقد كنتُ عَطّافا إذا الخيلُ أدبرتْ سريعا لدى الهيجا إلى من دعانيا
وأمام حضور هذه القيمة نجد أنفسنا مرة أخرى بإزاء تقابل بين الشاعرين حسن الأمراني ومحمد علي الرباوي، وبين أمير الشعراء وشاعر النيل: أليست مبايعة حافظ لشوقي إقرارا له بفروسية الشعر؟ لننظر مثلا في بعض ما يقوله حافظ في مبايعة شوقي:
فقل للذي يبغي مداه منافسا طمِعتَ، لعَمرُ الله، في غير مَطمعِ
فذلك سيفٌ سلّه الله قاطعٌ فأيّان يضربْ يَفْرِ دِرعا ويقطعِ
يبدو أن هذا شبيه بما كتبه الأمراني في حق الرباوي أيضا حين أقرّ له بفروسية الشعر ضمن "خادم الكلمات". فهل وجد الشاعر بعد كل هذا مخرجا من حيرته؟
لا يبدو الأمر كذلك. فآخر فرسان سجلماسة لم يستطع التخلص من طيف ذاك الرجاء الذي كبله به الصديق حين كتب إليه: "هل أكون حافظا وتقف أنت مني موقف شوقي؟". يبدو هذا الرجاء وكأنه قيد يستسلم الشاعر لسلطته، أو وجع يسري في نفسه الحزينة، فيضاعف حيرتها وآلامها. يبدو الشاعر، بعد ذاك المقطع القصير الذي رثى به نفسه، مستسلما لأمر "رحيل الطير" قبله:
ما ضرَّ لو اَنّ رحيل الطير تأخّر حتى تكتب مرثاةً تنشر جمرتَها في بعض شوارع وجدةَ أو بين أزقة أسريرَ المظلمة العطشى؟
إنها المعاناة مرة أخرى. معاناة الرحيل إلى المستقبل، حيث يستسلم الشاعر لشبح فقدانه لصديق العمر وبقائه هو وحيدا يكتوي بجمرة حبه له وسكب دموعه عليه. وهو فقدان يخلف من ورائه ظلاما دامسا يعم قصر أسرير، تلك القرية القابعة في جنوب المغرب، والتي رأى فيها الشاعر ذات يوم نور الحياة الذي تحوّل الآن إلى ظلام دامس يعم الكون "أسرير المظلمة العطشى". ويذكرنا هذا الظلام والجدب الذي يصيب القرية بذاك الذي أصاب بابل في قصيدة "سربروس في بابل" لبدر شاكر السياب، حين مقتل تموز، إله الخصب والحياة، لتتحول المدينة إلى خراب يسبح في ظلام حالك.
وفجأة يتحول الصديق من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع "حب يربطني بصحابي"، ليدخل في زمرتهم، وقد تحول رحيلهم جميعا من شبح مخيف إلى حقيقة مفجعة:
ليتهمو قبل رحيلي ما رحلوا... ليتهموا وأنا بالثوب الأبيض ملفوف بدموعهمو غسلوني... ليتهمو في شعرهمو دفنوني... ليتهمو... ليتهمو...
أهي حقيقة مفجعة تلك التي تخيلها الشاعر؟
يستيقظ الشاعر من كابوس الفقد ليعود إلى انتفاضته الأولى معتذرا عن رجاء صديق العمر :
يا صاحبي المسكونَ بهَزّات الآهِ، ما أنا للشعر أميرٌ... ما أنت لهذا النيل أمير
كيف تحوّل الصديق فجأة من طائر راحل إلى صاحب مقيم (يا صاحبي)؟ كيف تحول من شجر باسق يطاول السماء، ومن طلح يستعصي على قساوة الصحراء إلى كائن ضعيف يقاسم الشاعرَ آلامه وأشجانه (صاحبي المسكونَ بهَزّات الآهِ)؟
إنها وحدة المعاناة. هذا ما قرره الشاعر في المقطع الأخير من قصيدته:
والنيل الأزرق بلل شِعرك، خبأ في قلبيك سِلالا من أشجان البؤساء
هي وحدة المعاناة التي تمهد لوحدة المصير. فما يليق برفيق العمر أن يعلن الرحيل وحده مخلفا "أخاه" ورفيق عمره خلفه يجتر أحزانه. تأتي نبوءة قلب الشاعر الحزين لتعلن رحيل الأخوين معًا بعد تحول جسديهما إلى ما يشبه الحطام:
وهذا القلب الرابض في الطرف الأيمن من جسدي الهش يحدّثني اللحظةَ عن هذي الناقة وهي بلون الآه تحمل في قرنيها الخضراءَ تدك الغبراءَ بأجنحةٍ بيضاءَ وعيناها المغمضتان على الجسدين الهشين
ثم فجأة تتحول النبوءة إلى يقين:
ستحمل في هودجها هذين الجسدين الهشين
لكن هيهات لهذه النفس المسكونة بالأشجان أن تذوق للراحة طعما، حتى بعد تلك النبوءة التي تبدد عنها شبح الغربة والوحدة، وهذا اليقين الذي أشرق في أرجائها كفلق الصبح. إذ من سيبكي الشاعرين بعد رحيلهما معًا؟ ينتصب السؤال في شكل صرخة أليمة في نهاية القصيدة:
فمن حين يبللنا الصمت سيبكينا؟ من يبكينا؟ من؟.. من؟..
إنه إحساس بالضياع، شبيه بذاك الذي انتاب مالك بن الريب حين قضى وحيدا فلم يجد من يبكيه سوى سيفه ورمحه وفرسه، فكان له أن يبكي نفسه ويرثيها. لكن مالكا كان له مع ذلك عزاء في كثرة بواكيه من النساء:
تذكّرتُ من يبكي عليّ فلم أجد سوى السيفِ والرمحِ الرُّدَينِيِّ باكيا
وأشقر محبوكا يجرُّ عنانه إلى الماء لم يترك له الدهرُ ساقيا
ولكن بأكناف السمينة نِسوة عزيزٌ عليهن العشيةَ ما بيا
إلا أن الرباوي لا عزاء له في هذه القصيدة. فهي تنتهي بهذا التساؤل المحير: "من حين يبللنا الصمتُ سيبكينا؟ من يبكينا؟" تاركا نفسه تهيم في حيرتها القاتلة.
البحث عن إكسير الحياة
هكذا تنمو القصيدة عبر هذا الصراع النفسي المرير لتنتهي إلى رثاء للنفس، دون أن تجد في هذا الرثاء خلاصها. فمن خلف هذا السؤال المحيّر، الذي يحمل في طياته جمر العذاب، تطل حقيقة الموت القاسية. هو الموت الذي استشعر امرؤ القيس قديما حتميته فراح يردد بنفس يملأها إحساس بعبث الوجود:
أرى طول الحياة وإن تأنَّى تُصَيِّره الدهورُ إلى انقلابِ
وأن الموسِعين وما أفادوا وغيرَ الموسِعين إلى ذهابِ
أرانا موضِعين لحتمِ غيبٍ ونُسحَر بالطعامِ وبالشراب
قبل أن يشرع في رثاء نفسه:
إلى عِرق الثرى وشجتْ عروقي وهذا الموتُ يسلبني شبابي
ونفسي سوف يسلبها وجِرمي ويُلحِقُني وشيكا بالترابِ
لكن شتان بين من يرى منتهى مصيره في التراب، وبين من يرى نفسه محمولا في هودج ناقة ذات أجنحة بيضاء تشق به أرجاء السماء.
غير أنه، مع ذلك، الموتُ الذي لا مفر منه. إنها الحقيقة التي يستسلم الشاعر لقساوتها، لأنه لا يملك من ذلك بدّا:
غرس الناسُ قديما. غرسوا قبل يجيءَ الأرضَ شتاءُ
غرسوا وبنَوا. هل غرسٌ دامَ وهل دام اليومَ بناءُ؟
يحاول الشاعر مقاومة هذا المصير المفجع، فينطلق في رحلة ما أشبهها برحلة الملك السومري جلجامش، الذي جاب أرجاء الأرض بحثا عن إكسير الحياة. وليس إكسير الحياة في هذا المقام الشعري غير الرثاء الذي يهب الشاعر خلود الذكر. أليس في رجاء الشاعر حسن الأمراني أيضا بحثا عن الخلود حين كتب إلى الشاعر قائلا: "هل أكون حافظا وتقف أنت مني موقف شوقي؟"
إذا كان الأمر كذلك، فإن الرباوي ليس بأقل منه رغبة في سحر هذا الخلود. لهذا تأتي القصيدة تعبيرا عن هذه الرغبة العارمة التي تتحدى الفَناء بالتماس الرثاء، فلا يجد غير صديقه ليبثه هذا الرجاء:
فكن أنت الطلح عوادينا أشباهٌ... واحفظ ذِكْري بدموع من ضلعيك
هي هذه الرغبة التي حركت نفس أمير الشعراء ليقول في رثائه لشاعر النيل: "قد كنتُ أوثر أن تقول رثائي"، ليلتقط منه الرباوي ذلك في قصيدته هذه المهداة إلى صديقه : "أوثر أن تكتب أنت رثائي". وعندما يحلق في سماء الحلم مستشرفا زمنا قادما، يرثيه فيه هذا الصديق، يصير الشعر واهبا للحياة بعد الموت:
يومئذ تُزهِر سوسنةٌ في جوفي وتظل تُفاخِر كل الزهر لأن جميلَ الشِّعر بكاها... ثُمَّةَ أحياها
لهذا إذن يتحول عجُز بيت شوقي "يا منصف الموتى من الأحياءِ" ليصير: "يا من ينصف بالشعر الأحياء من الأحياء"، لأنه لا موت بعد الرثاء الذي له مفعول الإحياء.
إنها وسيلة الشاعر المتاحةُ لتحدي هذا القدَر الذي لا مفر منه. هو حلم بما هو ممكن. إذ ما أبعده عن أمنية الخلود عند ذلك الشاعر القديم الذي لم يجد أمامه سبيلا إلا أن يطلب ما لا يُدرَك، ليتحول إلى حجر يستعصي على الحوادث:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجَرٌ تنبو الحوادث عنه وهو ملمومُ
فشتان بين من يَنشُد خلود الجسد الذي لا سبيل إليه، ومن ينشد تخليد الذِكر.
هذا هو سر الحسرة على فقد الأصحاب، حين يتحول الصديق إلى صيغة الجمع: هو الحرمان من الرثاء الذي يهَب الحياة للشاعر بعد موته:
ليتهمو قبل رحيلي ما رحلوا... ليتهموا وأنا بالثوب الأبيض ملفوف بدموعهمو غسلوني... ليتهمو في شعرهمو دفنوني
وهذا هو سر الحسرة التي تنتهي بها القصيدة بعد نبوءة قلب الشاعر بالرحيل المشترك: "فمن حين يبللنا الصمت سيبكينا؟"
هو، إذن، حب الخلود الذي لا يمحو تسليم القلب بحتمية القضاء الذي لا مردّ له.
تلك هي مرثية الشاعر محمد علي الرباوي: قصيدة الحزن الممض الذي ينشر غيومه السوداء على نفسه التي شاخت قبل الأوان، وقصيدة الذات الحائرة بين رثاء صديق العمر ورثاء النفس، وبين حب الخلود والشوق إلى الرحيل المشترك الذي يخلصه من شبح الوحدة المتربص ومن شبح الحزن القاتل، إن هو لم "يتسلق أجنحة الطير الراحل".
وبعد، فقد اختار الشاعران استلهام مواقف الرثاء والوفاء والفداء التي جمعت أمير الشعراء بشاعر النيل. وقد وُلد شوقي قبل حافظ بأربع سنوات عام 1868، وتوفي بعده بستة أشهر فقط عام 1932، بعد أن خلده بتلك المرثية التي سارت بذِكرها الركبان. وولد كل من محمد علي الرباوي وحسن الأمراني سنة 1949...
لكن الذي يبدو من قراءة هذه المرثية أن ما يجمع بين هؤلاء الشعراء هو أكثر من مجرد تشابه في التواريخ والأرقام.